(شذرات من سفر تكوين منسي لعبد اللطيف اللعبي)

عبد الرحيم الخصار
(المغرب)

عبد اللطيف اللعبيفي كتابه الجديد شذرات من سفر تكوين منسي  -1- يكتب عبد اللطيف اللعبي بلغة رجل سينتحر، وليس لديه من الوقت ما قد لا يكفيه لكي يقول كلماته الأخيرة لذلك يفاجئنا الكتاب بحشد هائل من الصور والتوصيفات وسرد الأحداث والأهوال والشذرات المستعجلة التي توحي وتحيل دون ان تقول كل شيء أو دون أن تقول الشيء كما هو، وسنجد أنفسنا بالضرورة وسط غابة من الرموز والإشارات فالدال الواحد يحتمل أكثر من مدلول الجملة الواحدة تخفي خلفها العديد من الجمل غير أن هذا الازدحام وهذه الرغبة في مباغتة القارئ لا يمحوان عن النص الشعري طابعه الحكمي، كأنك في حضرة كونفشيوس أو أمام الحكيم لقمان أو في رحاب فلسفة التاو .

يستدعي عبد اللطيف اللعبي كل شيء من الواقع ومما فوق الواقع ليقول أشياء كثيرة تدعو في نهاية المطاف إلي غاية واحدة: خروج الإنسان من قوقعته أو قواقعه المتعددة، خروجه من الظلام الذي أقحم نفسه فيه أو أقحمه فيه الآخرون قسرا، وفي مسعاه النبيل هذا تلوح أمامه قولة جون جاك روسو المؤلمة: ولد الإنسان حرا، ومع ذلك فهو، في كل مكان، يرسف في الأغلال .

يتماس الكتاب مع أقواس قزح التي رسمها الفكر الإنساني في سماء البشرية ويتقاطع الشعر هنا مع جوهر الفكر في ثيماته الأكثر بريقا: الشمولية والتسامح وشساعة الانتماء وقبول الاختلاف مع الآخر ومواجهته عبر محاورته وطمس المرجعيات الضيقة .

يقول الفيلسوف إزيك: لا يمكن للفكر ان يحيا إلا إذا كان ذلك التسامح بين كل الأطراف هذا ما يسعي الكتاب إلي ترسيخه :

وكل ما شملته الخليقة
سيصافح بعضه بعضا (ص 70)
مد لي يدك يا أخي المنبوذ (ص 96 )

أخي
مد لي يدك (ص 79 )

أعرفك جيدا يا أخي
لقد التقينا مرارا
جمعتنا المحن (ص 100 )

إنها ثقافة التجاوز والتعالي عن الصغائر ونسيان الأخطاء القديمة وطي تلك الصفحات غير المرغوب فيها مهما كان حجمها وعددها، فالإنسان بمقدوره أن ينسي شرط أن يجد بديلا قادرا علي أن ينسي :

فيما بيننا
سيتسع حقل النسيان
ولن يصمد أي شيء
في وجه أعشابه الهوجاء (ص 75 )

إنها فكرة دافيد هيوم: القول بالوحدة دون الاختلاف ما هو إلا جهل تلك التي يبلورها هذا السطر الشعري لعبد اللطيف اللعبي :

أعيش واترك غيري يعيش (ص 109 )
وفلسفة فرانسوا: بالرغم من هذا الاختلاف فالإنسان يظل يساوي نفسه هي التي تشع خلف هذه الشذرة :

الإنسان الأول
هو أيضا الأخير (ص 74 )

إنها مهمة عبد اللطيف اللعبي في الحياة والكتابة: الانفتاح علي الأخر والتفاعل مع ثقافته والتحول إلي بوابة أو جسر بين اللغات والثقافات، لا يؤمن الشعر هنا بالهوية الضيقة للكائن ولكتابته، لذلك لن تجد إحالة علي مكان أو زمان سوي المكان القيامي أو مكان التكوين (الكون)، أما الزمان في النص فهو زمان مطلق، أو ما يسميه الشاعر في إحدى شذراته: خارج الزمان .
يعود الكاتب في نصه الملحمي إلى ما قبل الكتابة وما قبل اللغة وما قبل التواجد الإنساني ليعاين الحركة الأولى في الكون :

في البدء كانت الصرخة
وإذا بالشقاق قد حل

ليشرع في وصف التكوين الأول للعناصر: الماء والنار وتجلي الشكل وانفصال الأرض عن السماء والبر عن اليابسة، أو ما سيسميه بـ معارك الانفصال الشنيعة غير أن القارئ سيلتبس عليه الأمر ولا يدري إن كان يشهد بداية العالم (لحظة التكوين) أو نهايته (لحظة الفناء)، فمقاطع كهاته تجعلك تنتقل من أول الزمان إلي آخره :

الجميع يزدري الجميع
كل واحد سيصل دوره (ص 6 )
وبالفكين الكالحين
كانت كل موجة تقطع اللحم الحي
تجهز علي آخر الهمهمات
تبهم العالم وتشتط في ذلك (ص8 )

ألا تشي هذه السطور بانقراض الكائن ونهايته؟ غير ان اللعبي سيضعنا أمام أحداث لم نكن نتوقعها في تاريخ التكوين، فبعد اشتداد الظلمة واندلاع البروق وتحرك النيازك علي مدار الزمن الذي تستغرقه المحن الكبرى سوف تتراجع الأمواج عما كانت تفعله بالخليقة وربما لهذا السبب سمي كتابه شذرات من سفر تكوين منسي فهناك أشياء منسية سيقولها الشعر إن لم تقلها المجالات الأخرى للمعرفة .
يحلو لي ان أجازف في قراءة خاصة لهذا الكتاب عبر مقاربة تأويلية موجزة تبدو لي هي الأنسب لفك رموز هذا العمل، فعن أية نار وأية زلازل يتحدث عبد اللطيف اللعبي؟ أي تكوين هذا وأية أمواج تلك؟ أية صرخة وأي خراب؟ من هي الكائنات الهجينة؟ ومن هو الوحش الذي لا يوصف؟ من هو الطائر الصغير المسلوخ؟ هذا ما يقوله النص ، بل يقول أكثر من ذلك، فثمة الكسوف والتماثيل التي تسرنم، العفاريت والفرار الجماعي والميتات المشتبه في أمرها، هناك النساء والفقراء والأطفال الساديون والشبان الذين شاخوا قبل الأوان، المؤمنون، الجلادون والمتقاعدون الذين أصبحوا أجدادا وبستانيين مهرة، الجنرالات، القتلة، محترفات الإجهاض، صانعو الفساد ..
ألا تحيل كل هذه القرائن اللفظية علي التجربة التي عاشها اللعبي ومجايلوه إبان ما سيسمي لاحقا بسنوات الرصاص، سنوات القمع والاعتقالات والانتهاكات الجسيمة ومحاصرة الأفكار واغتيال الأحلام الجماعية؟ وللقارئ الذي تحلو له قراءة التاريخ عن طرق الأدب أن يقف علي أبواب هاته العوالم المظلمة في رواية الطاهر بنجلون تلك العتمة الباهرة المترجمة إلي العربية بعناية خاصة من لدن بسام حجار .
ما الذي بوسع الشاعر ان يقوله وهو يستعيد تلك التجربة بإشراقاتها وإخفاقاتها؟ يجيب عبد اللطيف اللعبي عن هذا السؤال في الصفحة السابعة والثمانين :

ما الذي يمكن لأسير ان يقول
عن أغلاله
عن أسفار التكوين المزيفة هذه
التي يجد نفسه في منتهاها
في نفس السفينة ذات الثقوب
صحبة نفس الرفاق
الذين يقاسمونه الحظ العاثر
مخدرين
متطلعين بلا جدوى إلي الأرض الموعودة؟ (ص87 )

لعل مهمة الشاعر هنا هي الشهادة علي ما وقع وتوثيقه، وهذا ينسجم تماما مع إيمانه وإيماننا معه بان النص الشعري العظيم يبقي حيا في الزمان والتاريخ أكثر من النصوص التاريخية نفسها .

مهمة الشاعر أيضا ـ خصوصا إذا كان من طينة عبد اللطيف اللعبي ـ ان يفتح صفحات الأسفار الحقيقية لا الأسفار المزيفة وان يحمل ما يبدو للآخرين هامشا ويجعله في عداد المتون لأنه هو الحقيقة وأن يكشف ما قد يغطيه غبار الأيام :

ما أحتفظ به
ليس الذي حاز السيادة
بل ما بزغ هنا وهناك
وكاد أن ينشر ضوءه
لكنه ضاع في الطريق. (ص104 )

مهمته أن ينقي عن الجمال ويحتفل به وسط هذا العالم الضاج بالبشاعة والقبح، قد يبدو ذلك وهما، لكنه الحقيقة، فإذا سار الجميع في المواكب المزيفة التي تقيم للرداءة الأعراس والمهرجانات وتقيم للعنق الشفاف للجمال المقاصل والمشانق فمن سيتخلف عن الموكب وأي نزيه هذا سيقول للحشد: إنكم تسيرون في الاتجاه الخطأ سوي رجل أرهقه ذل الصمت وأرهقه ثقل المبادئ الجميلة التي تربي عليها وظل متشبثا بها في وقت انهار فيه سقف المبادئ علي جل العابرين :

إنني هنا
في الهامش الذي اختارني
ماسكا الزهرة
التي نمت
في الاسمنت ص107

يريد عبد اللطيف اللعبي أن يغمض عينيه علي الظلمة ويفتحهما علي صباح جديد مدركا هو ومجايلوه ومن جاؤوا بعده أن بابا يغلق في الخلف وآخر يفتح في الأمام :

آن أوان إغلاق القوس
إيقاف اللزمة
بيع الأثاث
تنظيف الغرفة
إفراغ صناديق القمامة

آن أوان فتح القفص
حيث طيور الكناري
التي منحتني أغاريدها (ص 112 )

في شذرات سفر تكوين منسي كما في شجون الدار البيضاء وفي رائعته الشمس تحتضر يليه احتضان العالم وفي كل أعماله الشعرية يكتب عبد اللطيف اللعبي بعيدا عما يكتبه معظم الشعراء المغاربة وخاصة مجايليه بمسافة يصعب قياسها، يكتب الرجل بوعي حاد وبرؤية نافذة وبإحساس خاص باللغة واحترام كبير للكتابة، يبدو لي الرجل أحيانا مثل نحات حكيم يشتغل في ورشته بفائض الإيمان بجدوى ما تفعله يداه ومعهما بقية الجوارح موقنا أيما يقين أن تلك التماثيل قادرة علي الحركة .
أشير في النهاية إلي أن ترجمة الكتاب من الفرنسية إلي العربية أنجزها شاعر مهم يشتغل كثيرا علي كتابات اللعبي وأشباهه مثلما يشتغل علي نصوصه دون ضوضاء، أقصد طبعا الرائع مبارك وساط .

شذرات من سفر تكوين منسي، منشورات الموجة 2004

khassar@hotmail.com

القدس العربي - 2005/07/25