زهير كاظم عبود
(العراق/السويد)

زهير كاظم عبودللشاعر موسى حوامدة لغة يتميز بها عن العديد من شعراء جيله ، ذلك أن اعتماده على الجمل البسيطة والقادرة على الطفو فوق موج البحر لتصل الى شواطئ الذائقة بعد ان لفحتها الشمس متفتحة وحاملة براعمها معها لتستقر في الذاكرة حاملة معها طعمها ومعانيها .
وليس فقط اندهاشه بجهة البحر مايشده ، إذ يتمتع الشاعر حوامدة بامتلاء ذاكرته بأماكن تجول في مخيلته وتستقر داخل أعماق روحه تنام كما القطط ، لكنها تظهر عند أول استفزاز للمشاعر ، وتندس بين أشعاره فتبدو أماكنها أشارات ثابتة وعلامات في ضمير الشاعر ، مخيم بلاطة قرب نابلس وعين سارة والدهيشــة وطوباس والسموع الفلسطينية وعمان التي تتربع في قلبه كشريان أبهر جميعها أمكنة مضيئة في روح الحوامدة .

( يمشي البحر الى غرفته )
يحمل وردة في جيب معطفه
يمشط شعر الساحل
يقبل وجه حبيبته
ليس للبحر زوجة تغار عليه
او صديقة تلعق سرته ،
ليس للبحر وطن يفسد لذته
ولا أعداء يتآمرون عليه
( أو مخبرون يتعقبون همساته )

الميزة التي يمكن ان نعرفها عن الشاعر موسى حوامدة أنه ينقل أحاسيسه ضمن أبيات القصائد ، يتوزع معها روحاً ويتشظى بينها فيخلط أحاسيسه بكلمات القصيدة ، يحاول أن يصنع عجينة مليئة بالكلمات المتخمة بالمشاعر ، وتشعر انه موجود في كل الأبيات ، يندس وسطها ، أو يكمن بين سطورها ، غير انه يعلن بوضوح ماذا يريد ان يقول :

ومن ثلجي أتحلل
أقلعت عن شرب المرارة فوجدتها في حلقي
ليس لي وطن بعدك ياحبيبي
جسدي مليء بالطلقات
لم أسو حقلي بعد
غريبة عني حلب
أريد ان اكسر رأس الزمان

وغيرها من الإرهاصات التي يشير بها الشاعر الى كون القصيدة جزء من محنة روحة التي تنتقل من جهة القلب الى جهة البحر ، غير أنه وبمهارة من يتقن التلاعب بالكلمات يتمكن من أن يجعلها تطفو فوق شيء كأنه المشاعر أو كأنه التمنيات الشفافة أو ربما هو بوح الروح في لحظة الاعتراف المقدس ، غير ان لها قدرة الطفو وحمل القصيدة سالمة حتى تصل القلب .
وفي كلمات الشاعر موسى حوامدة تشعر بحرقة الوطن ، وبعار المخيم ومكابدات الفقراء والمحروقين في الزمن البارد ، ومعاناة الانسان ، وذباب الفضيلة والشعارات التي ماطردت الذباب واللغة التي ألفناها أو التي لم نألفها ، غير أن الخمرة كانت ملاذاً لسكون الكلام وسكوت المباح ، لكن حرقته لم تزل من جهة القلب أو من جهة البحر واحدة لايوقفها الحدود ولا الحواجز ولا كل الموانئ التي لم تتوقف بها سفائنه .

( ذبلت شجرة المشمش )
ذبلت اشجار الدار
الدار التي لم ابنها بعد
( في بلدتي البعيدة . )
( لاتبني العصافير أعشاشها فوق سرو المخيم )
ليس للمخيم سرو أو عصافير
في أدراج الثلاجات
في توابيت الشهداء
(متسع للطيور . )

وهكذا نجد الضوء يشع من أصابع ( أيمان حجو ) ، ولمن لايعرف أيمان عليه ان يتعرف على طيور السنونو وأزهار القداح في اول الربيع ، وأيمان التي جاهدت قبل ان تفك القماط ، لم تكن سوى رضيعة من أهل فلسطين كان لابد ان تصلها المثرمة ، وان تعانق جسدها الغض المبلول بحليب الأم طلقة عاهرة ، فتحيل البلل الأبيض الى دم قاني وابتسامة صمت أبدية رسمتها احتجاجا على علم الأمم المتمدنة الذي كان يرفرف حينها فوق سماء العروبة .

( يابس شجر الجنة )
وطري معول الفلسطيني
يابس شجر الحرية
وطري إصبع الشهيد
طري
لايقوي على تحمل الضماد
(طري مبضع الحرية ! )

يسور كلمات قصائده بحنين موجع وتبدو شهقاته في الكلمات واضحة ( او بنيت الحجارة فوق جسدي ، لو شقت الشوارع صدري ، سور على قميص الشهيد ، بعد ألف وقرنين قادمين ، نبارك للفجيعة ) .
ففي قصيدة أبارك لك الفجيعة يستطيع الحوامدة أن يحول لنا بياناً سياسياً الى قصيدة لها معالم البيان التحريضي ، يسطر لك الفجيعة والمحنة والفكرة والفتنة واللعنة ويعبر بك عازفاً ناياً ليس من الوهم ولامن شجر يابس قابل للكسر والانحناء ، والنمل الذي ينقل الحنطة والزوان ومخاتلة الموتى ، ثم يجتمع بنا في خطبة الجمعة والحقول التي لم تزل تزرع الحب والحنطة والشمس التي لم تأفل ، ولازاورت ذات اليمين وذات الشمال ، والقلب الذي استحال الى عصا يتوكأ عليها أمام قطعان الظلام ، لكنه يعود يردد مجد المتنبي يحمل عار أمريء القيس بصمت غريب في الزمن الغريب .
وللبحر موجاته وسكونه وهيجانه وحديثة الذي يتحدث به مع موسى حوامدة ، فيدخل في تلافيف روحه ، مرة من جهة العقل ، ومرة من جهة القلب ، ومرة اخرى من جهة البحر .

( بعيدة عني حلب )
واللاذقية لم تعرفني
قلت : يفعل البحر أكثر في ساحله ،
وحين عدت الى حمص
كانت بانياس تلوح في البعيد
بينا شاطئها يأسى
ويأخذ على الموج بعض التفاعيل ؟؟ )
( ذاهباً باتجاه البحر )
كانت الريح تضرب ( باب الشمس )
وعلى مقربة من أنين الموج
شاهدت جثتي تسير بلا كفن
أدرت وجهي للسماء
كان طلاء البحر قد أنشب ألوانه في جسد الفضاء
وبدا الفراغ البعيد
شاهداً على رثاء روحي
روحي التي غادرت منزلها
( تحلق بحثا عن سمت جديد )

يحلق حوامدة في الصورة التي تجسدها القصيدة ، ويتمكن بقدرة المبدع أن يجعل الصورة قبل القصيدة فيضع موضوعه قبل مشروع القصيدة ، وحين ينهي قصيدته يتبقى له الصورة التي ربما تصلح للحكايا ، وهو يعطي للقصيدة نكهة وميزة إذ تشعر بطعم ملوحة البحر وينعشك رذاذ البحر حين يشعر أنك تفاعلت مع موضوعة القصيدة ، وحين تسكن روحه المفعمة بالحزن يعود بك الى لجة البحر .

(أسى على وجه البحر.....
هيئة البحر توحي بالندم .....
الرجل الذي لايحمل البحر في صدره ....
رشحتك عروسا للبحر .....
اسرق من ماء البحر كل يوم حوضا .....)

والمجموعة الشعرية التي أطلق عليها الحوامدة ( من جهة البحر ) من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2004 - عمان ، وتحتوي على 14 قصيدة متنوعة ، وتعد آخر نتاجات الشاعر موسى حوامدة بعد شغب -عمان 94 ، وتزدانين سماء وبساتين - عمان 98 ، وشجري أعلى - بيروت 99 ، وأسفار موسى - بيروت 2002 .
المجموعة الأخيرة لموسى حوامدة تشكل قصائد جديدة استعمل فيها الشاعر ليس فقط قدرته على الإبهار والتميز ، وإنما استعمل لغته المتميزة بالبساطة والوضوح ، متمكناً من إيصال مايريد بيسر وسهولة الى مستويات متباينة من القراء ، ولعل موسى حوامدة ينهج هذا دون قصد ، فكل همه أن يوصل القصيدة طافية فوق مياه البحر بسلام ، ومالحة كطعم البحر حتى لاتكون باهتة .
موسى حوامدة يتألق من جديد في مجموعته الأخيرة ، ويخطو باتجاه الأمام خطوات واثقة ورزينة وقوية يسجل قدرة على النظم والتشكيل والصور المختلفة التي تنم عن خيالية وصناعة متميزة .