(قراءة في ديوان (أخيرا وصل الشتاء) لعبد الرحيم الخصار)

فؤاد أفراس
المغرب

عزلة الكائن

تقديم : الشاعر عبد الرحيم الخصار اسم شعري جميل، التقيته و صافحته في عدة قصائد ناجحة، سواء في ديوانه الأخير (أخيرا وصل الشتاء)، أو في قصائد أخرى ينشرها هنا و هناك ، قصائد تؤرق قارئها بما تطرحه عليه من أسئلة صعبة، من قبيل
: كيف يتأتى لعبد الرحيم الخصار أن يغزل من تلك اللغة البسيطة و العادية عالما شعريا باذخا ؟ هنا سنحاول اقتحام جانب من ذلك العالم الشعري من خلال ديوانه (أخيرا وصل الشتاء ).

1- العنوان :

عنوان الديوان (أخيرا وصل الشتاء)، يتكون من ثلاث كلمات ، (أخيرا) توحي بانفراج الوضع و انتهاء حالة الترقب و الانتظار، كلمة (وصل) توحي بالحضور والحلول بعد غياب ، أما كلمة (الشتاء) هكذا معرفة فهي قد تدل على واحد من الفصول، لكن بتعميق النظر و الحس ، فالشتاء هنا هو شتاء الشاعر ، شتاء يخص حالته النفسية و الشعورية و الحياتية .

2- عزلة ، تذكر و انتظار :

قصائد الديوان قائمة على تيمتين : العزلة و الانتظار ، و هما ليسا منفصلين لأن كل عزلة هي انتظار و كل انتظار هو عزلة ، فتلك العزلة حتى لا تبدو فراغا فالشاعر يمارس فيها لعبة التذكر و استعادة ما مضى ، هي في الحقيقة محاولة تذكر واستعادة الآخر ، مما يحول تلك العزلة إلى انتظار ، انتظار الآخر :

(منذ
فصل و أنا أنتظر
رجاء لا تتأخري
فمن فرط الحرارة
قد يجف الحب في قلبك)

ق : لست وسيما ما يكفي

كما أن الغرفة هو الفضاء الأكثر حضورا في قصائد الديوان ، باعتبارها فضاء مغلقا ومعزولا عن العالم الخارجي ، و باعتبارها فضاء خاصا وذاتيا لما يؤثثها من أشياء تنتمي إلى ذات الشاعر (ذوقه- ميولا ته- ذكرياته ...) :

(منذ آخر وداع و أنا أجلس وحيدا في هذه الغرفة أرعى سربا من الأحلام) ق : الرائحة لا تزال في جريد النخل حتى أصبحت الغرفة ما يشبه قدره أو سجنه :

(منذ سنين
و أنا أسكن في الغرف الواطئة
كأنما أتدرب على القبر)
ق : لا أحد يطرق الباب

بل حتى في نظرة الشاعر إلى الحياة ، الحياة بصخبها و ضجيج ناسها ما هي في نظر الشاعر سوى حجرة (الحياة / حجرة قاسية ...) و الغرفة ليست فقط لعزل الذات عن العالم الخارجي ، بل الرغبة في عزل بعض أشياء العالم الخارجي نفسه في الغرفة :

( ... لذلك سأسحب القمر إلى الغرفة و أضعه فوق الدولاب كي يضئ حفلتي فقط) ق :
رجل الثلج
يضئ حفلته أو يضئ عزلته سيان .

إن عزلة الشاعر ليست اختيارية ، بدليل أنه يبحث من خلالها عن دفء الآخر، و يتمثل حضوره - رغم غيابه – في الأشياء التي يؤثث بها عزلته ، هاته الأشياء - رغم جمودها- تستدعي الآخر و تستحضره بقوة ولو عن طريق الإيهام :

(رغم وحدتي فتحت الكظيمة و أفرغت الحليب الساخن في أكثر من كأس ، نضدت صحون الحلوى ، و ضعت الأزهار في الوسط ، و ضعت الشموع الحمراء في أطراف الطاولة ، ارتديت معطفي و اتكأت على الكرسي الرجراج أرتب أحلامي ، أراقب بندول الساعة و أنتظر ...) ق : أخيرا وصل الشتاء . هي إذن عزلة موصولة بالانتظار و الترقب ، هذا الانتظار لا يهب للشاعر نصيبه من الفرح و الدفء (لكن رجل الثلج لم يمر ، لم أسمع صرير عربته كالعادة ، أوه ، رجل الثلج لم يطرق النافذة ، و لم يهبني نصيبي من الهدايا) ق : أخيرا وصل الشتاء .
إن البحث عن الآخر فيه مقاومة للفراغ و تحد له ، و هروب من السقوط في الوحشة و الخوف ، فالذات تجد توازنها/ أنسها في الآخر ، و تحتمي به من دوخة العزلة و الفراغ ، لأن انتفاء الآخر هو انتفاء للذات نفسها ، فالآخر هو مرآة الذات التي تتحسس فيها صورتها ، هو صداها الذي تختبر فيه صوتها ، فليس غريبا أن نشهد في تقاليدنا الشعرية صوت الشاعر الواقف على الأطلال (الفراغ – الوحشة –الموت) يستدعي الآخر (الامتلاء – الأنس – الحياة) و لكأنه يحتمي بالثاني من الأول ، أو يتقوى بالثاني من الأول :

(حسنا أيها الفراغ
لست و حدك هنا
أنا أيضا أبحث عن أنيس
أبحث عن خيوط
ترد أقدامي عن الوادي
أبحث عن يد وديعة
تنفض الخوف عن ملابسي)
ق : يد تنفض الخوف عن ملابسي

هذه العزلة التي يحياها الشاعر هي عزلة ممتدة في الزمن ، بحيث تترك آثارها و ندوبها الزمنية في كل ما يحيط بالشاعر بل و في ذات الشاعر نفسها :

(نمت أعشاب الزنجار
على العتبة و في زوايا الغرفة
نمت على يدي
و لا أحد يطرق الباب
لا أنيس لي هنا
سوى طائر البلشون .. )
ق : يد تنفض الخوف عن ملابسي

ف (لا أحد و لا أنيس) تحمل نفيا للآخر ، الآخر الضروري ، أما الباب فهي تضاعف الإحساس بالترقب و الانتظار المريرين، وهذا الانتظار – كالعادة- لا يفضي إلى شئ، رغم ما يبذله الشاعر أثناءه من احتفاء وما يصدر عنه من استعداد ، مما يضاعف الشعور بالخيبة و الحسرة :

( أفتح ألبوم الصور
أفتح مسودة قصائدي
أفتح كتاب الذكريات
أفتح الباب
أفتح شبابيك الغرفة
أفتح قلبي و أنتظر
و أنت كالعادة لا تصلين)
ق : لست وسيما بما يكفي

فكل ما فتحه الشاعر انتظارا للآخر أوصده عدم وصول هذا الآخر نفسه في ارتداد مؤلم ومرير .
مما يبين أن العزلة لا تتبدى في قصائد الشاعر باعتبارها فراغا ، لكن باعتبارها امتلاء بالآخر ، هذا الآخر الذي يتبدى كغياب حاضر لما يمارسه من سطوة و هيمنة على جماع حواس الشاعر و مداركه ، و بالتالي تتورط الذات الشاعرة في التذكر و الحنين ، ومن خلال هذا التذكر و الحنين تدخل الذات في علائق متنوعة و متباينة مع الماضي، فهي إما علاقة :
_ خوف : (أحدق في الماضي/ و أخاف أن أصاب بالعمى) ق: خارج القفص _ أو ندم : (و النافذة التي أغلقتها منذ سنين/ هل كان لزاما علي أن أفتحها) ق
: النائم في أرجوحة بين شجرتين
_ أو قطيعة : (وضعت سنواتي القديمة/ في زورق من ورق/ و نفخت فيه أنفاسي كي لا يعود) ق : النائم في أرجوحة بين شجرتين _ أو خضوع : (البارحة لم أنم / كان طيفك يملأ علي الغرفة) ق : أخبئ حزني في شجرة الطرفاء _ أو تنكر : (غلفت كل الذكريات في علب الهدايا/ و طوحت بها في الهواء/ مغمضا عيني ، متنكرا/ تماما مثلما تفعل بلقيطها فتاة الخطيئة) ق : النائم في أرجوحة بين شجرتين مما يبين أن علاقة الشاعر بالماضي هي علاقة محكومة بالصدام و التوتر و الألم ، بسبب غياب الآخر الذي يحاول الشاعر – من فرط شوقه أو عزلته – استعادته ليس عبر المخيلة و الذاكرة ، بل استعادته استعادة حقيقية بحيث يغدو هذا الغائب حقيقة مادية و عينية لمختلف الحواس :

(أنظر إلى صورك المعلقة على الجدار
فأشم رائة الحناء في قدميك
و أتحسس بقايا الكحل في العينين
أتحسس السوار وأقراط الفضة
و قلادة الكهرمان
التي يتدلى منها درهم للملك القديم )
ق : أخبئ حزني في شجرة الطرفاء

إن الشاعر يعي عزلته ، يعي قسوتها و ضراوتها و ما تفضي إليه من تذكر و انتظار ، ولو من خلال الآخر ، لذلك نجده يخاطب أحد أصدقائه ، ولكأنه يخاطب نفسه ، أو و لكأنه يختبر حالته و يقيس مدى قسوتها في صديقه :
) أرجوك يا صديقي لا تغلق النوافذ هذه المرة و تنزوي في حجرتك الموحشة تتحسس دموعا تنحدر من الماضي و تنتظر ما يسقط على أكتافك من بقايا السقف) ق : أزهار على حافة النافذة

3 - الصورة في الديوان :

ما يلفت النظر و القلب في قصائد الديوان أيضا ، هو قدرة الشاعر على تشكيل صور تكون نواتها المركزية عبارة عن كلمة (الفعل غالبا) ، دور هذه الكلمة هو لحم أجزاء الصورة ، و هذه الكلمة تحيل على الواقع و على الخيال في نفس الآن ، أي نفس الكلمة يستعملها استعمالا حقيقيا و استعمالا مجازيا في سياق واحد :
( أشعل شموعا في زوايا الغرفة / و أشعل ما تبقى من الحنين في جوارحي (ففعل (أشعل) في الأولى مقترن بالشموع أما في الثانية فمقترن بالحنين، أي نفس الفعل ينتقل به في صورة واحدة و مشهد واحد من الحقيقة إلى المجاز، فتصبح الحقيقة مجازا و المجاز حقيقة، أو قوله (أجفف جبيني من العرق و الذكريات) بحيث نجد الشاعر يتنقل بين الحقيقة و المجاز بطريقة آسرة من خلال الفعل (أجفف) . ويمكننا أن نعدد الكثير من الصور التي تأتي على هاته الشاكلة، و هكذا يصبح الواقع متخيلا و المتخيل واقعا، بحيث تذوب المسافة بينهما، ونلفي أنفسنا أمام صورة تحيل على كليهما وهذه من مميزات الشاعر و حسناته ، و لكأنه يؤكد لنا بأن الخيال ليس نقيض الواقع بل هو جزء منه و مكمل له و متضمن فيه على نحو من الأنحاء .

و ختاما يحق لنا أن نتساءل عن هوية ذلك الشتاء الذي وصل أخيرا، شتاء كله عزلة و انتظار و تذكر، هو إذن شتاء مر لكنه دافئ بسبب أنفاس الشاعر المتصاعدة مع كلماته التي قالت قلبه بعفوية وعمق.

Poete632@hotmail.com