علي الديري
(البحرين)

"أريد أن يمتزج قلبي مع يوم صيفي
كي أولد من جديد في تغريد طائر"
بهرام أوغلو
شاعر تركي

قندةتقوم رواية "قندة" الصادرة 2006 للمبدع البحريني حسين المحروس على جدل ثقافي بين شخصيتين، شخصية الفارسية بما تكتنزه من موهبة الحياة وبهجتها، وشخصية عباس البحراني بما يكتنزه من موهبة الموت وحزنه. وعبر هذا الجدل المستفز الذي تحركه الفارسية بقندتها، تتوضح ثقافة عباس البحرانية ومآزقها. ينتمي كل من عباس والفارسية إلى تراث واحد، هو التراث الشيعي الكربلائي، لكنهما يمثلانه تمثيلاً مغايراً، أو لنقل هما يثقفانه في هويتين متغايرتين، ورواية قندة تسرد علينا هذه المغايرة، بلغة شعرية بالغة البلاغة. ليست ثقافة عباس التي هي تجلي من تجليات هويته، مجموعةً من المعارف والمعلومات، بل هي نمط شخصيته وذائقته وعلاقته بجسده وسلوكه وحركته ونظرته إلى الحياة، كيف يصوغ السرد هذه الجدلية الثقافية؟ كيف يتبدَّى عباس في سرد الفارسية؟
في السرد تتبدَّى هوية عباس في ما يقابلها من هوية أخرى، وهي هوية الفارسية. يُمكّننا السرد من رؤية عناصر هذه الهوية (اللغة والدين والعرق) وهي تمثل وتشتغل وتصوغ وتفعل وتبرمج الذوات، يمكننا السرد من رؤيتها وهي تُنجز عباساً. لذلك فالسرد ليس مجرد أداة نقل وإخبار وإعلام، وليس مجرد لغة فنية وأدبية نبدعها بجماليات خاصة. السرد فعل نتفلسف به ونحلل به وننقد به ونفكك به ونفهم به. السرد صار معرفة نفهم من خلالها العالم وكائناته وعلاقاته وأحاثه.
يقوم السرد في رواية قندة بهذه الأفعال وينجز عبرها فعله الثقافي، حتى إنه يمكننا القول إن هذا السرد يجعل من عباس شخصية مفهومية تحيل على مجموعة من المعاني المركبة، وليس شخصاً واحداً، إنه مفهوم يتجلى في شخصيات متعددة لكنها تحيل إلى الشخصية نفسها، تماما كما المفهوم في الفلسفة يحيل إلى مصاديق متعددة وحالات متعددة. ما هو عباس؟
الصوت الذي يجيب على هذا السؤال هو صوت الفارسية بما يحمله من هوية مغايرة لهوية عباس، ما الذي تقوله هذه الفارسية؟
تقول له: "ضعيف أنت في رياضيات الجسد واللون.. كأي شاب في حيك يعرف الحزن أكثر من هزة الفراشات.. يشرب من ماء دموعه أكثر من ريق فتاته" (*)

عباس هو هذا الذاهب في مرارة الحزن، الذي لا يعرف ما الجسد، الضعيف في رياضيات الجسد واللون، ولا تعرف حواسه طعم القند. رواية قندة هي سرد يصف بتحليل بارع الدقة جسد عباس بحواسه المعطلة، تحاول الفارسية طوال الروية أن توقظ هذه الحواس، أن تشعلها، أن تعيد لها الحياة، أن تنفض ما ران عليها من غبار واقعة الكرب والبلاء "كأن جسدك يهمّ إلى قندتي الفارسية، فيطفئه غيرك. لم تكن ذاتك فيك. كأنك لا ترى القند...أضع القندة على السيرة فتنفتح"

تتفرس في هوية جسده، وتبحث عن هذا القابع فيه من تاريخ الحزن، تبحث عن هذا الذي يطفئ فيه ما تشعله هي بقندها، تستصرخ ذاته في كي يستعيدها كي يتمكن من رؤية القند وتذوقه. إنها تشعل حلاوة الحياة في ما غاب من ذاته وجسده. إنها تضع القند بكل ما يحمله من حياة متوهجة وحاسة مشتعلة بالذوق، وفرح مقبل على المستقبل، وشوق عارم إلى الجسد، تضعه على سيرته التي تحمل أمثولة الجسد الذاهب في الطهارة المقدسة وتحمل صهيل الفرس الذي خضب ناصيته بدم هذا الجسد وهو يحمحم ويصهل: الظليمة الظليمة لأمةٍ قتلت ابن بنت نبيها. سيرته التي تألف ماء الدموع أكثر من ألفتها ريق فتاة، سيرته المُرة التي لا تعرف طعم الأشياء الصغيرة ولا تتحسسها. تضع الفارسية قندتها فوق هذا السيرة لتفتحها، لتفتح ماءها وحواسها وما انغلق فيها من الحياة. إنها بهذا الفتح تُطهِّم سيرة عباس بقندها، لعله يفطن إلى إشارات كونها حيث جسدها عالم صغير "إن الشيء إذا تمكن أشار. وأنت لا تفطن إلى إشارات الكون من حولك، فثمة ما يغلقك ويحصنك ويحميك ويشفع لك ويقسو عليك ويمسخك. أنت موهبة الحزن، وأنا أدنو بك موهبةً على القند"
هي موهبة القند وهو موهبة الحزن، وقندها يدنو من حزنه الموهوب علها تهبه شيئاً من موهبتها. رواية قندة تسرد لحظات هذا الدنو الموهوب، تتعقبه (الرواية) وهو يستصرخ ذاته (ذات عباس) المحصنة بالحزن، وترصده وهو يستفز حواسه المحمية بالمرارة، وتباغته وهو متكور على جسده الذي لا يفطن إلى إشارات كونها. موهبة الفارسية تفضح بقندها مسخَ عباس البحراني، تفضحه بمرآة جسدها لكنها لا تهجوه، وهذا ما يجعل من استفزازها واستصراخها وتعنيفها وتحريضها أقرب إلى أن يكون مرآة مصقولة كحد السيف، تُري صاحبها ما لا يراه.

لم يكن عباس يرى القند، فكانت الفارسية مرآة قند له، ولم يكن عباس يرى اللون فكانت الفارسية مرآة لونه، ولم يكن عباس يرى الأشياء الصغيرة فكانت الفارسية مرآة أشيائه الصغيرة، ولم يكن عباس يرى العالم فكانت الفارسية مرآة لعالمه، ولم يكن عباس يعرف التأويل فكانت الفارسية مرآة لكل تأويلاته. كان قند الفارسية يفك ما يغلقه، وتقتحم ما يُحصّنه، وتخاطر بما يحميه، وتذنب بما يشفع له، وتُليِّن ما يقسو عليه، وتُسوي ما يُمسخ فيه، كانت تهبه قندتها، فتنفتح كل مغلقات سيرته وحصونها ورسومها.

"رسموا لك وأغلقوك عليهم ليتني أغلقتك عليّ ومحوت روحي فيك. ليتني أغلقت قمرك عليّ، لأريتك أن النمو محوّ" أغلقوا مسام جسدك وروحك برسومهم وحدودهم وتعريفاتهم وتصويراتهم، فصرتَ لا ترى. تريده أن يقرَّ بما فيه من انغلاقات رسومهم، كي يخرج عليها، قل يا عباس قرّ يا عباس: "إنك لا ترى. قل: إنك في غيرك ولست فيك". تريده أن يخرج إلى جسده حيث الدنيا قندها "تعال ففي الجسد نحن" لسنا في غيرنا، لسنا في التاريخ، لسنا في الحزن، لسنا في الحي، لسنا في الكرب لسنا في البلاء، نحن في الجسد، نحن في القند.فـ " تعال نرقص فالجسد الخامل فراش الموت".
الجسد الخامل لا تنفذ إليه شمس البهجة "أحببتك وأنت لا ترى، من أين تنفذ البهجة إليك وأنت لا ترى إشارات السكر في عينيّ، ولا ترى أنني حملتُ القند مفتوناً إليك. الحب امرأة من قند.. الحب... الحب امرأة من قند وماء أغلقت فراشة عليها جناحيها، كلما خدر الماء سكرت.."
لا يمكنك يا عباس أن ترى الحب، ومرارة جسدك لا تعرف ذائقة إشارات السكر، لا يمكن أن يحركك جناحا فراشة، وجسدك الخامل فراش موت، لا يمكن للبهجة أن تنفذ إليك إذا لم تفطن إلى إشارات السكر في عيون عالمك الصغير.
عباس البحراني الذي تسرد سيرته (قندة) هو نفسه هذا الذي يُشعل المسيرات حاملاً ظلامته التاريخية، هو هذا نفسه الذي ما زالت تستصرخه فرس "الظليمة الظليمة" هو هذا نفسه الذي حياته حرب لا سلام. هو هذا نفسه الذي يحمل خبزه وخشبته وسيفه. هو هذا نفسه الذي يحمل حلم دولة مكارم الأخلاق. هو هذا نفسه الذي يحمل شعار "معكم معكم يا علماء" هو ذا نفسه الذي رفع شعار "البرلمان هو الحل" و"لبيك يا إمام" و"نريد دستور73" هو نفسه الذي حمل الثورة إلى حيه منذ 1979وما زال يحملها، ولا يحمل القند.

* علي الديري: ناقد ثقافي من البحرين، له "مجازات بها نرى"2006

ايلاف 2006
الثلائاء 8 أغسطس