يوسف عبد العزيز
(الأردن)

أمين صالحفي الضفة الأخرى من السرد، الضفة المفتوحة على التأويل، تقوم مشاغل القاص والروائي (أمين صالح)، لتنسج حكايتها الأكثر فتنة وغرائبية على صعيد الكتابة السردية العربية المعاصرة. إنها مشاغل تغوص في الداخل الإنساني العميق، وتجوس المناطق الخفية فيه، بحثا عن السراني والحائر والمدهش. وهي لا تتسقط الوقائع من باب إضاءتها ورتقها في قميص الحكاية المتداولة، وإنما من أجل أن تنحرف بها عن السياق العام وتصوبها نحو مصائر مجهولة. الواقعة هنا مثلها مثل المكان والشخص هي مجرد ذريعة للإطلالة على العتمات المتخفية في إهابها: ثمة وجع يغلي تحت قشرة الكلام، أرواح محبوسة مدججة بالصراخ، وأصابع متحفزة للفتك.

في روايته الجديدة: (والمنازل التي أبحرت أيضا) يصعد القاص والروائي أمين صالح طاقة السرد حتى حدودها القصوى، ويحتفل باللغة لتهجس بالبعيد والغامض في حياة الكائن. في هذه الرواية لا نعثر على تلك المشاهد التي تزدحم بها الرواية التقليدية عادة، ولا على تلك التفاصيل الكثيرة التي تتناسل هنا وهناك، وتشتبك فيما بينها لتؤلف في نهاية المطاف الحبكة العامة للعمل. بدلا من كل ذلك تسقط أبصارنا على طبيعة مشوشة، عزلات حادة، أشخاص دون ملامح محددة أو أسماء. أما الوقائع التي تجري فهي في الغالب تموجات أحلام، أو ربما كوابيس طبختها تلك الرؤوس المعذبة.
في الرواية ثمة شظايا أمكنة: بيوت صامتة ذات نوافذ مفتوحة على غيوم ونيازك، أسواق مكتظة بالناس والعربات والباعة والمتسكعين، وميدان هو في واقع الأمر بمثابة بؤرة مركزية للوقائع التي تجري. أكثر ما يميز هذا الميدان هو وجود المقهى القائم في أحد أركانه، والذي يؤمه في العادة (ندماء الذاكرة)، كما يسميهم بذلك الشاب الحالم ذو الحقيبة الجلدية الذي يتردد عليه باستمرار، ويجلس في ركنه الأثير، «ليحرك المجال بصور مشعة تسرحها المخيلة». المقهى هنا شبيه بعين كبيرة للمكان، وبواسطتها يمكن لنا أن نرصد المدينة لا كأبنية وشوارع تضج بالحركة، وإنما كمشاهد وصور تضطرب في مرآة الحلم.

تتألف الرواية من مجموعة من الفصول أو لنقل مجموعة من اللوحات التي تلقي الضوء على حياة ثلة من الأشخاص المعذبين المهمشين الضاربين في الغياب، ولذلك فهم يلجأون باستمرار إلى الاستعانة بالأحلام، من خلال تأليفها وسردها والتعامل معها كوقائع أخرى بديلة عن الوقائع القائمة. إنهم يوسعون الحياة الضيقة القليلة، يلعبون بالأشكال والصور، ويبتكرون سفر الأعماق: «أمهلني قليلا لأسرد لك حلمي»، تقول المرأة العجوز مخاطبة الموت الواقف قرب رأسها في اللوحة التي بعنوان (المرأة العجوز التي رأت حلما)، وتتابع: «كنت أتنزه مع غزال صادفته في الساحة العامة، وقد تلطخ عنقه بطلاء أحمر يشبه دم طفل»، ثم: «كنا نتمشى وسط أشجار رمان لا تحصى،.. وما انتبهت إلى الأرض التي رحت أرتفع عنها رويدا رويدا،...كنت أحلق على مهل حتى صرت قريبة من الغيوم، عندئذ فقط اكتشفت أنني ارتقيت أدراج الهواء دون أن أشعر». مثل هذا الحلم كان في حقيقة الأمر لحظة تجل اقتطعتها المرأة العجوز من السياق العام الضاري للحكاية، لقد انتصرت على الموت قبل أن يأخذها من بين ذويها ويمضي.
في لوحة أخرى بعنوان (مدى فسيح تتراكض فيه الرياح)، يذهب بنا أمين صالح إلى تلك المنطقة المواربة القائمة وراء عالم الموت. ثمة رجل يلج الآخرة من خلال غرفة يجد نفسه متورطا في الدخول إليها، وكلما حاول الخروج منها كلما عاد إليها مدفوعا بقوة غامضة. الرجل يتأمل الغرفة، فلا يجد فيها غير مرآة بطول ستة أقدام محفورة جيدا في الحائط، بالإضافة إلى بضعة أزهار من الشوكران انبثقت من أحد جدرانها. الغرفة لها نافذة تطل على أمداء تحمحم فيها الرياح. الرجل ذو الستة والثلاثين عاما يقف آخر الأمر أمام المرآة، فيرى صورته فيها، يلمح في أعماقها أيضا شجرة زقوم تحترق. بعد برهة الرجل لا يعود يرى صورته، وبدافع من الفضول يمد يده ليلمس السطح الزجاجي فلا يجد شيئا. يزداد قلق الرجل، ولكنه آخر الأمر يستجمع شجاعته ويدخل في (المرآة).

من خلال هذه العناصر البسيطة في اللوحة: الغرفة العادية والتي ربما كانت تشبه غرف الفنادق، أزهار الشوكران، ثم تلك المرآة الغامضة على الجدار، يقارب لنا الروائي المأزق الوجودي للإنسان. لكننا وعلى الرغم من فداحة الكارثة التي تضطرب على وجه الرجل تنتابنا أحاسيس غامضة، ربما كانت تثير فينا بعض المتعة. لقد اختفت من رؤوسنا تلك التصورات المرعبة عما يمكن أن يحدث للواحد في مثل هذه المواقف العصيبة، وحلت مكانها تلك الصور العذبة التي ابتكرتها مخيلة الفنان. لقد دخل الروائي (وكر) الرعب وأحاله إلى مكان شفيف وأخاذ.

في سائر نصوص هذا العمل، سوف نعثر على هذه المناطق الحرجة التي يتورط بها شخوص الرواية، وكيف أنهم في كل مرة سيواجهون الجدران المضروبة حولهم بالأحلام. هناك حيث الروح في أقصى عزلتها، وحيث الرقص لا يكون إلا على الحواف، تتبدى لنا تلك الكائنات المأزومة المعذبة التي تسافر في أعماق أرواحها أكثر مما تتحرك على أرض الواقع. ذلك أن هذا الواقع مكرر وفج وممل بالقياس إلى فضاء الداخل الآسر المتعدد. هذا ما يكتشفه (نزيل العزلة) الرجل الأعمى الذي كان يطل على العالم من خلال عينه الخشبية (العكاز) التي كان «يطرق بها درع الفراغ، ويقرأ الأشكال ويحدد التخوم»، ثم حين يعود إليه بصره يلاحظ خواء الأشياء والأمكنة من أي إبهار، وهذا ما يدفعه في لحظة صفاء مطلقة أن يفقأ عينيه.
إلى هذا الحد من اليقظة يصل شخوص الرواية، ويطالعون الكارثة التي باتت تتربص بكل شيء. لقد شاخت المدينة، والبحر النبيل لملم زرقته ومضى ملوحا، المنازل أبحرت أيضا، أما «المساء فهو يضرم المكائد المتناثرة في أرجاء الفراغ كيدا كيدا». العبارة الأخيرة تتكرر في نهايات النصوص وتبدو مثل لازمة موسيقية في سيمفونية جنائزية، أو على وجه الدقة مثل صيحة رعب مجلجلة.

لا بد من الإشارة في هذه القراءة إلى البعد التخييلي الذي يسم نصوص أمين صالح، وإلى تلك العوالم الغرائبية التي يخلقها، والتي هي في جوهرها تنحاز إلى مشاغل السينما الحديثة والمسرح في أرقى حالاته. أمين صالح هنا يعيد الاعتبار إلى العين العظيمة الرائية، عين الفنان التي تطل وتتفرس وتحلم وتكتب أيضا.

* «والمنازل التي أبحرت أيضا» هو العمل الروائي الأخير للكاتب (أمين صالح)، وهو صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2006

الرأي الأردنية
28 أغسطس 2006