محمد علي اليوسفي
(تونس)

لوحة رسولي

عادل معيزي من الشعراء الشباب الذين اثبتوا حضورهم في الساحة الشعرية التونسية. وقد أصدر حتى الآن مجموعة كتب من بينها "وطّان القصيدة" و"أحبك حين أحبك" و"حكمة العصر".

مفاجأته الأولى للوسط الثقافي تمثلت في قصة حب من نوع نادر: إذْ طلبت منه حبيبته ان يكتب لها ألف رسالة حب, مَهْراً لها, حتى تقبل به زوجاً. وتم له ذلك!

مفاجأته الثانية, جاءت من بيروت هذه المرة, وتمثلت في صدور كتابه "أمس... منذ ألف عام" عن دار الفارابي (166 صفحة من القطع المتوسط). ولعل المفاجأة لا تكمن في صدور الكتاب في حد ذاته, بل في التنصيص على انه "رواية شعرية". والحال ان عادل معيزي لا يكتب قصيدة النثر بل يلتزم التفعيلة من أول الكتاب إلى آخره, يضاف الى ذلك أنّ ما قد يتبادر الى الذهن من تعريفه لكتابه بأنه "رواية شعرية" هو ان يأتي على شاكلة ما يعرف بالرواية الشعرية كما عرّفها بعض المنظّرين من أمثال ايف تادييه وغيره. أي أن تُصاغ الرواية نثراً مع ملامح شعرية لا تقتصر على اللغة وحدها, بل تشمل شخوص الرواية, وكذلك المكان والزمان. فيؤدي كل ذلك الى نوع من هيمنة للبطل, الراوي عادة, فيما تأتي الشخوص الثانوية مسربلة بالغموض, ويتم التركيز على ما هو شاعري في المكان والزمان والعلاقات بين الشخصيات, أكثر من التركيز على تحديد تلك العناصر الروائية. لكننا نتلقى رواية عادل معيزي الشعرية, باعتبارها شعراً يغلب عليه السرد. وتهيمن فيه أنا الشاعر من أول الكتاب الى آخره, مع استثناءات قليلة تفسح في المجال للحبيبة كي تقول كلمتها تحت ظل الشاعر وأفيائه دائماً, وإن كانت كلماتها لا تخلو من استنهاض لهمّة الشاعر:
"ألا أنهض يا حبيبي كُنْ...
ندىً في العشب كنْ منّي غداً
كنْ من زهور البحر موجاً عاشقاً
كُنْ... فأكونْ".

ذلك ان "أمس... منذ ألف عام" ترنيمة حب جديدة يقدّمها الشاعر لمحبوبته/ زوجته, ابتداء من الإهداء: "الى الذاهبة باستقامة الضباب الى أعلى من نفسي هناك صوب الأقاصي (...) سلمى" وصولاً الى الخاتمة: "كل ما فيك يقولْ/ إنّ عمري كلّما طال لأهواكِ قليلْ" مروراً بتوشيح حروف اسمها: "منها السينُ تمضي بي على الأعشاب/ منها اللاّم ترمي وجهيَ المفتون بالمحوِ/ على الأعتاب, منها الميم غزلانٌ/ ومنها الألف القاطن أنواءً من الإشراق...".
يضيف الشاعر عنواناً فرعياً, تعريفيّاً, في مفتتح كتابه, نجده اقرب الى مضمون الكتاب "ملحمة العذاب الأرضي وأسطورة الزمن الآتي".

لذلك نفضل وصف الكتاب بأنه مجموعة شعرية أو قصيد ملحمي مطوّل جاء في افتتاحية وسبعة أناشيد, لئلا نقول فصولاً. أما في ما يخص "الملحمة" و"الأسطورة", كما جاء في العنوان الفرعي, فقد تجلى في محاولة الشاعر التحليق مع الكلمة منذ ان كانت "في البدء", في النشأة, أي قبل الألف عام الحصرية التي يحددها العنوان "أمس... منذ ألف عام" كدلالة على الإيغال في القدم, ذلك ان الروح تكتشف الحروف في "جدول نوراني" موجاته في هيئة حروف, وعندما تبدأ بصيدها تنشأ الأناشيد السبعة المشكّلة لهذا الكتاب.
تبدأ الأناشيد الأولى "أرضيّة". تشكو زمانها ومكانها. تضيق الروح, فتروي "رواية شعرية" تتضمن عذاباتها وشكواها: "قيّدوني بالعويل المترامي في ذهولي/ كي تتيه البوصلة". لكن الشاعر يصعّد همّه الشخصي الى العام: "هذه الليلة وحدي/ سابحٌ في لجّة النار التي تأكل تاريخي/ وتاريخي كما تاريخنا أضحى شظايا".
والأعداء لا يُسمّون, وقد يرِدُ اسمهم باعتبارهم "القبيلة": "حين توقّفت لكي أسأل عن سرّ عذابي/ رجموني بتعاويذ القبيلة".

ويحفل قاموس الشاعر, تبعاً لذلك, بمفردات الصحراء والنخيل والفيافي والبيداء والنار والجمر في مقابل بحثه عن "سفوح أخرى", و"جنّة في هذه النار" و"سواحل أخرى" تخلّصه من "طحلب الماضي" ومن زمن دائري هو "دائرةٌ أولُه آخره".

ولا يخفي الشاعر ولعه بالقافية الداخلية التي تتكرر في أكثر من مقطع: "حين غنّتْ/ أيقظت تاريخ من سادَ ومن بادَ ومن قادَ/ ومن حادَ عن الدرب", كما يذهب بعيداً في لعبة التماهي بين العاشق والمعشوق:
"هل أنا أنتَ؟ ومن أنتَ إذا كنتُ أنا أنتَ؟ وهل أنت أنا إن عادةً كنت أنا أنت؟ (...) وإذا كنتُ أنا محواً فهل أنت أنا في المحو أو هل أنت محو فيّ؟ (...)". ويتواصل ذلك مساحة صفحة تقريباً!

وإذا كان الشاعر يتحدث عن حال عصره تلميحاً لا تصريحاً, كما يتذمّر من حصار متعدد الوجوه, فإنه يخص الشعراء بمقاطع متعددة الى درجة القول: "كم أرغب في الصمت زمان الشك بالشعر". وسيلجأ الى التسامي أكثر فأكثر وصولاً الى موت, ربما كان معنوياً, من اجل تدفّق النشيد السادس (أي قبل الأخير) بولادة جديدة ترفع راية الابتهاج بالحياة وبالحبّ وبـ... الشعر أيضا: "إني سئمتُ الآن موتي فلِدِيني (...) من عمق الغد الآتي لديني".
وهكذا نصل الى النشيد "السابع", في دلالة رمزية معروفة لليوم السابع: "تنبثق الروح من الرمل ومن صُلب الترائب/ وعلى فُلك الزمان/ يهرع البدء الى البدء, أرانا.../ في كمال الجسم روحيْن حديثي العهد بالدنيا", ليختتم الشاعر كتابه بتهليلة عاشقة ومحتفية بالحب وبالشعر.

الحياة 2004/05/9