أحمد فرشوخ
(المغرب)

 يشكل كتاب الثقافة المغربية: علامات بعد علامات للدكتور عبد الرحمن بن زيدان نمطا جديدا في التأليف، تندرج ضمنه حوارات تبحث في المسرح والشعر والرواية والقصة والسينما والموسيقي والنقد. وهي حوارات يمكن اعتبارها نصوصا موازية لأعمال المبدعين المحاورين، تستكشف وعيهم وإحساسهم وخيالهم وخبرتهم بالنصوص والعلامات والأشكال، كما تشخص شذرات من سيرهم الذاتية والفنية وملامح من منظورهم وفلسفتهم تجاه الإبداع والحياة. ومن ثم استعادة صوت الفنان بوصفه ذاتا حية تعبر الكتابة والأثر فتخصصهما بمعيشها ورمزيتها ومعرفتها. ذلك أن مساحة الحوار متعددة الأبعاد، متداخلة الظلال، فيها يحصل التقاء الذات بالآخر والفن، دون أن ننسي حوار الأنا مع نفسها. وإذا كان كتاب الثقافة المغربية: علامات بعد علامات قد آثر هذا الأسلوب في التأليف، فلأنه اعتبر الحوار إستراتيجية ناجعة لاستنطاقه الثقافة المغربية، مرغما كل ما يرغبه في الصمت، علي الكلام بصوت عال. وكل ذلك لأجل استكشاف القوة الثقافية للمغرب، وقراءة الترابط الخفي بين الأدب والمسرح والسينما والموسيقي من جهة، وبين هذه الأشكال التعبيرية والتاريخ والمجتمع والسياسة من جهة أخري.

هكذا نكون أمام كيانات ثلاثة تشمل النص والمجتمع والنقد.وعن تفاعلها تنبثق أسئلة ذات علاقة ببعضها البعض وهي:
ـ ما درجة تشابك النص مع المجتمع، وما عمق إدماج النص للعناصر الاجتماعية؟
ـ كيف يتنوع هذا التشابك بالنسبة للأعمال المختلفة، والأنماط الفنية المتباينة؟
ـ كيف يتغير هذا بمرور الزمن مع استجابة النقاد والمتلقين الذين يعيدون إبداع النص ويمنحونه حياة جديدة؟.

وسؤال الاشتباك هذا، يرد بقوة في مقدمة المؤلف للكتاب، التي يمكن اعتبارها تأطيرا نقديا وتحليليا لمجموع عناصر الحوارات وقضاياها وإشكالاتها. ففيها يؤكد الباحث علي تاريخية الإبداع المغربي: أي علي علاقة النصوص بشروطها المكانية والزمانية، وتورطها في شبكة العلاقات السياسية ـ الاجتماعية المعقدة: الشيء الذي يعني ضرورة تخلص القراءة من سجن التخصص والحدود المعرفية العازلة... والانخراط بالتالي ضمن تلق يهتم أساسا بعلامات الذاكرة والجغرافيا والمكان والمتخيل اللاّحم لسردية المجتمع الكبرى.

ولا شك أن ترداد الباحث القوي لمفهوم التاريخ ضمن مقدمة الكتاب، إنما ينم عن رغبة قوية في التأكيد علي علاقة الإبداع بالمجتمع، مخترقا بذلك انغلاق المقاربات العازلة للنصوص والعلامات، رافضا اعتبار الفن مادة مطهرة ومعقمة، لكنه يحذر في ذات الآن من السقوط في الانعكاس المرآوي والتفريط في الجمال الإبداعي.
لذا نلفيه يعتبر الكتابة الإبداعية علامة منخرطة في الصراع الاجتماعي، متجذرة في الشبكة الثقافية السياسية، ولا يحصل ذلك سوي بقوة الإبداع وجاذبيته وقدرته علي التأثير بمختلف مستوياته.

وتاريخية الإبداع، في منظور الدكتور عبدالرحمن بن زيدان، تتضمن تلاوين شتي من المعاني المتراكبة: فهي تفيد إنتاج ما يسميه بـ المعني الآخر للمغرب ، هذا المعني المنبثق عن ظاهر النصوص ومضمرها (ص 11)، وكذا عن أدبية النصوص و كلامها الخاص وكرامتها الفنية، والتي بفضلها تشق طريقها في المجتمع. كما تفيد (أي التاريخية) نوعية ومستوي اتصال الأعمال الفنية بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية. وأخيرا تعني السمة الفنية والجمالية بما هي نتاج ذوق مرحلة وعصر، وهو ما يجعل صورة الواقع المغربي، مثلا، تتحقق ـ علي حد تعبير المؤلف ـ بكلام الشعر ولا تتكون بلغة المجتمع المسيس.

وبهذا المعني يغدو المغرب ـ حسب مقدمة الكتاب ـ أفقا للتفكير الإبداعي، بحيث تلتقي الذاكرة والأرض، وتعاد كتابة جغرافيا المغرب بقوة التاريخ والخيال. ومن هنا نحس بعد قراءتنا لحوارات الكتاب أن المغرب غدا ينبوعا للفن ومجالا للفكر، بحيث أصغي الكتاب والمبدعون، وهم يجيبون عن أسئلة الباحث، لهذا الفضاء الثقافي وهو يرن في لغته الفنية الخاصة.

وفي اقتران بمسألة التاريخ، يركز المؤلف علي مفهوم المتخيل ، بما هو رهان ثقافي مختلف، يغتني ضمن حقول إبداعية متباينة، تطاول التحليل النفسي والتاريخي والاجتماعي والاناسي. وبما هو أيضا مبحث خصب، يسهم في دعم المعرفة الأدبية وتقويتها، بعد أن ظل (أي المتخيل) مهمّشا لردح طويل من الزمن في النقد المغربي والعربي، لذا فان الإنصاف المعرفي للخيال يعد تحريرا للواقع، اذ بواسطته نمنح الأسبقية لمنابع الحياة والحركة والتجدد، بحيث نكتشف عوالم أخري هي التي عبّر عنها المؤلف في مقدمته بـ المدنس والمحرم والصامت والممنوع والمقصي كما عبر عنها الكتّاب المحاورون من خلال حديثهم عن الرموز والأحلام والرغائب والأوهام والعلامات الغائرة في الذاكرة والوجدان.

وبهذا المعني يفتح كتاب: الثقافة المغربية علامات بعد علامات نوافذ تسعف بمعرفة الطريقة التي تفكر بها الثقافة المغربية في نفسها. وبالتالي معرفة المتخيل الاجتماعي المشخص ضمن الإبداع المغربي، والذي يفيد في توليد معرفة عميقة ومختلفة، تحفز القارئ والدارس علي اكتشاف ما يسميه عبد الله العروي بعقدة الشعوب ، وعليه، يمكن للثقافة المغربية بمختلف تجلياتها وتعبيراتها أن تفتح مجالا خصبا من البحث في ما يجهله الشعب المغربي عن نفسه علي مستوي الوعي، لكنه يعبر عنه في مروياته وسروده وأشعاره ومسرحياته وموسيقاه، الأمر الذي يعني قدرة الإبداع علي تشخيص السلوك اللاواعي للمجتمع، السلوك الموروث، المتخفي ضمن طبقات غائرة لها أثرها في الجسد والذاكرة والوجدان، اذ من المدهش أن نعرف أن السلوك النفسي للشعوب يتّسم بالتعقيد الشديد، وبالغموض العميق، بل وبالمفارقة العجيبة، فمن أدرانا أن الفضائل الحقيقية للشعب لا تدرك الا عبر الإبداع؟ ولم لا تسعي لاستكشاف تلك المشكلة الفكرية والوجدانية الغائرة التي تظل رغم تعقدها تجذب المبدعين المغاربة وتتحداهم، لكنها تحفزهم بقوة علي الإبداع والتفكير؟

ومن العبارات النقدية اللافتة في مقدمة الكتاب، عبارة التحوّل التي وردت ضمن سياق ابداء المؤلف لرغبته في اكمال مشروع الأديب اللبناني بول شاوول الموسوم بـ: علامات من الثقافة المغربية . يقول الدكتور عبد الرحمن بن زيدان: (وقد أثار انتباهي بعد قراءة هذا الكتاب، أن المساهمة في خلق استمرارية المشروع تتطلب، التأريخ للذاكرة الثقافية المغربية إكمالا للمشروع الذي بدأه بول شاوول، خصوصا وأن التحوّل الذي عرفه الحقل الثقافي المغربي، يتطلب هذا التأريخ، لأنه تحول محكوم بجرأة المبدعين المغاربة، وبأسئلتهم العميقة، وبغني تجاربهم التي تضيف ولا تكرر الخطابات السائدة...).

هكذا تغدو الرغبة في تشخيص تحوّل الثقافة المغربية، النواة الوجدانية والمعرفية للكتاب، ذلك أن التحوّل إبدال للبنية الثقافية وتجريب لممكناتها. وهو بالتالي معبر للوقوف عند إشكالية القديم والجديد، الشيء الذي يفيدنا في تشخيص الوعي الفني للمبدعين المغاربة، وطرائق تفاعلهم مع الموروث والمستحدث، وكذا مع النماذج والقواعد. إضافة إلى صيغ انزياحهم عن المعيار ومقاومتهم لأنماط السلطة وتمظهرات الايدولوجيا وتجليات الحسّ المشترك والوعي الزائف.

وإذا كانت المقدمة التأطيرية قد أولت عناية مميزة للمفاهيم النقدية المنبثقة عن الثقافة، فلأن طموح الكتاب يتجه صوب استبدال الانتساب الثقافي بالنسب العرقي، ذلك أن العمق المعرفي للحوارات، يمكننا من التمييز بين الموروث والمكتسب: أي بين النسب Aribution Filiation الدال علي ميراث الإنسان/الكاتب، وبين الانتساب Affiliation الدال علي تحصيله. وهذان المصطلحان يمثلان نوعين من الاندماج، فالأول يكون علي نمط العائلة، وهو نسب بيولوجي، فنحن نندرج في جماعة ما أو عائلة ما، لا لاختيارنا لها، بل لانحدارنا عنها، وهذا يترك آثاره علينا. وفي هذا النمط تشديد علي التدرج الهرمي، بحيث يكون رب العائلة وكبيرها هو صاحب الحل والعقد، ويكون الولاء له بدون تساؤل، وتكون العلاقات مبنية علي اعتبارات القرابة والعصبية. أما النمط الثاني: الانتساب، فهو يجمع الأفراد علي أساس فكري أو سياسي أو حرفي، بدافع التشابه النفسي، والتقارب الفكري، والهوية المهنية، وفيه تكون العلاقات مبنية علي الصداقة. وعوضا عن الولاء الملزم، نجد النقد البناء والحوار الاختلافي. وكتاب الثقافة المغربية علامات بعد علامات للدكتور عبد الرحمن بن زيدان يسعي للدفاع عن هذا النمط بالذات، حيث الكتاب والمبدعون، بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم وأجيالهم، أصدقاء حميمون ينتقون رابطا أقوي بجمعهم، يتحررون من موروثهم الطبيعي والغريزي والعصبي ليكتشفوا هوية جديدة تقوم علي الاختيار، يتحررون من روابطهم العائلية والطبقية والمحلية والعقدية ليحققوا التحرر الفكري والروحي، اذ ينتقلون من الجماعة العشائرية حيث الطاعة والإكراه، إلى المجتمع الثقافي المهذب والمتمدن، حيث المسؤولية والاختيار. وبالتالي ينتقلون من العائلة القائمة علي الدم والطبيعة إلى العائلة القائمة علي الوعي والفكر.

وإذا كان الدكتور عبدالرحمن بن زيدان قد أكّد في تأطيره للكتاب علي اشتباك الفنون المغربية بالمجتمع والتاريخ والسياسة؛فان هذا الاشتباك يغدو إشكاليا في حالة الموسيقي بالذات، اذ ليس ثمة سؤال في كل تاريخ جماليات الموسيقي أكثر مصدرا للإرباك من العلاقة بين الموسيقي والدلالات الاجتماعية والتاريخية التي تجسدها، وقد التف كثير من النقد الموسيقي، خاصة النقد الأكاديمي، حول المشكلة بنبذ المعني والتركيز علي البنيات الداخلية للأعمال الموسيقية، الا أننا لا نعدم في الحوارين المدرجين ضمن الكتاب إشارات قوية تؤكد تشابك الموسيقي المغربية مع التاريخ وإنتاجها للدلالة الثقافية، واقترانها بالتالي بمقومات الأمة المغربية وبأسئلة الفكر والحضارة.

القدس الغربي- 2006/08/08