من إصدارات المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان وبيروت بالتعاون مع اليونسكو في باريس أنجز الشاعر والمترجم العراقي المقيم في فرنسا كاظم جهاد الترجمة الجديدة الكاملة للعمل الشعري العالمي (الكوميديا الإلهية) للشاعر دانتي الغييري، ضم المجلد الذي جاء في 1036 صفحة من القطع المتوسط تصديرا عاما للعمل اتبعه المترجم بدراسة نقدية اعتمد فيها علي عدد من القراءات الكبري الموضوعة في دانتي وكوميدياه الإلهية من قبل عدد من النقاد والأدباء الكبار مثل (بورخيس، أنغارتي، ريسيه، جيرار، جاكوتيه... وغيرهم) وقد جاءت هذه الدراسة المعمقة في نحو 115 صفحة.

يقول كاظم جهاد عن هذا الجهد الهائل في كلمة الغلاف الأخير (ما برحت الكوميديا الإلهية لدانتي الغييري تستنطق الحداثة الشعرية العالمية وتثير في مختلف اللغات الترجمة تلو الأخرى. في هذا العمل الذي يعد من الملاحم الكبري والذي يتجاوز الملحمة إلي المأساة الشعرية تحتشد أنماط الخطاب ومستويات الكلام، فيتضافر السرد والحوار والفكر والمحاججة والاستعادة التاريخية والإشراق، ولكن هذا كله يظل عاملا تحت سيادة عنصر الغناء الذي تنعقد له الغلبة من بدء العمل الكبير الى منتهاه. في وفرة مهولة من التفاصيل المعمقة دائما بالانفعال الشعري يصف الشاعر أنا القصيدة نزوله في الجحيم ثم اختراقه المطهر صعودا الى الفردوس حيث يقابل الطوباويين والقديسين، وبينهم بياترشي نفسها:
حبيبته التي يمثل البحث عنها مهماز الرحلة وحافزها الأساس، والتي تعنف الشاعر علي غفلته الأولي ثم تحل له ألغاز السماء والكون وتكشف له عن مهمته التي سيعود من أجلها الى الأرض: مهمة شعرية بامتياز، ويقر دانتي نفسه أن عمله هذا قابل لقراءات متعددة: حرفية ورمزية، شعرية وامثولية (الغييورية) تعددية القراءات هذه تأخذ بها هذه الترجمة المصحوبة بمئات الحواشي، والمسبوقة بدراسة واسعة تعرض لأهم ما قاله كبار الشعراء والنقاد في عمل دانتي. علي أن النابض الأساس الذي يحكم هذه الترجمة هو إيقاع العمل المتوتر علي وجازة، والمتلاحق علي انسياب، والمنسكب في لغة تتراوح بين الفصاحة المطبوعة و لعثمة الإيطالية الوليدة يومذاك، والتي منحها دانتي جدارة الارتقاء إلي الكلاسيكية الشعرية لأول مرة).

يقول جهاد أيضا في تصديره لهذا العمل: لا يمكن بطبيعة الحال الاحاطة بالفعل الحق للكوميديا الإلهية، وخصوصا الجحيم من دون إحلالها في حياة مؤلفها وفي سياق عصره، فقد ولد دانتي الغييري في فلورنسة العام 1265 وتوفي في رافينا العام 1321 فكان شاعرا وسياسيا مخضرما شهد أحداث النصف الثاني من القرن الثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر وعاني بنفسه من أعنف آخر قرون العصر الوسيط المضطرم والممهد لعصر النهضة. كتب دانتي في صباه وشبابه عددا من القصائد الغنائية يتجلى فيها أثر التروبادور البروفنساليين أفضلها منبث في كتابه النثري الشعري فيتا نووفا أو الحياة الجديدة الذي يعبر فيه عن فقدان حبيبته بياتريشي التي فرقه عنها سوء تفاهم مبهم ثم اختطفها منه موت مبكر، وبعد فترة من اللهو كان ولا شك يتوخى النسيان راح يرتاد بعض الحلقات العلمية واللاهوتية كان بعضها يتداول فكر توماس الأكويني، البعض الآخر يتدارس الأثر الرشدي نسبة الى الفيلسوف الأندلسي ابن رشد والي نصوصه الشعرية الغنائية، وضع دانتي دراسات فلسفية وعلمية ولاهوتية وأدبية من أهمها كتبه (في الفصاحة العامة)، (في الملكية)، (المأدبة) وقد بقيت جميعها مبتورة لأنه كان يتناهبه النضال السياسي من جهة ونداء عمله الأساسي (الكوميديا الإلهية) من جهة ثانية.

هذا عمل من شأنه في اعتقادنا أن ينعش التجارب الشعرية العربية الجديدة شريطة أن يفطن القارئ لتعددية عناصره وألا يثبط من عزمه هذا التراوح الدائم في صلب طبيعته كعمل ملحمي بين السرد البسيط والهدير الشعري والحوار المأساوي والحجاج الفكري والاستنطاق الفلسفي والتناول التاريخي......، وبتقسيمه نشيده الكبير الى جحيم ومطهر و فردوس يمكن أن نري فيها مراحل ثلاثا ترمز للاختبار الإنساني بعامة (أي بإضافته المطهر الذي لم تقر به الكنيسة إلا مؤخرا)، فإن دانتي قد وسع حدود التجربة الإنسانية وفرض علي الفكر والمنطق الشعري والفلسفي إيقاعا ثلاثيا يتجاوز اختزالية المثنويات وبساطتها القسرية؟ وذا كان الجحيم يظل هو النشيد الأشهر والأكثر أثرا بين الأناشيد الثلاثة فسيري القارئ لدي قراءة الترجمة كاملة انّ المطهر والفردوس يتمتع كل منهما بخصوصية لافتة وينطوي علي عناصر ابتكارية وتجديدية نافذة.....، وكما فعل سلفي المرموق في ترجمة دانتي د. حسن عثمان فقد حرصت علي أن اكتب اسم صاحب (الإنياذة) الذي يختاره دانتي طيلة جزء الجحيم وحتى ما قبل نهاية المطهر هاديا وأبا روحيا. أقول: اكتبه علي هيأة فرجيليو بدل فرجيل المتأثرة بالنطق الفرنسي، فإن إيقاع المفردة فرجيليو بدا لي أكثر ملاءمة للصياغة الشعرية..

وحول اللغة التي ترجم منها هذا العمل يقول الشاعر كاظم جهاد: لقد حاولت الإفادة من تطور الترجمة والقصيدة العربيتين وتقريب الملحمة من إطارها الشعري الأصلي، وقد استأنست بقرب الإيطالية من كل من الفرنسية والأسبانية اللتين اعتدت القراءة فيهما منذ سنوات عديدة..، والي جانب النص الأصلي الذي بقي يشكل مرجعي الأساس من ناحية الإيقاع وملاذي الأخير أمام كل أشكال أو إبهام قابلت بين ترجمات فرنسية عديدة في أولها الترجمة الأحدث التي وضعتها الشاعرة الفرنسية الطليعية والأستاذة في جامعة روما جاكلين ريسيه والتي صدرت في ثلاثة أجزاء بين الأعوام 1985 و1990.

***

من أجواء النشيد الأول (الجحيم)inferno نقرأ عددا من المقاطع الشعرية التي ترجمها جهاد:


ثم التفتّ اليهما وتكلمت وبدأت:
يا فرانتشيسكا إن عذابك ليحزنني
وبالرأفة يغمرني الى حدّ البكاء
لكن أخبريني: في عهد التنهدات العذبة
كيف وبأية علامة أتاح لكما الحب
أت تعرفا رغباتكما التي ربما كانت يخالطها الشك
فأجابت: إنه لا ألم أشد
من تذكر عهود الهناءة
في أيام البؤس أستاذك يعرف هذا
لكن إن كانت تحدوك كل هذه الرغبة
في معرفة أصل محبتنا
فسأفعل كمن يبكي الأوان ذاته
كنا علي سبيل التروح نقرأ ذات يوم
عن (لانسلو) وكيف تلبسه العشق:
كنا وحيدين لا تخامرنا ريبة.

مرارا جعلت القراءة أعيننا تتلاقي
ومرارا أشحبت لون وجهينا
لكن ما غلبنا هو أمر واحد
فعندما قرأنا عن الابتسامة المتشهاة
وهي يقبلها مثل ذلك العشيق
قام هذا الذي لم يعد لي منه فكاك
وقبلني علي الفم مرتجفا بكيانه كله
ذلك الكتاب ومؤلفه كانا لنا بمثابة(غالهو)
وفي ذلك اليوم لم نمض في القراءة أبعد
وبينا كانت إحدى الروحين تكلمنا هكذا
طفقت الأخرى تبكي بمرارة
بحيث غشي علي من الشفقة كأنني أموت
وخررت كما يخر جسم ميت.

القدس العربي
2002/12/21


إقرأ أيضاً:

أقرأ أيضاً: