محمد الأمين في ديوانه الأول

محمد الأمين صور شعرية تلامس الحكمة، وتقترب من القول المأثور
يُشيِّد محمد الأمين كينونة نصه الشعري من شرارة وجدانية قد تفضي إلى حفلة ألعاب نارية، أو من ومضة مفاجئة قد تؤدي إلى حريق هائل يمتد إلى قلب الغابة ليربك إيقاعها اليومي المألوف، ويعرّي أسرارها، ويكشف عن دفائنها المطمورة في عتمة الأرض، أو يفضح خباياها اللائذة في أفياء المصادفات التي أبدعتها أنامل الطبيعة في أويقات تأججها، وتوهجها الإحتفائي بمعطيات جمالها الذي لا تستطع أن تفسره إلا " كمن يفسِّر الماء بعد الجهد بالماء ".
قصيدة محمد الأمين مقرونة بخالقها الذي لا يرتكن إلى التهويمات اللغوية، والشطَحَات العابرة التي تلتمع كما البرق الخُلَّب لتموت غِبَّ الإنتهاء من قراءتها مكتفية بالإعجاب الخاطف الذي لا يعمِّر طويلاً، وإنما هي قصيدة متناسلة تقول أشياء كثيرة، بدءاً من وقعها، وإيقاعها، وصورها الشعرية، وبنيتها الداخلية العميقة، وطقوسها الخاصة،! وفلسفتها العرفانية التي تحاول أن تزيح الغطاء عن أشياء محجوبة، متوارية، لا تتعرى إلاّ أمام القارئ المتبصّر الذي يمتلك قدراً من النبوءة، والفراسة الفنية، وفضِّ المجهول.
لذلك فجُلَّ قصائد هذا الديوان لم تتعاطَ إلاّ مع ثيماتٍ وجودية، كونية، تقترب من النَفَس الفلسفي الذي يلامس الحكمة، والقول المأثور أكثر من إقترابها من الثيمة الشعرية العابرة التي لا يعوِّل عليها مُنتج النص ومُبدِعه.
إن قصيدة محمد الأمين يمكن إحالتها إلى المحاور الرئيسة التي ترتكز عليها ثقافته العامة، وما تنطوي عليه هذه الثقافة من هواجس شعرية مُلِّحة تحاول أن تنتزعه من إهتمامات أخرى كالترجمة، أو كتابة بعض الدراسات النقدية هنا أو هناك، أو متابعة بعض الفنون السمعية والبصرية كالموسيقى، والسينما، والمسرح، والفوتوغراف، والفن التشكيلي وما إلى ذلك.
آخذين بنظر الإعتبار أن محمد الأمين تتنازعه موهبتان حقيقيتان هما الشعر والترجمة من اللغة الفارسية إلى العربية وبالعكس. وقد أشار بعض النقاد، ومن بينهم شاكر لعيبي، إلى إفادة محمد الأمين في " تخصيب قصيدته ببعض الصور الشعرية من خلال النصوص المترجمة من الشعر الفارسي تحديداً ".
وبالرغم من عد! م دقة هذا الإستنتاج، لأن الناقد والشاعر شاكر لعيبي لم يتوقف، ولو بشكل عابر، عند بعض هذه " الصور المخصبة " لكي يتخذ منها حجة دامغة تدلل على هذه الإفادة، أو التناص، أو الإستنساخ لبعض صوره الشعرية التي تتكئ على شعراء فرس وأفغان معروفين مثل فروغ فرخزاد، سهراب سبهري، أحمد رضا أحمدي، أحمد شاملو، فريدون قشيري، علي إسفندياري، واصف باختري، خالدة فرّوغ، ليلا صراحت روشني، هما طرزي، ساجدة ميلاد، لطيف ?درام، ?روين، ??واك وغيرهم من الشعراء الذين يحتلون منزلة خاصة في قلب محمد الأمين.
لكننا نستطيع القول إن محمد الأمين هو شاعر عراقي، ذو أصول فارسية ينبغي أن يعتد بها، موزع بين ثلاث ثقافات وهي العربية، والفارسية، والأفغانية، ولا يجد ضيراً في أن ينهل منها، أو من غيرها من الثقافات العالمية التي تدخل في مصفاة ذاكرته، وأسِّهِ المعرفي الأول لتتجلى رويداً رويداً عبر مخياله الإبداعي على شكل صور شعرية تعتمد على آلية التلاقح الثقافي، والتهجين المعرفي الناجم عن تمثِّلٍ عميق، وإطالة نظر في خصوصية الأبعاد الجمالية لكل ثقافة على حدة، مثلما هو يتمعن بالتمظهرات الإبداعية للثقافات الغربية ا! لتي يقرأها من خلال التراجم العربية.
ولو توغلنا عميقاً في تفاصيل مجموعته الشعرية الأولى " فوانيس عاطلة أيامه " لأكتشفنا " الثيمات " الأثيرة التي يبني عليها محمد الأمين نصوصه الشعرية، ولعل أبرز هذه الثيمات هي " الحرب، المنفى القسري، الغربة الإضطرارية، السأم الوجودي، الكآبة، الضجر، اللاجدوى، الترحال الدائم، القلق، مساءلة الوجود، وسواس الذاكرة، رغبة التماهي في السديم الأول، حوارات أليفة في دور المجانين التي تستوطن رأس الشاعر، الوردة السوداء التي لا يبصرها إلا الشاعر نفسه.
" وغيرها من الثيمات التي تستغور ذاته الإنسانية، وما تعانيه هذه الذات المؤَرَّقة من إرهاصات يومية عندما تكتشف أنها مُصادرة، ومسلوبة، ومُغيّبة عن قصد أو من دون قصد. فمن خلال عنوان المجموعة نستشف المعنى المركّب، والمراوغ للفوانيس " العاطلة أيامه " فثمة استعارات جميلة تنطلق منها شرارات النص المشحون بقوة، تلك الشحنة الأولى التي تمد النص بنسغ صاعد لا يرتبك على مدار القصيدة، ولا يتذبذب في أثناء صعوده الدرامي القائم على بنية شعرية محسوبة النتائج. فقصيدة " وردة الغريب التي لا يبصرها أحد " تكاد تختصر جزءاً كبيراً من معاناة ! الشاعر، وهواجسه الكثيرة التي تأخذ منه مأخذاً كبيراً كل يوم فهو " غريب، وناءٍ، وضحية للقراصنة، وهارب من البيوت والأسرّة، وغير قادر على التجذّر في المنافي، وفاشل في ترويض الوساوس، وباهت الظل، وذو حنجرة صدئة غير جديرة بالغناء. . . لذا فهو يهفو إلى التلاشي دائماً! " هذه البنية السرّية التي تجنح إلى الغموض، وليس التغميض المتعمد، هي محاولة لفض المكنونات الداخلية للشاعر بطريقة لا تعتمد على البوح المباشر، والشكوى المثيرة للشجن. فحتى الشطحات أو التشظيات الآنية التي تأتي عفو الخاطر يُخضعها محمد الأمين إلى متن النص، ويصهرها فيه بحيث تصبح جزءاً أساسياً من نسيج علاقاته الداخلية، وليست تزويقات لغوية فائضة عن الحاجة. في كل نص من نصوصه ثمة صورة أو " صور " شعرية صادمة توخز المتلقي، وتنبهه إلى أنه أمام قصيدة تحفر في قاع النهر، إن صحَّ التعبير، ولا ترتضي بالحركة على سطح النهر أو في منتصفه. فوردة الغريب هي ذاتها الوردة السوداء التي لا يُبصرها إلاّ الشاعر نفسه، كونه الرائي الوحيد الذي يستطيع أن يفض مغاليق الأسرار المجهولة، العصية، الغامضة. إذاً، من النتوء الأول للواقع تنطلق شحنة النص المدروسة لتتجلى عبر! توصيف فلسفي يختصر فعل الغربة وذروتها حينما يصبح المُغترب مثل الموت الذي يترنح بين الحقيبة والجسد. لا تخرج قصيدة " طمأنينة تلثغ بأكاذيبها " عن ثيمة الغربة، ولا تشتط كثيراً عن مسائلة الذات المغتربة التي تهيم على وجهها بلا دلالات، أو علامات، أو أشباح إشارات. فالذاكرة ساهية مربكة، والخطى زائغة رجراجة، والطريق مسار معوّج في تيه متقاطع يتخاطف في مرايا السراب اللعوب. وربما يصل جلد الذات ذروته حينما يقول الشاعر " لأن بصمات المعاول / تهرول ساطعة في خرائب عمري الشارد. " فثمة خوف من تقادم الزمن، وسرعة انطلاقه نحو المجهول الذي سيبتلع الجميع من دون استثناء، وثمة معاول تقوّض في خرائب هذا العمر الشارد نحو مصيره المحتوم. في هذا النص هناك صور شعرية متناسلة تتوالد بعضها عن بعض، ولا تدع القارئ يلتقط أنفاسه، ولا مجال للتشظيات المفاجئة فيه " قلت للفراغ رنينه. . ./ لكنه محشو بتماثيل سادرة تطارد الحنين/ -الحنين؟/ - أقصد وحشاً روَّضته السغاب/ قلت السغاب وقصدت رتل ذئاب يطارد القلب ويغويه. " ثم تمضي هذه الصور التعبيرية المتلاحقة التي تبدو وكأن ريشة فنان هي التي تخطها، وليس كلمات شاعر. وتعزيزاً لهذا ! المنحى في كتابة القصائد الطوال لابد أن يستعين محمد الأمين بأساليب أخرى كالمونولوغ الداخلي، والسرد القصصي القائم على بنيتي التوازي والتضاد حينا، وبنيتي التداخل والاسترجاع حيناً آخر، هذا فضلاً عن شيوع البنية التقليدية المتتالية التي لا تخرج عن حدود الوحدات الثلاث " الزمان، والمكان، والحدث " وهي بنية أرسطوية، نمطية تناقش الأسباب والنتائج، وتقدم الحلول الجاهزة ولا تحفل كثيراً برأي المتلقي، أو لا تسمح له بأن يكون مشاركاً في العملية الإبداعية أو طرفاً مهماً فيها، لأنها تتعمد إقصاءه سلفاً، وتغلق عليه منافذ التفكير، والمشاركة الوجدانية. ولابد من القول إن البنية الخامسة ليست شائعة كثيراً في قصائد محمد الأمين لأنه يعتمد على أنواع أدبية مختلفة في كتابة نصه الشعري الأمر الذي يفتح أمامه آفاقاً جديدة وخيارات متنوعة تجنبه السقوط في فخاخ الأنماط المغلقة. ففي قصيدة " إحتمالات " يخاطب الأمين صديقاً " حاضراً / غائباً " وهذا الصديق لابد أن يكون غريباً آخر، وثمة خوف معلن من " الزمن " أو " من هذه الآن الحادة كعقرب الساعة "، واحتفاء خاص " بزوال المسافة بين الماء والسراب "، ومحاولة هربهما إلى " اللامكان، أو! اللا أين " أو نزوعهما الشديد للإمساك بالفصول المبهجة من الطفولة المدهشة التي كانوا يلاحقون فيها " الكوكب والمجرات كالمراهقين ". إن هذه المناجاة الوجدانية المغلّفة بطابع ذهني حاد في هذه القصيدة، فضلاً عن توافرها على ضربة فنية شديدة القوة والنجاح هي التي أمدت هذا النص تحديداً بكل عناصر النجاح الفني، وفتحت دائرة القصيدة على المتلقين لكي يكونوا صناعها الماهرين، أو المسهمين في طقسها الشعري الخاص. دعونا نمعن النظر في النهاية المتقنة لهذا النص والتي تقول: " فلأقل لنفسي / أنها متعبة مثلي وكئيبة مثلك / لكن أواه أيها الصديق / أهكذا دون أن تستأذنني / تقتحم دار المجانين التي في رأسي؟ " لا شك أن القارئ سيكتشف من دون عناء كبير أن الشاعر منشطر بين " أناه " و" نفسه "، وتمييزاً لهذا التحديد فإن نفس الشاعر متعبة مثله، وكئيبة مثل صديقه الذي يقاتل حشوداً من الأضداد والمناوئين. كل هذه التوطئة المونولوغية والسردية في آن معاً تفضي إلى خاتمة النص المدهشة وهي أن الصديق يقتحم من دون أن يستأذنه دار المجانين القابعة في رأسه! وهذه الصورة الختامية هي اختصار للحكمة، وتأكيد للقول المأثور شعرياً والذي يغني عن الإفاضة اللغوية، والإطناب التصويري اللامبرر. لم يعِشْ محمد الأمين في أجواء أسطورية مُنتَزعة من حكايا وقصص الماضي البعيد، وإنما ينزع دائماً إلى خلق أساطيره الحياتية الخاصة التي لا تُثقل كاهل المتلقي، بل تفتح مخيلته على طقوس وأجواء جديدة فيها شئ من التجريد الرياضي القائم على الإحتمالات التي يرسمها الشاعر لمتلقيه. في قصيدة " النشيد الوهمي للصباغ الغريب " يكرر الإشتغال على مفهوم الغربة من خلال الصباغ الغريب الذي يمثّل وجهاً من أوجه الشاعر نفسه، أو قناعاً من أقنعته المتعددة. في هذا النص الشعري تحديداً ثمة بنية داخلية عميقة تقترب كثيراً من المعادلة الرياضية التي تقدّم مجموعة من الإفتراضات لتتوصل في نهاية المطاف إلى نتائج وخلاصات فيها شيء من الفنتازيا، والتجليات، واللعب على أطراف المعادلات الرياضية التي اقترحها الشاعر. تبدأ اللعبة الفنية في هذا النص حينما يجهّز الصباغ عدته المكوّنة من الفرشاة والأصباغ والمقص ليقدح في ذهن القارئ أولى شرارات التخيّل التي قد لا تتطابق بالضرورة مع ما يجنح إليه الشاعر، بل أن عدم التطابق هو مكمن نجاح القصيدة التي تعوّل على المفاجأة، والإدهاش، والإبهار. ول! كي يطيل الشاعر من زمن اللعبة الفنية نراه يلجأ إلى تقديم مقترحات فنتازية إلى صاحب الدار مثل" إلغاء السقف من صالة الضيوف بحجة أن المطر لن يمس الأشياء الحقيقية بسوء، وأن المرآة لن تصدأ. أو يقترح على صاحب الدار والخريطة أن يأخذ أثاث المنزل إلى البحر، أو يجلب موجة للبيت شريطة ألا يحنطها كي تسرد له حكايا الأسلاف والقراصنة. " هذا التطويل المتعمد هو اللعب على الطرف الأول من المعادلة لكي يهيئ المتلقي إلى الخلاصات المدهشة التي توصّل إليها الشاعر. فالأصباغ ما تزال على الأرض، والمقص سيقتطع الغرور من الذاكرة، ومن أجل هذا الغريب سيغمس الشاعرة فرشاته في دمه، وليس في وعاء الطلاء! في قصائده القصار " سفر، حلم، تكنولوجيا، ثغاء الساعة، حرب، حياة، قطيع الكهنة " يعوّل محمد الأمين كثيراً على الومضة أو الإشراقة التنويرية التي تأتي في نهاية النص الشعري المركّز ذي النَفَس البرقي الصادم الذي يؤجج مخيلة المتلقي، ويبهرها نتيجة لجمال الصورة الشعرية التي رسمها الشاعر، أو قناص المشاهد المدهشة التي تظل متلألئة في ذهن القارئ، ولا تغادره بسهولة كما في قصيدة " سفر ": " عند الفجر، أباغت المدن / ها هي ترفع أذرعها مستسل! مت لي! " أو كما في المقطع الأول من قصيدة " فوانيس عاطلة أيامه " الذي يقول فيه بتكثيف شديدة ينطوي على مفارقة موجعة، أو ربما سخرية سوداء " يسألونني عن الحرب رغم كوني غنيمة / ربما غنيمة مؤجلة للفراغ / ربما فريسة نار أخرى ". نخلص إلى القول بأن النص الشعري الذي يكتبه محمد الأمين لا ينتمي إلى النصوص السائدة، المقرورة التي تبدو وكأنها مستنسخة عن بعضها البعض. وتكمن فرادة هذه النصوص في تعريتها للذات الإنسانية من خلال اعتمادها على مضامين شعرية تقول أشياءً كثيرة معبّرة يلخصها الشاعر في صور شعرية مقتضبة، شديدة الدلالة. لا يمكن دراسة المنجز الشعري لمحمد الأمين من دون معاينة سفر حياته الشخصية التي توزعت بين ثلاثة بلدان، فلقد عاش طفولته وصباه في بغداد، ثم هُجرت عائلته قسراً إلى إيران، فعاش هناك خمس عشرة سنة موزعاً بين ثقافتين وحضارتين في آن معاً. ولأن عينيه معلّقتان بنجوم الحلم البعيدة فقد آثر الغربة والترحال إلى الغرب الأوربي باحثاً عن بقعة مستقرة لقدميه الراعشين علّه يمسك بغواية الحلم الذي نجح في استدرجه إلى البرزخ الفاصل بين قيامة الضوء وتهتك أستار الظلال.


أقرأ أيضاً: