('الرواية العربية، 1834-2004')

سيلفانا الخوري
(لبنان)

كاظم جهاديستدعي كاظم جهاد الناقد الذي فيه والمثقّف والكاتب والشاعر، والقارئ كذلك، ليخرج بكتاب فيه من البحث المنطق المنهجي ومن الانطولوجيا الانتقائية التمثيلية، في اربعمئة صفحة تستعيد مسار الرواية العربية منذ النهضة إلى اليوم، أي ما يفوق القرن ونصف القرن شهدت ولادتها وتطورها ومغامرتها في حقول التجريب الأسلوبي والتقني واللغوي، لتظلّ تتبلور على وقع تاريخ لا يهدأ وجغرافيا لا تستكين.
في "الرواية العربية، 1834-2004" الصادر لدى "اكت سود" الفرنسية ضمن سلسلة "سندباد"، يقدّم الكاتب رؤية جامعة من دون ان تدّعي الشمولية لأعمال نحو مئتين وأربعين روائياً. وهي للقارئ الفرنكوفوني غير العربي رؤية واسعة الإطار، تقرأ الحراك الروائي في ضوء التحولات المزمنة في منطقة مشتعلة دوماً أو على أهبة الاشتعال من محيطها إلى الخليج. كما انها تعمل على أغناء نظرته وتوسيع أفقها، هو الذي إذا ما تخطّت معرفته "أسطورية" "ألف ليلة وليلة" إلى بعض النماذج المترجمة، فإنها تبقى معرفة مشتتة لا تشكّل كلاً قادراً على تقديم صورة عن تطور الرواية من ضمن سياقات أوسع واشمل. أما للقارئ الفرنكوفوني العربي فتأتي لتضيف إلى مكتبته مرجعاً جامعاً، ذا مقاربة جديدة، للمتداول عن التاريخ الروائي العربي في الوسط الثقافي.
يضع كاظم جهاد موضوعه في سياقه التاريخي والسياسي والاجتماعي، ليكشف في طريقه عن الإنسان العربي، شخصية وهموماً ووعياً مجتمعياً. وإذ يفعل ذلك، يجد لنفسه منهجيته الخاصة التي تجمع بين العرض والتحليل الذي يوغل عمقاً بالقدر الذي يسمح له بالعودة إلى السطح سريعاً وتلافي الغرق في رمال موضوع على هذا القدر من التشعّب. منهجيةٌ تعمل من ضمن ما تعمل، على إدخال الراهن الروائي الملتبس التصنيف في حركية موروثٍ اكتسب مع الزمن رسوخاً في العمق الثقافي العربي، مع حفاظها على التشكيك الكافي التي يكفل للتجارب المكرَّسة تاريخياً ونقدياً وأدبيا الدور المحوري. والحصيلة: احد عشر فصلاً، إلى المقدمة والخاتمة، تشكل معاً مادة كثيفة المحتوى، بانورامية الامتداد، مقدمة بأسلوب يسائل التجارب الروائية المختلفة وأساليبها. ذلك كله في نظرة نقدية تقف عند التخوم بين الذاتية المضبوطة التحيّز والموضوعية ذات الهم الأكاديمي، حيث ان الركيزة المعرفية المرتبطة بقراءات الكاتب المباشرة وغربال الذائقة الشخصية، تركت بصمتها من خلال بعض المبالغات "المعتدلة" التي لا تقلل مع ذلك من صوابيتها بل تمنحها ربما بعداً أكثر صدقية.
إذا، من 1834 وهو تاريخ صدور كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريس" للطهطاوي الذي يسرد فيه انطباعاته بعد زيارته العاصمة الفرنسية، يرصد الكاتب البدايات المترددة لنوع ظل حتى وقت طويل كالطارئ على تقليد عربي يمنح الشعر المقام الأرفع ويؤثره على سواه من أساليب التعبير الأدبي المختلفة. فيروي في الفصل الاول تحت عنوان "رواية النهضة" الاحتكاك مع الغرب بعيد حملة بونابارت على مصر في 1798 الذي أعطى التراكم الحكائي والقصصي الموروث الدفعة الأولى صوب الرواية في شكلها المعاصر، مع كتّاب زاروا الغرب وعادوا منه بأفكار أرادوا ان يوسعوا لها المكان. فكانت التجارب الأولى مع رواد النهضة المصريين واللبنانيين والسوريين أمثال علي مبارك وناصيف اليازجي وجرجي زيدان وسواهم، أشبه بالذريعة لتقديم أفكار الإصلاح الاجتماعي مع كل الإشكاليات الأخلاقية التي أحدثها الانفتاح على الغرب. ومن تجارب المنفلوطي "الاقتباسية" إلى "زينب" (1914) لمحمد حسين هيكل التي يعتبرها بعض النقاد أول رواية عربية بالمعنى الفعلي، ستبدأ التجارب بالتبلور، أسلوبيا ولغوياً، حيث ستتخلص شيئاً فشيئاً من السجع ومن الجملة المحملة بذخاً أسلوبيا مرهقاً، لتتجه صوب حداثة ستتحقق على وقع وعي الشخصية العربية نفسها.
من هنا، يتطرق في الفصل الثاني تحت عنوان "صوب الحداثة" إلى مرحلة ما بعد النهضة مع كتّاب ذهبوا أبعد في "قلب إشكالية النوع" الأدبي الجديد هذا ليكونوا "مهيأي الحداثة"، بدءاً بطه حسين وتوفيق الحكيم وصولاً إلى الأدب المهجري مع أمثال أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة من اللبنانيين، مشيراً إلى "الأجنحة المتكسرة" (1912) لجبران التي يعتبرها بعض النقاد الرواية العربية الأولى. وهكذا تستكمل الرواية تطورها، وبعدما كانت المثالية سمة معظم شخصياتها سيدخلها أبطال هامشيون وأناس عاديون، وتصير صورة عن مجتمعات تعاني من سلطة الأب واستلاب الأم. وباقترابها من اليومي والمعيش وتأثرها باللغة الصحافية الناشئة، ستسعى إلى ابتكار لغة جديدة تشبه هموم زمنها.
بعد ذلك يخصص الفصل الثالث كاملاً ل"الكاتب الذي يختصر بمفرده كل التطوّر الذي لحق بالرواية العربية". وتحت عنوان "ملحمة نجيب محفوظ" يستعيد مسار هذا الروائي معتبراً ان مجموع أعماله يكاد يشكّل "ما يشبه التجريب" الذي طاول كل الأنواع من الرمزية إلى الواقعية فالخرافية والغرائبية، مظهراً في كل مرة "قدرة كبيرة على التأقلم والتجدّد" من حيث التقنيات والتيمات والشخصيات واللغة. وفي أعماله، تمكّن من تقديم صورة عن الإنسان المصري، بين ماض فرعوني وحاضر يعرف تصادم الريف بالمدينة ويشهد للتمزّق الاجتماعي الحاصل بين حداثة وافدة وتقليد يأفل رويداً، مرسّخاً "التخييل الروائي في قلب ثقافة أهملته طويلاً".
وبعد هذه الفصول الثلاثة يدخل في أبرز التجارب الروائية الحديثة في فصول مخصصة على التوالي لكل من الرواية المصرية والسورية والعراقية والفلسطينية واللبنانية قبل ان يجمع في فصل واحد روائيين أفادوا من ثقافتين وحضارتين تحت عنوان "بروز الخصوصيات: السودانية والكردية والطوارقية"، ثم فصل للرواية الأردنية واليمنية والخليجية يجمعها تحت باب واحد بحكم انها تجارب جديدة نسبياً وفصل أخير للرواية المغاربية.    
تحت عنوان "الرواية المصرية: رفاق محفوظ وورثته"، يعرض لتجارب مجايلي محفوظ على غرار يحيى حقّي وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وفتحي غانم، ثم كتّاب يعتبر ان أعمالهم ذات قيمة "تاريخية أكثر منها فنية" أمثال محمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي. بعد ذلك يتطرق إلى مرحلة الستينات وما عرفته من رغبة "بتجريب أنماط سردية أخرى، وإيجاد نماذج عيش وتفكير" جديدة على الثقافة العربية. فكانت المحاولات الأولى لتخطي الرواية الكلاسيكية والطبيعية ورواية الواقعية الاجتماعية والانتقال "من السرد المستقيم صوب كتابة "شاذة""، وصولاً إلى بدايات "الرواية الجديدة" في الثمانينات مع إبراهيم أصلان وروايته "مالك الحزين" (1983)، فالتجارب الأخيرة.
أما الرواية السورية فيعتبر كاظم جهاد انها محكومة بسرد واقعي يصف مشكلات المجتمع ويفتش عن طريقة لتغييرها "وهو هدف نبيل بلا شك لكنه ليس جيداً دوماً على الصعيد الفني"، مشيراً إلى انها تجربة حديثة عرفت انطلاقتها في خمسينات القرن الفائت مع أمثال حنا مينه وفارس زرزور حاملة آثار الانتداب الفرنسي وبوادر الأفكار الوطنية والقومية. يتوقف في ما بعد عند حليم بركات في ثلاثيته التي حاول فيها استشفاف الأسباب الاجتماعية والثقافية للهزيمة، محيلاً الأمر على "الرقابة وغياب الحرية الجنسية وانقطاع التواصل بين الأفراد".
من ناحيتها، بدأت الرواية العراقية في 1920 بين الخطاب السياسي والجو الريفي مع محمود السيد الذي يعتبر أول روائي عراقي ولاحقاً مع ذو النون أيوب الذي بفضله خطت الرواية العراقية صوب الواقعية الاجتماعية وتحولت عن نزوعها صوب الغموض والانطباعية. في الستينات، سيحقق غائب طعمة فرمان، "محفوظ" العراقي، مع "خمسة أصوات" (1967) قفزة نوعية راصداً هواجس العراقيين عشية ثورة 1958. لتسير الرواية بعد ذلك على وقع التغيّرات السياسية ووصول البعث إلى الحكم فتدخل في السبعينات شخصية السجين السياسي إلى الرواية ثم تيمات كالمنفى والحرب العراقية الإيرانية مع أمثال جنان جاسم حلاوي. وتحت عنوان فرعي هو "أدب العار" يشير جهاد بقسوة إلى كتّاب ونقّاد غذوا "أدبيا" المرحلة "الصدّامية" السابقة.
أما الفلسطينيون فيعتبر جهاد أنهم بحثوا في الكلمات عن ارض بديلة، والرواية الفلسطينية لم تبدأ فعلياً إلا اثر هزيمة 1967 (باستثناء تجربة جبرا إبراهيم جبرا في "صراخ في ليل طويل" في 1946) متوقفاً خصوصاً عند غسان كنفاني.
بعد انطلاقتها مع مارون عبود وتوفيق يوسف عواد، ستعيش الرواية اللبنانية الحرب كشرخ بين رؤيتين وأسلوبي كتابة، فبعد تجارب سهيل إدريس وليلى بعلبكي وليلى عسيران واملي نصرالله وسواهم ستتحول الرواية إلى صورة عن المجتمع اللبناني الواقع تحت الحرب، فتتشظى بنيتها التقليدية ويكف البطل عن كونه بطلاً بالمعنى المثالي. ومع يوسف حبشي الأشقر والياس الديري وحنان الشيخ والياس خوري وحسن داوود وهدى بركات ورشيد الضعيف ستعيد الرواية "خلق الواقع" من خلال "العمل على اللغة وتساؤل دائم حول موقع الحكاية وحدودها". وفي تجارب السنوات الأخيرة مع محمد أبي سمرا ونجوى بركات وربيع جابر وعلوية صبح سيتداخل الواقع النفسي بالغوص العميق في الذاكرة الجماعية والفردية. ويتوقف جهاد في النهاية عند تجربة عباس بيضون في روايته "تحليل دم".
يقر الكاتب بنفسه ان الفصل التاسع، "بروز الخصوصيات السودانية والكردية والطوارقية"، يحمل مجازفة، اذ يجمع ثلاث تجارب روائية يعتبر ان القاسم المشترك بينها انها تكتسب خصوصيتها من تلاقي الثقافة العربية مع ثقافة أخرى: السوري الكردي سليم بركات والليبي الطوارقي ابراهيم الكوني وتجارب سودانية مع أمثال السوداني الطيب صالح بحكم وجود السودان عند التخوم بين حضارة عربية إسلامية وأخرى افريقية. كرّس بركات القسم الأكبر من أعماله لوصف المحيط الاجتماعي والفكري لأكراد سوريا لا سيما في روايته الأولى "فقهاء الظلام" (1985)، أما الكوني فوضع في أعماله كل عالم الطوارق الرمزي والميتولوجي والغرائبي. في حين صوّر صالح الذي يعتبره جهاد الروائي الوحيد الذي يمكن ان يقارب أهمية توفيق الحكيم أو نجيب محفوظ، الواقع السوداني لا سيما في الروايتين اللتين كتبهما في الستينات بعد استقلال بلاده في 1956.
وبحكم انها تجارب جديدة نسبياً، يضع تحت عنوان "الرواية في الأردن واليمن ودول الخليج" تجارب روائية مختلفة لكن يجمعها انها تجارب جديدة نسبياً. يُفرد في هذا الفصل مساحة خاصة لعبد الرحمن منيف الذي رصد كل الإشكاليات التي ارتبطت باكتشاف النفط في المجتمع الخليجي. أما في الفصل الأخير فيعرض للتجربة الروائية في بلدان المغرب العربي الخمسة: تونس والجزائر والمغرب وليبيا وموريتانيا، التي بدأت فعلياً في الفترة التي سبقت استقلال هذه البلدان، أو تلته.
سنكتفي بهذا القدر من العرض مع إدراكنا انتقائيته وعشوائيته، ففي كتاب يجمع تجارب نحو مئتين وأربعين روائياً وضعف العدد من الروايات على الأقل، أي انه قائم أساسا على التفاصيل الدقيقة، ستبقى إحاطتنا به مهما حاولنا اختصاراً إحاطة مجتزأة واعتباطية، والبوادر والشذرات المقتطفة من هنا وهناك لا تعطي أكثر من فكرة أولية عن كتاب وحدها قراءته المتأنية تفيه حقّه ولا شيء أقل.

النهار الثقافي
18 حزيران 2006