(عابد إسماعيل في ديوانه "لمع سراب")

شاكر الأنباري

عابد إسماعيليسير عابد إسماعيل، خطوة إثر أخرى، نحو امتلاك ناصية الجملة الشعرية. تلك الجملة المحبوكة بدقة، والمشغولة بتأن، بعد خمسة دواوين شعرية، وعدد كبير من الكتب المترجمة، شعراً ونثراً. ديوانه الأخير لمع سراب المتكون من اثنين وثمانين صوتاً، هي عدد القصائد، سخّره تجاه غاية مخطط لها مسبقاً، هي إمساك ما لايمسك، وإنزاله من سماء المفهوم والمجرد إلى أرض الشعر والفكرة الصلدة. الفكرة القابلة لكل تأويل ومعنى. فهناك الندم، والسماء، والنظرة، والظل، والرغبة، والحب، وغير ذلك مما لا يمسك ولا يتجسد، غير أنه يشغل البال ويقود خطى العابرين. يحاول عابد الوصول إلى كمال الفكرة عبر صور تساهم اللغة بصنعها، أو ابتكارها.
فنقرأ الأفكار والهواجس، والإلتماعات التي تخطر بغتة في الذهن ثم تختفي. انه يجوهر الموجودات، مقشراً إياها من فوائضها الجمالية لكي يقع على لبها فقط.

الأصوات المصطخبة على بياض الورق تضغط على خيال الشاعر، وتعيش معه في مختلف الأمكنة. تأخذ مرة صفة الأنا التي تعبر عن براكينها الداخلية، وتأخذ مرة أخرى صوت الشخص الثاني، أي الآخر، وهو ربما يكون صوت الشاعر أيضاً، لكن مقاد منه، او مفصول عنه، لغرض التأمل والمراقبة. هذا وذاك مسكونان بوحشة عميقة، وحشة وجودية لإنسان يعيش في الألفية الجديدة. يرقب حرائق الأرض وحروبها وزحزحاتها، وعذابات بشرها، ووحشة الفرد المتعالي الذي يجهد لكي ينحت تفرده بعيداً عن هشاشة القطيع وإبتذالاته.

تلك الأصوات تدق مثل أجراس كنائس عالية، أو تخفت مثل ظلال خريف سريعة الزوال. الماضي أصوات موحشة، والحاضر ممتلئ بالوحدة والعزلة، خاصة إذا ما تحولت ذكريات الماضي، بما فيها الحب والأقرباء والصداقات والرغائب، إلى نشيج مأسوي لا يرى في هذا الوجود سوى صخب وعنف لا يعنيان أي شيء: نجيء من الغابة/ مزدانين بالذئاب/ نجيء من الذكريات مسمومين بالقمصان/ نجيء من المقاهي/ ملطخين بالثورات/ نجيء من الحرية/ مجروحين بالقيود/ نجيء من الأسئلة/ مطاردين بالشبهات/ نجيء من القصائد/ منهوشين بالبياض/ نجيء من الأسلاف / محمولين على نعوش.

تلك الوحدة ناتجة من رصد لحياة ضيقة، رتيبة، مؤطرة بتابوات اجتماعية وسياسية تأخذ فيها المشاعر الناعمة دوراً هائلاً، تصبح فيها أبسط تفصيلة كوناً شاسعاً. ظل المغسلة وفراغ "البالكون" والحلم المار في الرأس وذكرى الحبيبة، وهناك حيث تركن الدراجة أسفل الدرج والقبلة أسفل الحب والمصير أسفل اللحظة، كل ذلك تفصيلات لمشاعر تنتمي إلى حساسية الفرد المضطرب بوجوده، المشغول بما يسمع ويرى ويقرأ. ويجرب ربما بعض الشيء. إنه بالطبع مكان ضيق جدا، ووحشة وجودية قاتلة، الا أن عابد إسماعيل يخلق حيويته الشعرية، ضمن ذلك الوجود المغلق عبر الانتقالات الأسلوبية في الكتابة بين ضمير الأنا، وهو يبوح ويوحي ويخبر، وبين ضمير المخاطب حين يخلق عبر النظر صورا من خارج الذات، فترتسم هنا حالات إنسانية تدعو حتما للتعاطف والتأمل. "صرختك/ نيزك يلهو بقبر"، يقول. فعبر كلمة موحية فضائية الوقع، يتطامن القبر مع ضيقه كي يصبح مدى مائجا. ومن هنا تتحول وحدة الشاعر وكآبته إلى إدمان، لكنه إدمان من نوع آخر، إدمان على الحياة، وتوق إلى استحضاره كي يصبح هو البديل عن تخشب الجسد والروح:

مدمن قصيدة أنا/ أيتها اليد التي تكتب/مدمن أفق/ آكل غيومه/ومدمن سماء/ أشرب زرقتها/ ومدمن رعود/ أمتطي سروجها/ مدمن هتافات/ وأعلامي مزقتها الريح/ مدمن أسرار أنا/ وأخوتي يرمون جثتي في البئر.
ومع روح قراءة العالم ذي التفاصيل، يقترب عابد من الروح الأدونيسية، في اقتناص الخصيب والمجدب، وفي رسم التناقض، أو ربما التكامل، بين المجرد والمجسد، المرئي واللامرئي. وهذا ما يبدع الإيقاع في أغلب أصوات الديوان، أي إيقاع الحياة وهي تتململ وتتثاءب وتتمزق وتتناغم مع الحلم والرغبة والبوح والسير نحو الأمام. كان إيقاعا متلاحقاً لصور وأصوات وروائح وساعات تسوق الزمن ومارة نكرات. أحذيتهم تدل على غيابهم، لكنهم في ذات الوقت يمضون قدما نحو أغراضهم وحاجاتهم ومصائرهم:
على مد نظرنا أحذية/ تمشي على الرصيف/ لكننا لا نرى الأقدام/ التي ترتدي الأحذية/ نرى ركبا مكسرة/ في وضعية الإنحناء/ نهز الدولة/ لعلنا نسمع الخطوات التي اختفت/ نهز غرفة الإنعاش/ لعلنا نسمع الصرخة/ ثم نهز المقبرة الجميلة/ لنسمع رنين الأحلام/ المدفونة هناك/ أحذية على مد البصر/ ولا نسمع وقع خطوة واحدة/ تعود إلى الوراء.

وتلك الأصوات الخافتة والعالية التي كتب بها عابد ديوانه (لمع سراب) تخاف من الوقت، وهو أشبه بعين كونية تراقب حركات البشر ومعيشهم. الوقت أخ اكبر، ساعة عملاقة، والإنسان عبارة عن رقّاص ضئيل يركض ويركض في صحراء شاسعة بلا انقطاع. رغم ذلك وفي الجانب المقابل من هذا التشاؤم الفلسفي العميق، تظل السماء واقعية طوال السنة، وهي تكتب سيرتها بالمطر والريح، وتنام حالمة، أو تحلم أنها تنام. تكرار أبدي، ما الإنسان فيه سوى مقطع صغير، اذ لن يكون بمقدوره أن يختفي في الزحام، وإذ غدا سيسير وحيداً في الشارع عكس اتجاه السير متكئا على عكازين: لا تلمسني بشفقة/ أيها العابر/ لا تغمغم باسمي/ لا تنظر إلى الوراء/ خطر انا/ بوطن موصد/ وناب مفقود. لكن رغم هذا وذاك، تجاوز عابد إسماعيل في ديوانه هذا تجربته السابقة، متخلصا بذلك من ديدنه في التعامل الشعري مع المجردات، التي أصبحت من ماضي الشعرية الحديثة، خاصة وأن فردانية الشاعر لم تعد سوى متكئه الأخير وسط فيضان العالم الخارجي. لم يبق أمامه الا البعد نهائياً من تأثيرات الشعر المترجم، وتراكيبه غير الأليفة أحياناً على الذائقة العربية.

المستقبل
12 تشرين الثاني 2006