أنطوان جوكي
(باريس)

أندريهبعد البحث الذي وضعه الشاعر جاك إيزوار حول الشاعرة والروائية المصرية- اللبنانية أندريه شديد (سلسلة "شعراء اليوم" لدى دار "سيغير")، ها هي دار "بلفون" تطل بكتاب جديد عن شديد هو كناية عن سلسلة مقابلات أجرتها معها دورياً، بمعدل ساعة في الأسبوع، الكاتبة والصحافية الفرنسية بريجيت كرنل. ولحسن حظنا، لا يتقاطع الكتابان إلا نادراً، وهما بالتالي يتكاملان في مهمة تقريب شخص شديد إلينا والتعمّق في إنتاجها الأدبي الغزير.
وعلى خلاف كتاب إيزوار الذي يُشكّل بحثاً في سيرة شديد وأعمالها الشعرية بغية تحديد مسارها الشعري وإظهار خصوصيات كتابتها وتطورها، تعتمد كرنل الحوار المباشر مع الشاعرة لجرّها إلى الحديث عن حياتها وعن كيفية مجيئها إلى الكتابة، قبل أن تتوقف معها مطوّلاً عند الأنواع الأدبية التي مارستها شديد: الشعر والرواية والمسرح والقصة القصيرة وحتى الأغنية. وتنهي كرنل الحوار بمجموعة أسئلة تقود شديد إلى تحديد فلسفتها في الوجود.
وقد تبدو مهمة كرنل أسهل مقارنة بتلك التي اضطلع بها إيزوار قبلها. ولكن من يعرف أندريه شديد جيداً يدرك درجة خجلها وبالتالي صعوبة دفعها إلى الإفصاح بأكثر مما سبق وأفصحت به في ما يتعلق بحياتها الخاصة وسيرتها، أي القليل جداً. ومع ذلك، نجحت كرنل أكثر من مرة في توجيه شديد نحو بوحٍ أكبر وأدق حول عدد من المسائل التي تتعلق بأصولها اللبنانية وأسباب انتقال عائلتها إلى مصر في فترة الستينات من القرن التاسع عشر، وطفولتها في القاهرة وطبيعة علاقتها بوالديها وزوجها. وإذا كانت قصة انتقالها إلى باريس عام 1946 معروفة إضافة إلى فصل اهتمام الشاعرين رينه شار وبيار سيغير بقصائدها الأولى ودعمهما انطلاقتها الشعرية، تمنحنا شديد برقة بالغة تفاصيل جديدة عن حياتها اليومية في باريس وولعها بهذه المدينة، مفصحة بين الحين والآخر عن رأيها في مواضيع قلما تناولتها في حواراتها السابقة أو في كتاباتها، كالزواج والحب، وذلك بفضل أسئلة كرنل الاستطرادية أو الملحّة. ففي ما يتعلق بالزواج، ترى شديد أن الحياة المشتركة بين الزوجين تفرض حماية فضاء الآخر وحاجته إلى الوحدة، ولا تصدمها مسألة أن الأجيال الفتية تتزوج أقل بكثير من الأجيال التي سبقتها. وتعتقد شديد أيضاً بالحب العنيد الذي يدوم. لكن هذه الديمومة تتطلب عبور امتحانات وتغييرات كثيرة والتشييد مع الآخر واحترام حريته وحياته. أما الحياة فتراها هبة خارقة وثمينة علينا خدمتها والاحتفال بها بأفضل طريقة ممكنة: "لا نعرف من أين جئنا ولا إلى أين نحن ذاهبون. علينا إذاً التمتّع بهذا العبور والاستفادة منه...".
وحين تنتقل كرنل إلى موضوع الشعر والسبب الذي دفع شديد في اتجاهه، تستشهد الشاعرة بقول رينه شار: "الذهاب يكفيني" نظراً إلى أن "لا نهاية لبحثنا ولا حل للغز الحياة. نواصل السير، نبحث أبعد وأبعد. نتساءل باستمرار من دون أن نطلب جواباً".
وعن تأثيراتها، تتحدث شديد عن رامبو الذي "غيّر الزمن ومعنى الشعر" والسرياليين وميشو وشار وغييفيك، مشيرة إلى أن أصالة الشاعر تكمن في محاولته عدم مشابهة الآخرين. وحول طريقة كتابتها، تقول شديد إنها تحاول عدم استــــــخدام لغة معقّدة واحترام القواعد نظراً إلى هاجس الاتصال بالآخر لديها. تبحث عن كلماتها وتجمعها كما لو أنها تحيك قطعة قماش بسيطة بألوان مختلفة.
ولهذه الغاية، تستخدم مسودّات كثيرة وتتصفح أحياناً القاموس في شكل عشوائي بحثاً عن تصادمٍ بين كلمات لا رابط ظاهراً بينها، لكنها تولد بريقاً لدى وضعها جنباً إلى جنب، وذلك من دون إهمال البُعد الموسيقي لقصيدتها أو التشويش على المعنى المقصود فيها. وتعتقد شديد بضرورة "تصريف الخيالي والواقعي داخل الذات كي يحيا الإنسان بسعادة. لا يمكننا حرمان ذاتنا من الحلم. الإنسان الذي لا يحلم أبداً والذي تبقى رجلاه دائماً على الأرض هو إنسان مصاب حتماً بعُصاب. أن نحلم هو نوع من الحرية والهناء".
وتعتبر شديد أن على الشاعر أن يحافظ على روح الطفل فيه، أي على قدرته على الاندهاش. وبين الرواية والشعر، تفضّل شديد الشعر الذي يذهب مباشرة إلى جوهر الأشياء والكينونة وإلى الأسئلة الأساسية ويفتح حقلاً أوسع ويبحث دائماً عما يتعذر وصفه. ولهذا يُبقي الشهية أو الرغبة كامنة فينا. نسير على دربه من دون أن نعرف لها نهاية. فبالنسبة إلى الشاعرة، لا يوجد أخطر من حقيقة تحل في شكل جامد، لأن الحياة هي في الوقت ذاته حضور فينا وحولنا وإفلات منا.
وعلى خلاف الكتابة الشعرية التي تتميز بإيجازها، تخيف الكتابة الروائية شديد بسبب طولها والإسراف في الكلام، وبسبب تطلبها انضباطاً كبيراً وكتابة يومية لئلا يضيع الخيط الموجه. ومع ذلك، تكتب شديد رواياتها كما تكتب قصائدها، أي بدفقٍ واحد. وفقط بعد ذلك، تضع تصميمها وتبدأ بالتنقيح والترتيب. وتلعب ذكرياتها في مصر دور الدافع إلى كتابة الرواية ومصدر وحيها الأكبر. لكن مواضيع رواياتها تأتيها من مشاهدتها المآسي على شاشات التلفزيون ولدى قراءتها الصحف. أما غايتها من كل هذه الروايات فهي إخراج شخصٍ ما من مأساته والعودة به إلى الحياة. وحين تلاحظ كرنل أن معظم أبطال رواياتها هم من الناس البسطاء، تجيب شديد: "هم الذين تركوا الأثر الأكبر فيّ". وهذا ما يشرح بالتأكيد لماذا تعتبر رواية دوستويفسكي "الأبله" أفضل رواية تأثّرت بها.
وتحاول كرنل جرّ شديد للتحدث عن كتابتها المسرحية وعن السبب في عدم مقاربتها هذا الموضوع إلا نادراً في حواراتها. وتعزو شديد ذلك إلى تفضيلها التحدّث عن الشعر. لكنها ترى أيضاً أن على الكاتب الحقيقي الاحتكاك بكل الأنواع الكتابية، فكل نوع هو عالم في حد ذاته يتلاقى والعوالم الأخرى من خلال الكتابة. وتعتبر شديد الكتابة المسرحية أسهل بكثير من كتابة الرواية، خصوصاً ما يتعلق بالحوارات التي تبدو لها أكثر طبيعية وبداهة في المسرحية. وإذا كان مصدر وحيها في هذا الميدان هو مصر والتوراة، فالسلطة التي تكرهها شديد هي الموضوع الرئيس الذي تعالجه كل مسرحياتها.
وفي حياتها، كما في كتاباتها، ترى شديد أنها أمام لغز لا حل له لأن الحياة لم ولن تجيب عن كل أسئلتنا. وهذا الأمر يرضيها لأنها تحب فكرة أن نسير في حياتنا نحو المجهول من دون جواب محدد.

الحياة
17/02/06