(تفاحة نيوتن) لفيديل سبيتي و (عمر الماء) لمنغانا الحاج)

اسكندر حبش

اسكندر حبشالتفاحة الصفراء، التي تتقدم عدداً من التفاحات الحمراء، في الصورة التي يضعها فيديل سبيتي كغلاف لمجموعته الشعرية الأولى (تفاحة نيوتن) (الصادرة حديثا عن منشورات (دار الجديد) في بيروت) لا توحي إلا بالقضم. لنقل إن ثمة إغواءات عديدة، تثيرها فينا، بدءاً من تفاحة أبينا آدم ووصولاً إلى أي عربة خضار تجوب الشارع حاملة على متنها صندوق تفاح، مروراً، بالطبع، بقانون الجاذبية الذي اكتشفه الفيزيائي الانكليزي. لكن لنقل إن شعر فيديل سبيتي ينبع من منطقة أخرى، غير هذه المناطق التي ذكرت. القصيدة التي تتقدم أمامنا، تحاول أن تلتقط أدق التفاصيل اليومية الجانحة إلى قلب هذا العالم الجواني النابع من حياة شخصية لا تعني إلا الشاعر نفسه، بمعنى أنها ليست هذه الحياة المشتركة، العامة، بل تلك التي تُبنى، على حده. هي حياة خاصة بامتياز وإن عَبَرَ بها آخرون، لأن حضورهم ليس هو الأساس، بل هذا الإطار الذي ينسجه فيديل سبيتي والذي يجعله الشاشة الكبيرة التي يمرّ فوقها هذا (الشريط السينمائي). لنقل انه فيلم، وما الأشخاص والأشياء إلا لتكوين الديكور الشامل، كما المادة الفيلمية الخام لأن الشاعر هو المخرج الذي يتحكم بأدق التفاصيل.

اسكندر حبشمن هنا، تُبنى قصيدة فيديل سبيتي على هذه التفاصيل الدقيقة، اليومية، لكن قصيدته لا ترتجي مادية الأشياء فقط، بل يحاول أن يذهب إلى ذواتها الداخلية، إلى حيواتها حتى لتبدو أحياناً كأنها تبحث عن ميتافيزيقية ما، وأقصد هذه الحالة الأخرى التي تدفعنا القصيدة إلى التأمل بها بعيداً عن التوصيف المادي البحت الذي يبدو واضحاً على المستوى الأول للكتابة الشعرية. لذلك ثمة ذهاب وإياب ما بين الصورة، كواقع، وبين المعنى الذي تحاول الصورة أن تبحث عنه، ربما عن معنى هذه الحياة.

من هنا ثمة سؤال بديهي وأساسي لا بد أن يطرح نفسه بعد قراءة قصائد فيديل سبيتي: هل ثمة حياة حقيقية أخرى غائبة لذلك يلجأ إلى هذا العالم الداخلي ليجعل منه صورة حياته الشاملة؟ قد تكمن هنا كلّ المحاولة الشعرية لسبيتي، إذ يخبرنا (تاريخ الكتابة الشعرية)، في جانب لا بأس به منه، بأنه من الخطأ تهيئة (برنامج للحياة الحقيقية)، لأن على الشعر أن يكتفي ويرضى بأن يكرر وبعناد هذه المحاولة في البحث عن رغبته ليلتقط من هنا ومن هناك آثارها وخطوطها. لأن الشعر لا يمكن له أن يُموضع كل شيء إلا في حال هجره هذا العالم وإقامته في عالم قاحل بل ان يُمفصل المستحيل والممكن، أن يحتفي بالواقع والسراب، أن يحتفل بأحزان الحب. بمعنى آخر إنه هذا الفضاء اللانموذجي للغة حيث يأتي ويصطدم بكل ما يمكن له أن يكون وحيث يأتي المستقبل ليستدعي الماضي أمامه، وحيث الحاضر يرسم صورة هذا الوجه الآخر، سلباً أم إيجاباً.

يقول الشاعر في قصيدة (انتظار): (على سبيل المثال.../أداعب دماك/ في غيابك.../ وأكلّم مئات الأطنان/ من البشر. /وأقلم أظافري/ وأجرب قرطا في أذني اليمنى/ وأقلد مشيك أمام المرآة/ وأضع الركوة/ على النار/ ريثما تعودين).

في هذا الحيز الواقع ما بين الأنا والآخر، أي حيّز القصيدة، لا يستطيع الشاعر أن يمارس أي هيمنة أو سلطة. من هنا هذه القسوة الحفية في نشيده، إذ أنه يمارس المشهد مثل جندي فقد سلاحه أو كما لو أنه في أرض خراب، لكي يشهد على هذه المواجهة الحميمية بين الواقع والحلم، ولا يخرج منه منتصراً، إلى هذا الحبر القليل الذي أريق. فأمام ورقته، يرمش الشاعر مثلما يرمش أمام النور أو كما عين تضاء بأمل قبل أن يأتي الحزن ليطفئها. فها هو يحاول ويتطلع وينتظر. أن ننوجد في الشعر هو أمر وشيك الوقوع.

هذا ما يحاوله شعر فيديل سبيتي، إقامة نص مواز لحياته هو، لذلك يعجن هذا الانتظار وهذا الألم، ليبدلهما عبر هذه التفاصيل التي تمر فيها الحانات وكؤوس الويسكي والمرآة وطلاء الأظافر والرحم واللغة. هي اللغة إذا التي تحاول أن تقول لنا عن هذه الحياة الأخرى. هل يكون العيش عندها (هذا الشيء الآخر)؟

منغانا الحاج:

(عمر الماء)

(أيتها الثمرة/ التي تهم في السقوط/ كوني فقط ذاتك/ الراوي الذي يتحدث عن سقوطه/ ويخاف/ ألاّ يشبه النوم/ألاّ يشبه الحياة/ إلا في تلك الجلبة/ التي يذيعها انشطارك إلى/ نصفين). (من قصيدة (تثرثر ولا تهتدي إلى قافية)). قد تصح مرادفة (انشطار) مدخلاً عاماً إلى مجموعة منغانا الحاج (عمر الماء) (الصادرة حديثا عن (دار مختارات)). مجموعة أولى بعد أن نشرت الشاعرة بشكل متباعد وعلى مراحل متقطعة عددا من النصوص في الصحف والمجلات، وبعد أن (أخذتها مسالك الحياة ومتاعبها) بعيدا عن القصيدة، لتعود إليها بكتاب أكثر من حقيقي. من هنا أستعمل صفة (الأولى) بطريقة ليست أكثر من توصيف عابر، لأننا أمام نص يملك كل مقوماته الشعرية واللغوية والمناخية، أي يملك عالمه الشعري المتماسك. هذا العالم الذي يبدو عالماً ريفياً بامتياز ليأخذنا إلى حيّز من أدب لبناني كان حاضراً بكثافة، لكنه ما لبث أن فقد حضوره. لكن عودة مانغانا الحاج للغرف من هذا المعين، يبدو على كثير من الافتراق عمّا ألفناه سابقا، إذ (أودعونا حياة/ لم يبق/ من نبرتها/ إلاّ ثنية في أعلى الحاجب).(من القصيدة عينها المذكورة أعلاه).

هذه الذكرى، هي التي تقود إلى الانشطار في عالم الشاعرة، إذ يذهب كل شيء، لأن ينقصف ويصبح اثنين، وكأننا أمام الشيء وظله، كأننا أمام ذهاب وإياب للبحث عن معنى ما لحياة تقف في غيابها أو لنقل وهي في طريقها إلى اندثارها. من هذا الغياب، تلتقط الشاعرة صورها العائدة إلى هذه المناخات الريفية، وكأنها تريد تثبيتها في ذاكرة لا تتوقف بدورها أيضا عن محو ما علق بها من الماضي، لتستقبل ما يتوافد إليها من جديد.

ممّ هي مصنوعة عليه هذه الحياة؟ ما هي مادتها وثمنها؟ هنا يكمن سؤال الشعر الأخير، الذي تطرحه الشاعرة أي السؤال الذي يقودها هنا، إلى هذا البحث عن مناخاتها وعن عوالمها المتفرقة والمتشعبة، لأنه السؤال الذي يبقى في النهاية، والذي يبقى متماسكاً، إذ يتيح لها، أن تنسج حوله مجموعة من (الأجوبة الملتوية) والجزئية، لأن الشعر هنا يبدو بمثابة (يوميات) ما، أي ان الحياة المرسومة هنا، يبدو كأنها تقول لنا، بأنها مصنوعة من كمية حوادث صغيرة تشكل اسكندر حبشعصب الزمن عينه وتحاول أن تظهر شرطها شرطنا الإنساني ومحدوديته.

ربما نستطيع القول إن الشاعرة تبدو هنا كمشاءة، عابرة في حضن هذا المناخ، مراقبة، لكنها في الواقع، تعيش هذا الحيّز، تقرأه، أي انها تشهد عليه. هذه القراءة، تتيح لها بملاحظات تتعاقب وتتوالى وكأنها تشكل (درجة الصفر للشعر) (فيما لو حورنا جملة رولان بارت الشهيرة) أي تلك النقطة التي تنسج في ما بعد كل ما ترغب في قوله. من هنا لأستدرك سريعا، ليس المقصود أننا أمام حالة توصيفية للقمر و(الحبق الذي فركناه) و(الدبق/ لعصافير طيرناها)، بل تدخل إلى أبعد من (القشرة) التوصيفية لتبحث من خلالها عن جوهر آخر، ولنقل عن حياة أخرى، هي حياتنا عبر جوهر هذه الأشياء.

بالتأكيد إن مشروعاً مماثلاً لا يستطيع أن يتماسك بدون تقشف لغوي، لذلك تنجح الشاعرة في أن تبتعد عن كل الإغراءات البلاغية التي تفرضها مفاهيم اللغة. لغتها تقترب من (صمت ما)، أي من شفافية، لترسم لنا عبرها حالة جميلة، يبدو أن قسماً لا بأس به من الشعر الراهن قد تناساها.

السفير
2006/03/14