(الشعر ما يكتبه الشعراء)

إبراهيم فرغلي
(مصر)

مدائح جلطة المخالقاهرة...
كثيرا ما تقتحمني مقاطع شعرية من قصائد حلمي سالم في مواقف حياتية عادية وحسية بلا استئذان. لكن مقولة نظرية واحدة أحتفظ بها في ذهني، على بساطتها، لأختبرها كلما قرأتُ ديوانا جديدا أو قصيدة، هي "الشعر ما يكتبه الشعراء". تلك جملة من دراسة مستفيضة كتبها حلمي سالم دفاعا عن جماليات القصيدة الحديثة، كاشفا شعريتها الباطنية الجوانية على حساب تراث طويل من التقليدية التي ُتصلب "دوغماها" قتالا لأجل شكلانيات الشعرية الكلاسيكية.
المقولة، على بساطتها، تحمل الكثير من جدل أثارته القصيدة الحداثية بكل أشكالها ولا تزال. فقصائد حلمي سالم كلها كانت اختبارا حقيقيا لهذه المقولة التي اهتف بها، وصولا الى ديوانه الأحدث، "مدائح جلطة المخ"، الصادر عن "دار الهلال".

لم يدهشني في طبيعة الحال أن يختار حلمي سالم جلطة المخ ليبحث عن مدائحها، هو الذي بحث عن اليومي والعادي كثيرا، كاشفا شعريته في قصائد عدة شكلت جموع دواوينه. صاحب تجارب كبيرة في تحويل الألم شعراً، من ألم اليومي الذي أصبح شديد الوطأة ويكاد لا يحتمل، إلى ألم الحسي الضاغط على الروح عبر الذاكرة الشعرية بفيض من استعادات النشوة جاعلاً منها "فقه اللذة"، وصولا إلى ألم المرض الذي لم يكتف بالشعور القاسي الذي يتسبب به وإنما يمتد ليفاجىء الشاعر - الفتى: "القدم التي دبت طوال عامين/ من ميدان الرماية/ إلى التجمع الخامس/ كيف لانت فلا تقوى على السعي بين سجادة ومخدة؟/ واللسان الذي قضى الليل كله /يقيس حوض أنثاه/ بكمية المسام بين عظمة وعظمة،/ كيف التوى/ فلا يجيد الفصل بين الكاف والنون؟".
يبدأ سالم ألعابه الشعرية منذ أولى قصائد الديوان، كما يليق بشاعر في مواجهة المرض، أو ربما، كما يليق بشاعر قرر أن يبحث عن شعرية المرض. يضغط النوبتجي على زر تصوير المخ بالأشعة فيصور حلمي ذاكرته "جاءت حدوتة مصرية والراهب ويوسف شاهين وتجار الموالح وكل هذا الجاز ومدرسة عبد المنعم رياض وسجن العبدلي وصنع الطائرات الورقية وسُرة سيدة النبع".
في سؤال الشاعر عن أداء المخ وعن الفص المسؤول عن خلق القصيدة، يمرر نداء للشعراء الجدد عبر ذلك الفص: "لو أنه المسؤول عن الشعر/ فنداؤه للشعراء الجدد: الاعتناء بضمير الغائب".

كأنه يسأل سؤالا عن سؤال القصيدة الجديدة للذات على حساب الآخر. وربما لذلك، يحتفي الشاعر في الديوان بآخرين عبر تناصات شعرية مع الشعر العربي القديم وشعر أحمد شوقي وحسن طلب وفاطمة ناعوت وعبد المنعم رمضان ومحمود الشاذلي وأحمد عبد المعطي حجازي وبدر شاكر السياب. كما انه يستدعي وجوها من الواقع لجابر عصفور مثلا وإدوار الخراط وعبد المنعم تليمة وأمينة النقاش وكثير من الأصدقاء.
تبدو تجربة الإصابة بجلطة المخ تجربة استعادة ذاكرة بامتياز في عوارض المرض الذي يتيه بالمريض بعيدا. استعادة الذاكرة جزء أساسي من الشفاء يقابلها الشاعر باستعادة أبيات من قصائد قديمة أو استدعاء وجوه الحبيبات. كما يعتب على من يرى أنه يستحق العتاب. ويستمر في مراحل ما بعد الجلطة والشفاء يتأمل الملح الذي كان يزن مذاق كل شيء بعدما أصبح عدوا لدودا: "الفقراء ملح الأرض"/ هكذا في لمح سحابة/ انضم الملح إلى الأعداء". ومنه إلى العلاج الطبيعي بكل ثقله يحوله الشاعر على فتنة: "الاتزان هو الهدف/ ارفع الذراع ببطء/ كمن يتسلل الى السماء/ في خفة اللص/ ثبتها عاليا برهتين/ كمن سيقطف مشمشة / من صدر صبية/ رأت عند طبيب الأسنان/ أن العميان يبصرون".

يستدعي وجه الإبنة لميس في معاناتها مع مرض الشاعر ويسمّي القصيدة باسمها ويصف تدريبها له على إدارة أوكرة الباب: "عشر مرات/ كتمرين على كفاءة القبض والبسط"، وهو التمرين الذي سيمهد لعودة الشاعر الى القلم ويكتب قصيدة جميلة يستدعي به علاقته بالحروف "ليس الكوفي مهما/ كانت الفاء عندك دقيقة/ ليست دقة الفاء ضرورية/ ما تزال الطاء عندك تحتفظ باستدارتها/ اللعوب".
يثبت حلمي سالم مقولته الثابتة مرة أخرى ويقدم ألعابا عديدة وينقلنا وجدانيا من حال إلى حال، وتبدو معه القصيدة، طوع يده، كقدر لا يفارقه في غرفة العمليات وفي السرير أو في حدائق الأنثى. طوع الفص الذي انحنت له الجلطة إجلالا، وأطلق لساني مرة أخرى ليقول إن "الشعر ما يكتبه الشعراء".

النهار- الاثنين
30 كانون الثاني 2006