((الجوع) رواية إميلي نوتومب)

اسكندر حبش
(لبنان)

إميلي نوتومبعن <المركز الثقافي العربي> (بيروت - الدار البيضاء) صدرت مؤخرا الترجمة العربية لرواية الكاتبة البلجيكية آميلي نوتومب <بيوغرافيا الجوع> (نقلها بسام حجار). هنا مقالة.

تبدو الكاتبة البلجيكية آميلي نوتومب وكأنها محكومة بأشغال الأدب <الشاقة>. في حين يعيش كُتّاب آخرون حياتهم الكتابية بطريقة <بوهيمية>، أي يصدرون كتبهم وفقا <لوحيهم>، الذي لا يأتي إلاّ في فترات متباعدة، نجد أن نوتومب تمارس هذه الحياة بشكل منتظم، وكأنها تجري في سباق للمسافات الطويلة. لأن الكتابة عندها، تبدو بمثابة دينامكية داخلية تُنظم إيقاع أيامها. فمن كل عام، في شهر أيلول، ومنذ بداية تسعينيات القرن المنصرم، تصدر رواية جديدة (صدرت رواية جديدة لها منذ أسابيع قليلة بعنوان <يوميات سنونوة>). ربما لم تكن تتصور حين بدأت النشر، أن يصبح هذا الأمر، ظاهرة ما، في بداية الموسم الأدبي الفرنسي. لكن ها هي تتصدر دائما قائمة الكتب الأكثر مبيعا، فالعديد من القراء ينتظرونها، والنقاد أيضا الذين يحتفون بها كتابا وراء آخر (تقول عنها مجلة <لير> مثلا، إن كل رواية لنوتومب هي بمثابة نبيذ <البوجوليه> الجديد، حيث يهم الفرنسيون بأسرهم لتذوقه كل عام). هذا النجاح، قد يكون مرده إلى انتظامها الدقيق بالعمل، حيث تخصص أربع ساعات كل يوم، في الصباح الباكر، لتكتب <وهي تشرب شايا قويا> (مثلما قالت ذات يوم في احد أحاديثها الصحافية). هذه الحياة المنتظمة، وهذا التواجد الدائم في المكتبات، في خريف كل سنة، بالإضافة إلى شخصيتها البلجيكية الغريبة الأطوار، من الأمور التي تزعج البعض. بيد أن ذلك لا يجعلنا ننسى أمرا أساسيا: إنها كاتبة حقيقية، وأسلوبها حاذق وفعال ويتطور أكثر فأكثر، رواية بعد أخرى (على الرغم من أن روايتها الأخيرة، <يوميات سنونوة> لم تثر الكثير من الحماسة المعهودة). لقد عرفت الكاتبة كيف تتخلى تدريجياً عن المحسنات والزخارف التي وسمت كتاباتها الأولى، كي تذهب أكثر إلى أعماق السؤال الكتابي، كما أنها بدأت تقطع اندفاعات جملها لكي لا تترك منها إلا ما هو أساسي. من هنا أصبحت تميل أكثر، إلى الجمل القصيرة، التي لم تتخلَ فيها عن الإيقاع.

سيرة للجوع

<بيوغرافيا الجوع> الصادرة حديثا في ترجمة عربية، هي بالفعل أول سيرة ذاتية <كاملة> عن المؤلفة، منذ ولادتها وحتى عملها كمترجمة في قلب شركة يابانية كبيرة (ولدت في اليابان حيث كان والدها دبلوماسيا بلجيكيا في سفارة بلاده هناك) وهذا ما أفضى في مرحلة سابقة، إلى كتابة روايتها الممتازة <دهشة وارتجافات>. للوهلة الأولى، وأنت تقرأ أولى صفحات الكتاب، لا بدّ أن تشعر بالخوف من تكرار سيرة هذه الطفولة التي تدور بين اليابان والصين. بمعنى آخر، لا بد أن تعتقد أنك ستعود لتقع على نفس الموضوع الذي تطرقت إليه في كتابيها <تشويه عاشق> و<ميتافيزيقيا الأنابيب>، اللذين تحدثت فيهما عن هذه المرحلة، إذ أن متابع روايات نوتومب يعرف هذه الأشياء، هذه العلاقة <الجسدية> إن جاز التعبير التي تجمع ما بين الكاتبة والطعام. من هنا، قد لا نصاب بالدهشة القصوى حين نعرف أنها تستدعي شهيتها الكبيرة لكل أشياء هذا العالم الذي تعيش فيه.

الخوف الذي يراودك، قبل القراءة، هو أن تجد أن ليس لدى الكاتبة أي شيء آخر لتستثمره، كتابيا، إلا سبر أغوار طفولتها الأولى. لكن بعد مرور الصفحات القليلة تجد أن <بيوغرافيا الجوع> تأخذ أقصى مداها. إذ لو وجدنا أن <تشويه عاشق> و<ميتافيزيقيا الأنابيب> كانتا تتجاوزان الطفولة لتستعمل الحبكة السردية بشكل يتخطى الحد، نشعر هنا بأن نوتومب تذهب أكثر إلى كتابة الصدق أكثر مما كانت تفعله في الماضي.

ما نكتشفه هنا، وبدهشة جميلة، أن هذه الطفولة أمضتها في التجوال عبر مدن العالم المتعددة، خلال فترة السبعينيات، من جراء عمل والدها الدبلوماسي: اليابان، الصين، نيويورك، بنغلادش، لاوس... مدن موجودة عبر هذه التوصيفات للوضعين السياسي والاجتماعي التي كانت تعيش فيها، لكنها مكتوبة هنا بوجهة نظر طفلة، وهي توصيفات لا بد أن تدفع إلى الضحك والسخرية كأن تقول مثلا: <في بكين، كان الرفيق تريه، الذي لم يكن يملك سوى مهمة واحدة تتمثل في شد شعري في الصباح، كان يتكلم لغة تلك الحقبة العائدة لعصبة الأربعة، وهي نوع من لغة معادية للإمبراطورية، لغة تبدو بالنسبة إلى الشخص الصيني ما كانت عليه ألمانية هتلر بالنسبة إلى غوته: ضلال نجس ذو تناغم يشبه الصفع على الأفواه...>. وفي مقابل هذه الجغرافيا العالمية نجد بالتأكيد هذه الجغرافيا العقلية المدهشة لطفل موهوب يشعر بالجوع دائما: جوع للغات والكتب، للكحول والشوكولا، للجمال والاكتشافات...

بيد أن الآسر أكثر في رواية نوتومب هذه، عدم إخفائها لأي من صدمات وجودها، وهذا ما كنا نشعر به في كتبها السابقة: عمر الطفولة الذهبي والمحمي، الذي اغتالته استدارات المراهقة، التي أحالت الجسد قبيحاً ونهشت الروح: <تشوه جسدي، كبرت 12 سم في سنة. بدأ نهداي بالتكور، صحيح ما زالا صغيرين، لكنهما كانا يمثلان الكثير بالنسبة إلي: حاولت أن أحرقهما بواسطة قداحة مثلما كان أهل الأمازون يحرقون نهودهم كي يطلقوا السهام بشكل أقوى...>. من هذه النقطة، تبدأ الرواية بفتح آفاق جديدة أمامنا، تبدأ سيرة جغرافيا الجسد الأليمة التي تصل حتى فقدان الشهوة للطعام، وهي فكرة كانت موجودة في رواية سابقة لها بعنوان <نظافة القاتل>، ما جعل هذه المراهقة في حالة من المرض لمدة سنوات عدة.

بعيداً عن الاستعراض

إحدى خاصيات كتابة أميلي نوتومب، هي طريقتها في رواية <الحدث> بأناقة وفكاهة، من دون أن تقع لا في الاستعراضية ولا في المجاملة. وإذا ما كانت المادة التي تقدم إلينا، تفرض أن نقرأها، في الواقع، بمثابة سيرة ذاتية، فإن عمل الكاتبة الذي يشبه عمل الصائغ والذي يترجم الواقع كي يهديه إلى آخرين، يسير بشكل فعال وساحر، عبر رسمها لهذه <الاستدارات الجغرافية> كما لشغفها الذي يلتهم كل شيء: الجوع للسكر، للمساحات الواسعة، للكتب، للأفلام، للثقافة، ولكننا نجد أيضا جوعها للآخرين، جوعها لأن تشعر بالجوع، أي جوعها لكل شيء في نهاية الأمر.

من هنا تكشف لنا الكاتبة عن سمات عديدة من سمات شخصيتها <المعقدة>، لتكتب لنا في نهاية الأمر <كتاباً> مدهشاً من كتب <سوسيولوجيا الرواية> حيث تحاول أن تظهر فيه بأن الجوع ليس سوى هوية البلدان الأرفع والأعلى، وبأن كل أمة <هي معادلة تتشكل حول الجوع>.

في الكثير من <السير> التي نقرأها، نجد أن عمل غالبية الكتاب يتبدى في أن يقدموا السيرة من دون <تفكير>، بمعنى أنهم يُهملون في ذلك، الشيء الأساسي الذي عليهم أن يفكروا فيه أحيانا: متعة القراءة (من قبل الآخرين بالطبع). ربما هذا ما تنساه غالبية الكتاب: متعة القراءة التي هي في الأساس متعة الكتابة. آميلي نوتومب هي من دون شك، من أكثر الكاتبات (باللغة الفرنسية) إمتاعا. من قال إن المتعة ليست أدباً حقيقياً؟ من هنا أنصحكم أن تلتهموا هذا الكتاب بسرعة وبخاصة إذا كنتم تشعرون بجوع القراءة.