عبد القادر حميدة

عبدالقادر حميدةرحلة تحتفي بتفاصيلها ، غوص في البحث عن المعاني الممكنة لتجليات الأشياء ، عبث، بكاء، صخب، حزن، عنف، صدام، حس، تملص، سحر، غيرة، أجواء متباينة، أمكنة تظهر عبر أمكنة أخري، ثم تغيب في زحام المعاني، دلافين هنا وهناك، ملساء وخشنة، ظاهرة ومستترة، ملطخة ونقية، حاضرة، وغائبة، بسيطة ومزركشة، بل مستحيلة وممكنة، إنها رحلة لايمكنها أن تنتهي، بعد أن تفرعت وتعددت بداياتها، رحلة أبطالها ثلاثة: الرجل الطويل احمد الجساسي، والرجل القصير خالد اللحياني، الأول جريء حد الوقاحة، ومهذار حد الصفاقة ، يعني الأشياء التي يقولها، يمشي علي أرض واقعية بلا خيارات زائفة، يحب ويكره بطريقته المباشرة، والبسيطة، ويعرض نفسه من الوهلة الاولي بكل عفوية، وتلقائية، وانسجام، أما الثاني، وما أدراك ما الثاني، هل هو البطل أم الكاتب نفسه؟..،
خجول، شاعر، يهيم في التفاصيل، يعشق حد الجنون، ويجن حد العشق، يري الاشياء التي لايراها الآخرون، يعني المعاني جميعها ويقول حين يعنيها، يبصر الماء، فيفرح ، لكنه حين الدنو يجد السراب.. كم كان وحيدا بأناقته المفرطة وهو يقرأ قصائده علي المنصة، ويبحث عن وجه حبيبته دون جدوي، حتي شعر في لحظة حاسمة انه يقرأ أمام مقاعد خشبية فارغة!.. 'ص15'.. انه رجل هذه الرواية، فهو إلي جانب ذلك' شاعر شفيف، يحب البحر والرقص، والغناء، والقصائد..' ص..27 وهو مدرس جعرافيا، يؤجر غرفة صغيرة'.. في بلدة حقل الساحلية المطلة علي جبال سيناء..' ص..42 لكن الرواية لاتدور أحداثها في هذه البلدة، حتي وان كانت تشكل إحدي لوحاتها بانزياح مخيالي استردادي، بل انها حياة وصخب، مطارات، أجناس، مومسات ومراهقين، فضاءات شرقية وأخري غربية، توابل تحمل الدفء، ذكريات صاخبة وأمنيات باردة.. إنها بلدة حقل، ودبي، ولندن، والقاهرة، وخصوصا القاهرة.. فالبطل هنا ليس مصطفي سعيد الذاهب إلي هناك، إلي ما وراء البحار في موسم الهجرة إلي الشمال، بل انه خالد اللحيان الذاهب من هنا إلي هنا، رحلة لاتعتد بالجغرافيا، بقدر ماتعتد بالتاريخ، سفر في المكان، إنه الشرق، هذا العصفور سيطير من عش إلي عش في فضاء شرقي بحت، وبحثا عن معان لدلفين حمل مالايحصي من الأسماء والمعاني في هذه النزهة.. لكن علي الرغم من ذلك فأجواء مصطفي سعيد لاتغيب عن هذه الرحلة، بل تطل برائحتها من حين لآخر، ألم يرود اللحياني ماجري له في لندن، هناك'.. حيث العشاق يضطجعون علي عشب الحدائق، ويدخلون في برزخ العناق الطويل في الشوارع، ويقطفون قبلا طويلة، وخاشعة في المتاجر أو علي الطرقات العامة، وهم لايشعرون بالعالم من حولهم.. ' ص..39
أما هي .. فكانت البطل الثالث، عليها تنافس المتنافسان.. وان كنا في الحقيقة لانعيش في الرواية إلا تفاعلات شاعرنا واحزانه، ارتباكاته وأشجانه، ونرصد من خلاله كل اللحظات، وخاصة بالبدايات الصعبة، والمستحيلة أحيانا، فهو يؤكد أن '.. كل الخطوات الأولي المنتظرة في العشق لها طعم التوت ورائحة الجوافة..' ص28
هي .. آمنة.. المرأة القادمة من مدينة بهلا إلي القاهرة في مهمة صحفية، ابنة امرأة جميلة جدا الي الحد الذي جعل والدها يترك تجارته وأمواله ليلاحقها، يقول اولاده الكبار أن أم آمنة'.. صنعت له سحرا أسود ، فهجر بيته وأولاده وزوجته الأولي، وصار يلهج باسمها: فاطمة 'ص..21 لأنها من'.. مدينة اشتهرت بالسحرة، ذات جبل اسمه كور، فيه نهر صغير ينساب أسبوعا للإنس وينضب أسبوعا آخر.. لكنه كان ينساب بشكل لامرئي للجن..' ص..21
هي آمنة إذن.. من سحرت شاعرنا بدلفينها القرنفلي فهام علي وجهه في القاهرة.. ساحرة جعلت الرواية من بدايتها إلي نهايتها، وان كنا نجزم أنها لم تنته بعد، بل نعتقد أن الروائي يوسف المحيميد سكت عن الكلام المباح، لانه سيتجلي حتما عند الصباح برواية أخري، فلا يمكن للساحرة أن تنضب اجواءها.. وذلك ما شعرناه وشدنا، فجعلنا نرمل وراء محطات الرواية، ونغذ السير في حواري القاهرة ولياليها الصاخبة، ترصدا لحركة الثلاثية.. ألم تبتديء الرواية بعبارة كأنها الشعر، عبارة تستحق أكثر من وقفة تأمل، وأكثر من قراءة:
كانوا ثلاثة
امرأة ورجلين..
وربما هذه هي كل الحكاية،، وربما هذه هي واسطة عقد الحكاية.. وربما هذا هو المفتاح لقفل الحكاية.. او شفرتها..
وإذا كنا قد أدركنا سر الحكاية، فلا مناص من ان نعرج علي بعض ألوانها، وزواياها، وتجلياتها.. فأم خالد اللحياني'.. كانت تفتقده في تبوك كل عطلة نهاية أسبوع، وتبكي، حتي عرفت انه ترك عمله في المدرسة الابتدائية، ونسي خرائط جغرافية العالم، ولم يبق امامه سوي خريطة كفين سمراوين..' ص42
ولو أن المعركة بينه وبين الجساسي كانت لصالحه لهان الأمر، ولكن آمنة تعترف في هدوء في أحد التواءات الرواية '.. لا أعرف إن كنت أحبه مثلك أو أقل أو أقل من حبك قليلا..' ف '.. كان خالد لايكف عن البكاء الصامت، لحظة ان اكتشف خيانة أنثاه الدلفين.. 'ص ..45 ثم مانلبث أن نجد تأكيد ذلك في موضع آخر '.. يبكي بطريقة تشبه صمته.' ص..78
هذا الخجول، المرتبك ، المتناقض، بطل حقيقي، نحس فيه ، صراع الشباب الحالي، ونقائضه، أحلامه، وخيالاته.. بينما نجد في الجساسي صرامة رولان بارت، وتفكيك دريدا، إنه وجه آخر من وجوه التناقض '.. لقد وقف مرارا علي منبر الجامع خطيبا في صلاة الجمعة مطلع الثمانينات الميلادية..' ص..97 و'. كان سيصبح قياديا إخوانيا، لولا أن وشي به زميله بأنه يسمع المذكرات في غرفة السكن، حتي وبخوه حول سماع الموسيقي، لكنه أصر..' ص..98
كان أحمد الجساسي إذن إخوانيا يحب فيروز، ويعلن حبه بكل جرأة وفي كل ظرف.. أما خالد اللحياني فكان لايخفي تعدد مشاربه وسعة اطلاعه، بل وسلامة ذوقه ودقة نقده.. 'أغوص ليلا في دواوين محمود درويش وسعدي يوسف أكثر مما أقرأ صفحات الرياضة والثقافية في صحفنا البلدية..' ص66و وكان إلي جانب ذلك يكتب الشعر، وتتجه قصيدته نحو التفاصيل اليومية الصغيرة، مستعملا أشياء من محيط قريب، كالزعتر البلدي وزيتون نابلس ف بيت أم محمود والدة صديق طفولته الطفل الفلسطيني محمود..
لكن علي الرغم من كل ذلك فقد كان كل من أحمد وخالد، متربصين ببعضهما، متحفزين، فقد 'كانا محملين بالشك..' ص75
وظلت رحلة يوسف المحيميد التي اعتبرها نزهة فقط، ظلت تعتمل بصراع روحي وجسدي وفكري، تعكس بصدق ماتموج فيه الأمة العربية بأكملها، ممثلة في الأمكنة التي تظهر وتختفي، وفي هؤلاء الثلاثة، الذين من خلال تدافعهم ليست سوي قلب عربي نابض لجسد مترامي الأطراف، به مس من فوضي ووهن ، ويعتريه ذبول وخمول، وتداخل في المفاهيم والارادات، عجينة ندركها حين نسافر مع الشاعر المرهف خالد اللحياني إلي أدق التفاصيل والأحاسيس والهواجس، عوالم نحس فيها بوجود كونديرا وشاعرة جاروميل في الحياة هي في مكان آخر).. 'هكذا هي يوميات القاهرة، متقطعة ومتصلة بخيط لامرئي، كما لو كانت رواية لميلان كونديرا ، متنثرة الانحاء كالشظايا، لكن رؤيتها عن بعد تكشف خيوطها الخفية.. 'ص..113 ونجد أيضا جارسيا ماركيز حاضرا بفراشاته الصفراء..' في غرفته بالطابق الثالث بكي الشاعر حتي أربك الفراشات الصفراء علي ستارة النافذة..' ص..73
إنها رحلة فسلفة ونقد.. أليس العالم كله مجرد سجن مزين بأشجار وبيوت ومدارس وعربات وشوارع وجرائد وخطب..'.. رحلة نقد جريء وخفي، لم يسلم من حضور الوهج السياسي وانتقاده، فنجد النكتة حول الرئيس وإشارات واضحة لأيمن نور ، بل فيها استثارة لهموم سياسية واقعية حالية مثل مقتل الحريري.. وربما هي الرواية الأولي عربيا التي تلقفت هذا الحدث!! وهم يتهمون الآخرين في مقتل الحريري، كل شيء كان مخزنا للهم، بيروت وقلبه وبلدة حقل والمدرسة الابتدائية فيها.. ط ص 55 بل ان الهم لايبقي في بلدة حقل ولا في حادثة واحدة، فهو ممتد امتداد هذا الجسد العربي، انه . يمتد من ساحة الشهداء في بيروت حتي حي السلمانية في تبوك.. ص.56
وهي أيضا رحلة نقد اجتماعي، وتعرية لبؤس ما.. عند الإشارة شحاذة عجوز تحمل طفلا غزير الشعر ومتسخة، بثوب صوف عتيق رغم حرارة الطقس.. 'ص..89 ورحلة نقد لواقع أدبي، حيث يصف خالد نفسه بأنه' لم يدخل مساحات الشعراء المتكسبين من شعرهم.. ' ص86، ويلخص أن أقصي أمنية له ولجيله من الأدباء والشعراء النزهاء قائلا: أريد أن أكتب قصائدي وأسافر في العالم واحب واحيا..' ص..92
وإذا أردت أن تعيش خشوعا آخر، وتنساب دموعك علي الرغم منك، فإن المقطع 24 من الرواية، يحملك إلي اجواء اخري، أجواء فقد الأخ الصغير جمال، يا لها من لوحة رهيبة، رسمها الروائي بقلب شاعر وكلماته، إنك سترتبك منذ بداية الحكاية حين شهق جمال الصغير 'بغتة وبكي طوال اليوم' بعد تلقيه ضربة قوية علي ظهره من قبضة والد خالد لأنه مد يده الصغيرة إلي الطعام قبل الآخرين.. لكن الوالد بعد أن ضربه لم يأبه به بل 'قام يتجشأ في رعونة'. ص..102
من يومها لم يعد جمال يبكي، بل أصبح في أحلام خالد.. وهو يضحك ويدور ويصفق بيديه.. بل ويتحدث أيضا ليخبرنا انه لم يمت صحيح أن قبضة أبي ثقيلة جدا جعلت أمعاني تضطرب وقصبتي الهوائية تنخلع من مكانها، إلا أنني قاومت الموت بقوة ، وها أنت ذا تراني بجوارك أغني وارقص: وهيلا يارمانة.. الحلوة زعلانه.. 'ص103 لكن في الحقيقة لافي حلم الكاتب فجمال الصغير أغفي في اليوم السادس بهدوء وبكت أم خالد طويلا 'ومازالت تبكي حتي الآن' ص..102
ولعل حكاية الصغير جمال ، تبرز بوضوح رغبة قتل الأب، وعداه، عند خالد، حتي أنه يلقبه صراحة بلقب بذيء يلقبه ب 'حمار' في الصفحات 105/ ..106 وهنا لامناص من تذكر صاحب رائعة (الخبز الحافي) الراحل محمد شكري، الذي يتقاطع مع خالد اللحياني بطل رواية (نزهة الدلفين) في هذه النقطة.

اخبار الأدب
الاحد 15 اكتوبر 2006