بسام حجار في مجموعته <تفسير الرخام>

علي مطر

بسام حجاريكون للشاعر وحده أن يقف عند تلك الحافة، وينظر في ذلك الاتجاه، أن يهم بالتقاط ما لا يلتقطه ولا يراه آخرون. هل هو حلم أم أمنية أن يقترب الشاعر من وجه الموت ليراه، ليتحدث معه ويناقشه ربما، قد يكون البحث عن الدهشة في الموت ربما الأمنية الوحيدة المتبقية للكائن، وإذ هي متعذرة يتحدث الشاعر ربما بالنيابة عن الجميع الى ما يمكن أن تكون أطيافها أو آثارها، أحجارها ورخامها. إذّاك ماذا يفعل: يفسر الرخام.
<تفسير الرخام> المجموعة الشعرية الأخيرة للشاعر والمترجم بسام حجار، الصادرة عن <المركز الثقافي العربي>، إنها العنوان أولا، وعناوين مجموعات حجّار السابقة قائدة وتسلم القارئ راية، مفتاحا، مدخلا غير موارب على الاطلاق. العنوان عند حجار كأنه كرّاز لقطيع الصور والحكاية التي تسير على مدى القصيدة: <فقط لو يدك> (1990) <مشاغل رجل هادئ جدا> (1980) <مجرد تعب> (1994) <مديح الخيانة> (97) <صحبة الظلال> (92) <مهن القسوة> (93) وهي، أي المجموعات والنصوص، بلغت مع الأخيرة رقم 12 (تقريبا) ولا تكون العناوين مجرد عبارات منزوعة من النص ومرفوعة على الغلاف، بل العنوان الموصول دائما بكل حركة النص بين دفتي الكتاب. وهي ثانية، العبارة، وتحيل مباشرة الى نظيرتها <تفسير الأحلام>. هنا، إذ تبدو العبارة تستريح من خلاف، تؤسس لخلاف أصعب. تضعنا أمام لحظة معلقة في المستحيل. كيف <يفسر الرخام>. حسناً إنها مهمة شاعر.

1

مبلّغ. يزور الصوفية، يُضايفها، لكنه لا يقيم عندها، ولعله يلاعبها إذ يمرّ في فسحة دارها، مع كائنات يومية، ومفردات عادية. وبكل وعي يُنشئ ذلك الباب الدوار الذي يفتح على الصوفي واليومي.

2

شفاف. أي عميق وفسيح، وما يراه، كان رآه ويراه وسوف يراه. بسّام حجار المتحد مع نصه حتى نكاد نرى رجلاً يكتب كتابه الآن، مثل طاه ياباني يحضر <السوشي> أمامنا. تلك الرشاقة العالية المثبتة الى خبرة وتاريخ، معرفة وتجربة.

3

شجاع. وشجاعة النص إذا كانت فهي شجاعة غير استعراضية صوتها خافت بالنسبة الى أذن تعودت الطبول، ورفيع بالنسبة الى أذن موصولة بالفؤاد.

4

ماهر. لست لجنة بالتأكيد لأمنح لقباً، لكنني من فتحة شخصية وإحساس شخصي صرف أرى بسام حجار سيداً من أسياد النثر، ذلك الموشح بإيقاع خاص. إنها المهارة العالية التي تنحت كريستالية النص. كريستالية الإيقاع فحيث يتمحور إيقاعك الداخلي ينكشف لك إيقاع نص حجار بين الصورة والموسيقى. ولا ريب تلك الموهبة والقدرة على توقيع العبارة والمفردة التي <هي> كحجر يقع في مكانه التام في لوحة فسيفساء. قاموس غني وخاص.

5

تقني وجوهري. نصوص هي هوامش اعتراضية، اختارها بسام حجار. تبتدئ، تتوسط، تتلاشى في النهاية داخل القصيدة. هوامش نصوص من متى 28:2) ومن (ادمون جابيس كتاب الهوامش) ومن (روجيه كايوا أحجار) ومن (ياقوت الحموي معجم البلدان) ومن (ميلوراد بانيتش المعجم الخزري) في قصيدة: لم يقل لي أحد ما معنى الأسى (لذكرى منار الشماع) ثم في قصيدة: مزار بجنب الطريق. نصوص هوامش اعتراضية للشاعر نفسه (ص 48 51 54 62 64) ثم لا تعود تظهر تلك الهوامش المتون في قصيدة <تفسير الرخام> كأنها ذابت في القصيدة. نصوص اعتراضية ترفع كفّها وجسدها كإشارة أو لافتة للشرح! بيد هي لتعميق الأبعاد. إنها نصوص عدّاءة تحمل راية تسلم اخرى. محاولة مبتكرة لسد الفجوات وملء البياض الذي هو شبه محكم في النصوص الشعرية. من يشرح من؟ لا يعود ذات أهمية، ثمة لحمة أقيمت بين يدين اثنتين يدي النص. كأن حجار عبر هذه التقنية يقيم مقاربة ومقارنة لفروع النثر. تقنية تشبه تقنية الأوائل الأثينيين والبغداديين، من حيث أنها لا تمزق الوجود بل تحاكيه <وتصغي إليه>. هكذا هي تقنية حجار في <تفسير الرخام> تحاكي جوهر النص بوصفه اسماً جديداً للوجود، الحجر الرخام الذي يحاول الشاعر محاكاته وتفسيره ذاهباً أبعد من أمنية الشاعر الجاهلي: <لو أن الفتى حجرٌ>.

6

بسام حجار<إني لا شيء/ وحديثي عابر، مثلي،/ بين عابرين/ لذلك أتحدث عنك (ص 43)
<لا أحد هنا سوى أنت/ ملاذ الهاجرين بيوتهم الى الأبد (ص 46) لا أحد هنا يحب الحجر/ أو يأنس الى برودته/ وصمته/ حتى المنامات المرعبة لم تبقِ للحجر معنى (ص 47).
<إني أتحدث عنك/ كما يتحدث أحياء عن أحياء مثلهم (ص 52) لا أنا ولا أنت ولا المبصر في منامه/ ندري ما الخيالات المترائية عند مفترق قريب بعيد/ عائم على صفحة السراب الذي ترفعه العيون المترقبة المتعبة/ المتوهمة: شخوص نابتة في الوعر لمخلوقات التوهم ليست من الإنس/ وليست من الجن/ كأشجار سرو مستنفد هواؤها/ كأعمدة تلغراف صامتة/ كأناس ليسوا مثلنا/ نحن أرواح البيوت المطمئنة، كأناس ليسوا مثلكم، انتم/ رواد السبل الزائلة/ بل كمثل المقيمين عند المفترق/ جنب الطريق (ص 56 57).
أنت لا شيء/ وحديثك عابر، مثلك، بين عابرين لذلك أتحدث عنك /أنا/ العابر قليلا/ في ظنك. (ص 67)
ماذا بعد؟ هل بقي وقت للشعر لنقرأ تفسير الرخام؟