(عماد فؤاد في: بكدمة زرقاء من عضة الندم)

أكرم قطريب
(سوريا/ نيويورك)

عماد فؤادملك الملوك أنا
صولجاني مشهر في يدي
ونصل خنجري لا يستثني أحدا
عرشي لا يزول
ويسمونني: الألم

ربما لن نستطيع أن نتعلم ما هو الشعر أو تلك اللحظة التي لن نسكنها بالأصابع المعقوفة، هنا في اللغة الأصل للخراب الشخصي أو خيبات الأمل التي ترتجف لها الشفاه سندرك كنهه وأصداء الأسلاف المعلقة داخل الإطار المذهب حيث لن يمكن لأحد أن ينقذ الآخر من الغرق في ديوان الشاعر عماد فؤاد: بكدمة زرقاء من عضة الندم ـ دار شرقيات، القاهرة 2005 ثمة ما يوجع في هذه الرحابة اللامتناهيةپللجسد، لأعماله ولذته وخساراته، في المد والجزر، في التألم والقسوة والوحشة الضاربة في أعماقه دون مستند. علي هذا النحو في اللغة التي لم تتغير كثيرا مع الزمن ومع التغيرات الاجتماعية استطاع أن يأسرها بالعبث والحزن أحيانا والمرح في أماكن أخري، والعاطفة باعتبارها عملا من أعمال القلب. وهنا إزاء كل هذه الشعرية العميقة سيرتبط النص بالسديم الخفي للحدث اللغوي يعيد صناعته علي مهل والذي سيكون الركيزة الأساسية لصياغة المعني والوصايا:

قالت له أمه
لتكن تلك اتكاءتك في البعيد
صوتك الذي ترفعه خفية في الظلام
يدك التي تبطش بها الآخرين
ودمعتك التي تبكيها عليهم . ص74.

ثمة عصيان ما يغلف القصائد، عصيان مبسط ومجرد وشديد الأثر هنا في كل مكان حيث تترعرع التراجيديا والخلاعة والحسية المأخوذة من زمن الجسد، هنا باللغة الحائرة ثمة علامة سرية تتلاشي بوجوده المؤلم والمحير معا، جسد معذب وممسوس في لقاءات مرئية وكاسرة. اللغة والمجاز وجماليات الغنائية الفضفاضة جميعها مصاغ في حكايته الشعرية برهة من جمال الفكرة، وبرهة لذلك التناوب بين السرد والحبكة البسيطة في النهايات الواسعة. ثمة راو ماهر يختفي تحت جبة الشاعر اللاهث وراء التعبير المضطرب وان كان يحاول أنپيخفي النسب الأصلي لذريعة التداعي والمكان العارض وقوة العاطفة واحتدامها. لأقل كل هذه الانفعالات الذكية كانت تقبض علي مثيلها الجمالي في لغة محسوبة لا بالفصاحة وإنما بالهباء المرمي بعناية. كتابة مشغولة هي بنت حساسية جديدة في الشعر المصري ملفتة مثل هدي حسين وإيمان مرسال وجرجس شكري وآخرين، وتمرس علي أن يكون الشاعر شاعرا في مدينة افتراضية ولكن ليست لها أية حدود، حيث ما لا نستطيع وببساطة تامة لن يكون هنالك حافة نجاة محتملة طالما قبلنا بالإقامة في المناطق التي يمر فيها الطوفان علي حين غرة. فكل آثار الجمالية لن تمحو علاقة الفن بالحياة بل هي أحد أهم مصادرهما. والشعر برأيي لن تكفيه شياطين وادي عبقر ليكتفي بنفسه، ويكرس نوعا من انعزالية اصطدمت بجدران اللغة والنحو الشعري المركب. انه ليس سفرا كولومبيا، بل واحد من بنائي مستعمرات الجمال علي الأرض. تقودنا قراءة الكتاب الي التأرجح الأسلوبي بين مستويين في طريقة استخدام اللغة: ـ مستوي بلاغي تتخلله الحكمة ورؤية العالم من فوق، ومستوي تأخذ فيه اللغة دور الراوي في الوصف والسرد والعيش. فبين قصيدتين هما: لاعب الشطرنج... ذو الابتسامة و كنبع وحيد في الرمال ثمة صوتان أو لأقل زمنان لكل منهما: الأولي مشغولة في رسم ملامح الأجنبي، ابن سلالة الفلاحين... الكهل الذي أسره عساكر هتلر وسحبوه عنوة الي خرائب ألمانيا. أما الثانية فيتخللها النفس الملحمي في زمن قصير، زمن مبتور، مكتوب علي سرعة وتبرم قام بإنهائه في اللحظة التي كان عليه أن يكمل، فظهرت الشخوص المقصود الكتابة عنها ككائناتپنسيان بامتياز: رومانسيون بالسليقة وحزانى بالفطرة وبريئون فظهر الخطأ هنا كنوع من كفاءة شعرية كسرت الاسترسال المحتمل وغيرت وجهته علي هذا الشكل الضال والمنقح في هذه الصيغة المفارقة سنشعر بقوة الزمن المهزوم داخل كل قصيدة، زمن هارب وملتاع أفلت من الرومانس والعرافة مكتفيا بذلك الصرير القاسي للاستعارة داخل الكلمات، بنسخة الجسد المحترقة الممسوكة باليد، مطلا علي الماوراء المقيم في الجانب الآخر من الواقع وهو يقرب الأصوات والأشكال والمدن والأشخاص والضفاف الي بعضها كما يفرقها في أحوال أخري، سنصغي الي المد والفقدان والضحك المر الذي هو نوع من رسوم تخطيطية لطيور المجاز المحلقة علي ارتفاع منخفض. فمن الكهل ابن الستين الذي شرب السجائر الأمريكية المهربة مع الأتراك الأجلاف في ضواحي موسكو القديمة، الي سيدة البيت التي كلما فتحت شفتيها تعلم البنات، الي الذي قالت له أمه: يدك التي تبطش بها الآخرين ودمعتك التي تبكيها عليهم . ففي صيغة الوجود هذه تلتمع المناطق الغامضة، التي يمشي فيها الغريب، الابن الضال لحداثة غير مشروطة والذي يحاول دخول العالم العام والانخراط في مجراه يذكرني برحلة بحث سنتياغو الراعي الأندلسي عن كنز مدفون قرب الأهرامات في رواية الخيميائي لباولو كويلو في: بكدمة زرقاء من عضة الندم يكشف عماد فؤاد عن البعد الثالث لتجربة تقبل العالم لا رفضه، وكلپالمعني المرسوم في القصيدة هو نوع من حنان وحيرة وارتباك دون أن يتلاشي أو يتبدد، الماضي والأحاديث ووجوه النساء القرمزية المشبوبة الي بورتريهات الوحشة وصورة السنوات المكسورة الإطار أمام الجمال الغريب، المكثف، والمتوحش حين يضيئها كل ما هو شخصي، مرمي في تلك الحدود الفاصلة بين الفن وبين ما هو معاش.

القدس العربي
2005/11/04