السوري محمد عضيمة في ديوانه الجديد "شكراً للموت"

عابد إسماعيل
(سوريا)

العودة إلى بيت الميتافيزيقيايستمرّ الشاعر السوري محمد عضيمة، في ديوانه الجديد "شكراً للموت"، الصادر عن دار التكوين في دمشق (2005)، وهو الحادي عشر له، بتوجيه نقدٍ منظّم ومدروس لمفهوم "الشعرية" كما يطرحه التقليدُ المؤسّس على رؤيا ما ورائية، عبر تهميش دور البلاغة، وإقصاء الغنائية الذاتية، والقضاء، إن أمكن، على سياسة العمق، أو تعددية المعنى، بإبقاء الدوالّ طافية على سطح الخطاب الشعري، خطابه، كأنما في محاولة مقصودة لتفريغ القصيدة من "شعريتها"، ورمي مجازاتها جانباً، والتعاطي مع جملٍ نثرية خالصة، سُحِبَ منها عصبُها البلاغي، وذلك من خلال الاحتفال بالملفوظ، والشفوي، والتقريري، والتمسّك بجسدِ العبارة، لا عقلها أو قلبها.
هنا يعود عضيمة إلى دائرة القصيدة - الصوت، التي تستقطبُ الأنا المتكلمة في تشظّيها إلى أصوات عدة، وليس الأنا المكتوبة، المنقوشة في سياق الإشارات الدالة، وبذلك ينضمّ أيضاً، من دون أن يدري، إلى دائرة الميتافيزيقيا التي ابتدأ بها أصلاً إنتاجه الشعري، متأثّراً بأدونيس وصوفية النفّري. وعضيمة يشنّ حرباً لا هوادة فيها، في مقدماته النقدية ومختاراته الشعرية، على ما يسمى شعرية الرؤيا، أسلوباً ومتناً، منادياً بضرورة إخراج الشعر من كهف أفلاطون، وضرورة تعريضه لضوء الأشياء اليومية والحسّية. وهذه رؤية تقوم على احترام الظاهر لا الباطن، والتنبّه لكل ما تبثّه الحواس، وما تمليه المرئيات: "لا بدّ من أن تجد سبباً مقنعاً للقشور،/ ليس لأنكَ من قشورٍ وحسب / بل لأنّ القشور دوماً على حقّ". ص (98). مع ذلك، نجد أن المقطع الافتتاحي في الديوان يشير إلى استحالة هذه الرغبة. فالظاهر والباطن وجهان لمعضلة واحدة، إذ يصعب ردم الهوة بين المحسوس والمجرد، القريب والبعيد، فالسّماء تظل بعيدة ونائية مهما حاول الشعر تقريبها بمنظار المجاز: "يبدو أن السماء بعيدةٌ وبعيدة جداً / وعلائم البعدِ على وجهِها / ليس إلاّ". ص (6). ويبدو أيضاً أن الشعر، قديماً وحديثاً، استفاد من تلك الهوة أو الحفرة، فكان كل مسعى للتقريب أو المطابقة، يصطدم بحائط اللغة، لأنها وسيلة التعبير الأكثر مكراً، توهمنا بالقرب فيما تعزّز جوهرياً النأي والفراق، أو ما تسمّيه مدرسة التفكيك، الاختلاف: "لا بدّ أن تحفرَ حفرةً لأخيكَ / ولا بدّ من أن تحفرَها بصدقٍ خفيفٍ، خفيفٍ / لأنّ الحفرةَ دوماً على حقّ". ص (76). ويبدو أن عضيمة يتعمّد التشكيك في صدقية المعاني، وإحالاتها الأسطورية والدينية والأخلاقية، سعياً منه للاكتفاء بالقشور، وتغييب اللبّ.
إن سعي عضيمة هذا يتركّز على تنظيف المفردة من حمولاتها البلاغية البائدة، معتمداً على كلمة بلا ذاكرة، أو كلمة بذاكرة مهشّمة، يتم زجّها في سياقات جديدة، تصدم القارئ مراراً، وتصدم نفسها أيضاً، كونها تتخفّف من كل معنى "مألوف"، وتنقلب على عبوس الخطاب الأدبي، الذي يراه عضيمه بالضرورة خطاباً مرتبطاً بالقمع، والعقل الشمولي، والدوران المفرغ في حلقة الشعر الأيديولوجي. ثمّ إن عضيمة يذهب إلى أبعد من ذلك، ويدين الشعرية العربية، بخاصة الموزونة والمقفاة منها، متهماً إياها بالتواطؤ مع خطاب السلطة الديني والسياسي، وبأنها تتقاطع مع مرتكزات العقل الغيبي، وهذا يطاول، بحسب رأيه، الكثير من قصائد النثر أيضاً، التي يمكن أن تأتي موزونة على طريقتها، عمودية الرؤيا والمعاني، من حيث اتكائها على خطاب تبشيري كئيب جوهره الولولة وكره الفرح، والنظر إلى العالم مكاناً للخطيئة فحسب.
ولأن عضيمة لا يطيق النواح، ولا البكائيات، ويعتبر الحزن بلوى الشعر، قام بإعداد مختارات من الشعر العربي الحديث، جوهرها إبراز "الطرافة" أو لحظات الفرح، مستخدماً مسطرته النقدية والذوقية، فأصدر سلسلة "ديوان الشعر العربي الجديد"، عن الشعر العراقي والسوري واللبناني وشبه الجزيرة العربية، معتمداً على الشظية النثرية السريعة، المقتطعة من سياقها العام، فجاءت المقاطع المختارة "متشابهة" روحاً وشكلاً، على رغم اختلاف تجارب أصحابها وتباين أمزجتهم، ذلك أن عضيمة اكتفى بالمقطع السّاخر والطريف، وأقصى كل ما يمكن أن يزعزع ثقته بالعالم المرئي والملموس، فهو مأخوذٌ بفلسفة الأشياء التي لا تدل إلا على نفسها، أو الأشياء التي لا أشياء تقع خارجها، والتي لا تفسّرها سوى أشياء مثلها، تماماً على طريقة شعراء الهايكو. فالسماء يجب أن تكون حاضرة هنا والآن، وليس في الذهن أو العقل. وعضيمة، في هذا الديوان، كما في دواوين سابقة، يركّز على شيئية الأشياء، وضرورة خلوها من كل دلالة ما ورائية، كأن يتحدث عن الثلج بصفته ثلجاً صرفاً، ولا شيء آخر: "يسقطُ الثلجُ وحيداً / وليس من أوصافِهِ / سوى البرد والبياض". ص (157). وفي مقطع آخر مشابه، يركنُ إلى رؤيا حسية محضة، لا ترى أبعد من "الشيء"، ولا تجد متعةً خارج دائرة الآن وهنا: "وراء الأكمةِ لا شيء / سوى / نبتةٍ وحدها / ووحدها بكلّ هدوء". ص (125). والطموح هنا يقوم على تقديم رؤية فيزيقية، براغماتية، تسعى إلى تفسير الشيء بالشيء، أو الماء بالماء، من دون التفكير بتاتاً بما يكمن خلف المعاني. ولا بد من الإشارة إلى أن "راديكالية" محمد عضيمة في الدعوة إلى حساسية شعرية جديدة تتجاوز أفق القصيدة العربية، وتناقض جذرياً تجربة جيل الرواد، ما أثار حفيظة نقاد كثر فاتهموه بالهرطقة النقدية، والاستسلام للهذيان الشخصي، واستيراد أفكارٍ "يابانية" لا يمكنها أن تعيش خارج النظامين، الثيولوجي والميثولوجي، للكتاب الياباني المقدس، المعروف بالكوجيكي، والذي قام محمد عضيمة نفسه بنقله إلى العربية، مستنداً إلى الترجمة الفرنسية.
غير أن عضيمة يصرّ بعناد على إحداث الصدمة، وإن كان ذلك على حساب "سمعته" الشعرية، حيث يراهن على قارئ مغامر يحب فرح النكتة، ويشاطره الضحك من سطر إلى سطر، من دون الالتفات إلى معيار القبول الشعري، وإن بأدنى درجاته. ولا بد من أنه يراهنُ أيضاً على أن الشعر يكمن في المنسيات، وفي هذا الهروب المستمر من المعاني المطروقة واللغة المألوفة، والاستعارات المستعملة حدّ الاهتراء. وهذا ما جعله، مثلاً، يفكّر بإقصاء الحزن، أو التحايل عليه، مستنداً إلى المفارقة التي تعزز السّخرية، وباحثاً عن الطرافة والابتسامة، وعن الجملة الشفوية السريعة التي تتعمّدُ تكسير الجهامة، وتذويب "الرصانة"، كما في قوله: "ستوب يا أخي / ستوب / لا يمكن أن تصرخ دوماً هكذا ... هكذا دوماً / وبلا مقدمات". ص (43). مع ذلك، نسمع صرخات مكبوتة تتردد في أكثر من قصيدة، تشي بكآبة مكتومة، رغم أنف الفرح المزعوم، ما يوقع الشاعر في مطبّ النسق الذي يحاول تقويضه،كما في هذا المقطع: "أصمتُ / وأصغي إلى الصراخ في داخلي / من رجعة الشعورِ / بالألم / مفاصلي والشوق والعدم." ص (139)، أو عندما يستخدم ترادفاً كلاسيكياً لوصف الليل المرتبط، في وعيه التراثي، بالخوف والترقّب: "حتى الليل / يخافُ من الليل/ في هذا الليل، حتّى الليل". ص (66). وكأنّ بحث عضيمة عن أفق معرفي نظيف، خالٍ من الأنساق المعرفية السابقة، وعن فرحٍ لا يخالجه حزن، ليس سوى وهم كبير، بل ويمثل بحد ذاته شكلاً من أشكال تكريس نسق جديد لا يقل وطأةً وعبوساً عن سابقه. وليس أدل على ذلك من الجملة التي يختتم بها عضيمة ديوانه، وهي بمثابة التوقيع الشخصي الذي يضمر وجدانية كامنة، تغمز من قناة الفرح، وتكشف عن كآبة مستديمة يمكن إعرابها بجملة واحدة تختتم الديوان: "ولدٌ جاثٍ يتفوّهُ بالحمّى". ص (167). ويجب ألا ننسى أن عنوان الديوان "شكراً للموت" يحيل بوضوح إلى لغز الميتافيزيقيا الأول، وما انشغال الشاعر به سوى وقوع في شرك شعرية الرؤيا التي ترى في الموت رمزاً أزلياً للتجدد والانبعاث: "شكراً للموت / الذي يمحو كل شيء / ليبدأ كلّ شيء من جديد." ص (90). هنا تؤكّد اللغةُ الشعرية إشكاليتها من حيث كونها محكومة باختلافها، وافتراق دوالها، ناهيك بأنها مجازية في بنيتها ومنطقها، وهذا ما يجعلها تعتاش على الانزياح، وتعمل ضدّ "نياتها" المعلنة. فالاستعارة تظل مسكونة بنقائضها، وجوهرها الخفي عصيانها المستمرّ، إذ سرعان ما تنقلب على مؤلفها، وتحيل الواقع بلاغة، والبلاغة واقعاً، في لعبة مرايا مجازية لا تنتهي.
في شكرِ عضيمة للموت، إذاً، اعترافٌ مبطّن باستحالة المسعى الشفوي الأول، المتمثّل باحترام الكلمة - الصوت أو اللوغوس، فالكتابة انخراطٌ قدري بالكلمة - الإشارة، ومهما حاول الشاعر التركيز على "القشور"، لا بدّ من أن تهبّ المعاني في وجهِه، وترجعهُ إلى حقيقة الشعر الأزلية القائمة على "المعنى" ودلالاته، واستبصار خلجات الذات. وعضيمة، في ديوانه، لحسن الحظّ، مصابٌ بـ"داء الرجوع"، ص (41). إلى المعنى، يقع في فخّ ما كان يحاول القفز فوقه في دواوينه السابقة، مائلاً باتجاه نثر حزين النبرة، وجداني اللمسة، ذاتي الصوت، حتى في أكثر المقاطع حياديةً أو هزلاً. فالهروب من الكآبة تشديد على حضورها، والفرار من المعنى ترسيخ له، وتقديمُ الشكر للموت تواطؤ مع آلام الميتافيزيقيا، في السرّ كما في العلن.

الحياة
2005/04/7