(محمد علي شمس الدين في ديوانه «الغيوم التي في الضواحي»)

عبده وازن
(لبنان)

محمد علي شمس الدين ليس مستغرباً أن يستهل الشاعر محمد علي شمس الدين ديوانه الجديد «الغيوم التي في الضواحي» ( دار النهضة العربية، بيروت 2006) بقصيدة عنوانها «سبعة أبواب الموسيقى»، فالهم الموسيقي ما زال يشغل صنيعه الشعري ويتجلى عبر قصيدة التفعيلة التي يصرّ على كتابتها، ولكن من غير أن يهمل ما يمكن تسميته «قصيدة النثر» التي له فيها تجارب عدة قد يطغى عليها طابع النثر الشعري. وأقول الهمّ الموسيقي وليس التفعيلي لأن الايقاع لديه لا ينحصر ضمن نظام الوزن الحديث والقافية فقط، فهو يكسر هذا النظام محرراً إياه من رتابته العروضية ومشرعاً إياه على ايقاعات الحياة والروح، وعلى الموسيقى الداخلية، موسيقى اللغة والكلمات والأحرف بتلاوينها الكثيرة. عنوان القصيدة الأولى، الموزعة الى قصائد سبع، يشي بالنزعة الايقاعية لدى محمد علي شمس الدين، وقد انطلق بها رمزياً من خلال شخصية «معبد»، أحد كبار المغنين العرب في العصر الأموي. وينقل في مستهل القصيدة ما روى عنه أبو الفرج الاصفهاني في «الاغاني» وعلى لسانه إذ قال بعدما سمع رجلاً يقول إن قتيبة بن مسلم فتح سبعة حصون أو سبع مدن في خراسان تضم «سبعة حصون صعبة المرتقى والمسالك لم يوصل اليها قط»: «والله لقد صنعت سبعة ألحان كل لحن منها أشدّ من فتح تلك الحصون». انطلاقاً من هذه الألحان السبعة يبني شمس الدين قصيدته في سبعة أبواب.

يكتسب رمز «معبد» المغني بعض صفات أورفيوس المغني – الشاعر في الاسطورة الاغريقية، وينحو الشعر منحى أورفياً أو منحى «المعرفة الأورفية للعالم» بحسب عبارة الشاعر الفرنسي مالارمه. فالمغني والموسيقي العربي تخطى بصوته وغنائه فتوحات الحصون والمدن التي أنجزها قتيبة بن مسلم، فهو كما يقول في القصيدة «فتح بصوته الزمان والقصور المهيبة»، مثلما فتح أيضاً «باب الجسد» الذي لم يكن أحد قادراً على فتحه سوى المغني الذي في صوته «نشوة الفاتحين». لكنّ مأساة المغني – الموسيقي تشابه مأساة المغني – الشاعر أورفيوس. الأول يدرك استحالة امتلاك العالم الذي يخلقه بالموسيقى وكأنه عالم من هباء، فيقول: «ولكنني كلما لاح فجر مضاء/ أمدّ يدي/ نحو ملكي/ لأمسك أطرافه/ فلا أمسك إلا الهباء...». أما أورفيوس فهو بحسب الاسطورة يفقد حبيبته الى الأبد بعد عصيانه أمر الالهة القديمة الذين كان سحرهم بموسيقاه. وفي قصيدة «باب الفلاسفة» يقول الشاعر إن المتنبي لم يكن يغلبه في بلاط الأمير الذي في حلب «سوى فيلسوف هو العود». هذا كلام شعري غاية في الخطورة ليس لأن الغالب هنا هو الآلة الموسيقية فحسب، بل لأن المغلوب هو المتنبي، الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. إلا أن «الغلبة» هذه يجب أن تُفهم وكأنها انتصار للمتنبي نفسه الذي أشعل موسيقى العروض وجعل اللغة مادة ايقاعية بامتياز. فالشعر أصلاً هو الموسيقى مجسدة في الاوزان والقوافي، بل هو وجهها الآخر الذي لا يمكن إلا أن يقوم به، سواء كانت الموسيقى خارجية أو داخلية.

قناع قيس

إلا أن اللعبة الايقاعية في قصائد محمد علي شمس الدين لا تتجلى في شكل تجريدي خال من البعد الغنائي ومن المعاني والرؤى. فالايقاع المتواصل لديه ليس مجرد اغراق في الموسيقى اللفظية بقدر ما يبدو تجسيداً للأحوال التي تعتمل داخل النفس الشاعرة. ها هو مثلاً في «باب ليلى» يرتدي قناع قيس ليكتب موت العاشق هياماً وعذاباً. يصبح الشاعر قيساً نفسه، العاشق العليل و «القتيل» كما يعبر، وتمسي ليلى التي في العراق امرأة «محجبة» لا ترى حبيبها و «تحيط بها نسوة من حديد/ ورجال عبيد...». إنها ليلى التي «خانت» حبيبها الذي مات في «حبها ألف عام». إنها ليلى العراق، ولكن ليست هي المريضة كما باح قيس مرة، بل المريض هو العراق نفسه. وهذا العراق يحضر في قصائد أخرى حضوراً مأسوياً. في قصيدة «سأحمل مئذنة فوق ظهري» يرثي الشاعر بغداد التي «أطفأت قلبها في الألم» ويرسم صورة سوداء لأرض العراق التي «تشقق طينها» و «غدت بلا شجر» وكأن «قبراً ما» في «حجم الأرض» ألقته «السماء على العراق». أما حكاية شهرزاد فلم يبق من ليل كي تستمر فيه. في قصيدة «غراب دجلة» تحضر رموز العراق عبر «ضريح الأحبة» الذي أصبح في نظر الشاعر «ذاكرة» التاريخ التي حفظت جراح الحسين وعزة المتنبي ودمع ليلى وصرح الرشيد وليل بغداد وأشعار بدر الحزينة. ويرثي الشاعر نظيره الآخر الشاعر بدر شاكر السياب وكأنه مات للتوّ في نار العراق: «كان بدر الذي قام من قبره/ حائراً/ أين يمضي.../ لم يجد بيته/ لم يجد في الطريق لجيكورنخلا/ لم يجد نهره...».

الغناء الشعري

ومثلما يحضر العراق في الديوان يحضر لبنان أيضاً، لبنان المأساة التي أحدثتها اسرائيل في حرب تموز 2006. لكن الشاعر لا يكتب قصائد سياسية أو وطنية وإن بدت تلك القصائد مرتبطة بالحرب مناخاً وواقعاً. بل هو يعلن شكه في قدرة الشعر على مجاراة المأساة التي حلت بالناس الابرياء وبحياتهم اليومية. قصيدة «الغيوم التي في الضواحي» تعبّر بصراحة عن الأثر الذي تركته الحرب في ذات الشاعر التي تستحيل هنا ذاتاً جماعية. وإن بدا حدس الشاعر بالمأساة سبّاقاً وكذلك توقعه حدوثها فهو ينفي صفة «النبوة» عن نفسه قائلاً: «لست نبياً/ ولست بعرّاف هذا الزمان». لكنه يعلن أنه شم «قليلاً من الدم» وأبصر «شيئاً من الذعر في وشوشات الطيور». هذا حدس الشاعر الذي يعترف بأن الحرب «أقوى وأعظم من كل ما يكتب الشعراء». ويمضي في فعل «الاعتذار» مجاهراً، أمام «الذاهبين الى الموت» و «الصامدين» بعجزه عن «الغناء» مضيفاً: «أنا مثلما تعلمون ضعيف/ وأوهى من عشبة في الجدار...». لكنه على رغم ضعفه وعجزه أمام هول الكارثة يصرّ على «الغناء» الخالي من أي «فصاحة» أو حماسة خاوية كأن يقول: «وما كنت يوماً/ لأصدح فوق القبور/ كديك فصيح». وترتفع النبرة الغنائية المجروحة والمحفوفة بالألم الانساني ترثي الحياة والشهداء رثاء وجدانياً عميقاً: «لم نعد نعرف الطقس/ حتى رأينا الاضاحي/ تعوم على صفحة النهر...». وتتصاعد هذه الوتيرة الغنائية أكثر فأكثر في قصيدة «عرس القاسم»، والقاسم شهيد من شهداء قانا سقط قبل عرسه: «تجمعوا/ لكي يزفّوه الى القرى/ تناقل الرواة خبراً/ يقول إنه المسيح عاد...». هذا الشهيد الفتى يصبح رمز «البشارة» وقد نذرته أمه «للموت وحده». وفي قصيدة «زيارة الى موقع الغراب» يهجو الشاعر الحرب والقتلة الذين يصنعونها، القتلة الذين «يمتلكون السماء وما تحتها» والذين يمتلكون بيوت الضحايا و «حليب الصغار»، «إنها الحرب/ ما حيلتي؟/ أقول لكم:/ ليس في قدرتي أي شيء لأمنعها»، يكتب الشاعر. ثم يرثي الجماعة التي ينتمي اليها، يرثي الناس الضعفاء والضحايا الذين هم نحن: «تدور على لحمنا العجلات» يقول، ثم يضيف: «لا قمح في الطواحين» و «لا ماء/ لا شجراً واقفاً فوقها/ ولا طير حتى يغني/ ولا خبز كي يأكل الجائعون/ وإنا هنا واقفون/ نسمي المكان الذي نحن فيه بلاداً...».
تتنوع أجواء الديوان بين قصيدة وأخرى وتتعدد الموضوعات الشعرية والمرجعيات والتقنيات، ولعل هذا ما يميّز هذا الديوان عن الدواوين الأخرى. فالتنوع هنا يعني تشريع القصائد على أفق واسع، تمتزج فيه الذات بالعالم، والرثاء بالرؤيا أو الحلم، والغريب باليومي ولكن عبر لغة شعرية تدفق دفقاً وتبتعد تماماً عن أي إطناب أو اصطناع أو إغراب في البلاغة. يرثي الشاعر أمه في قصيدة جميلة عنوانها «الفراشة». وقد يكون مفاجئاً أن يستعير رمز الفراشة ليسقطه على صورة الأم في لحظة اندثارها في التراب. إلا أن الرثاء هنا ضرب من الشعر الرؤيوي المتجلي عبر «ظهور» الأم الميتة وانبعاث طيفها في صورة فراشة: «ورأيت رؤيا/ في الليل/ في الحلك العظيم.../ رأيت فراشة في الضوء تخفق». هذه الفراشة لم تظهر إلا بعدما ألقى «آخر حفنة/ فوق التراب من التراب». وفي القصيدة تتكلم الأم التي يكنّيها بـ «الجميلة» والتي «ينتابها قلق الغياب» وتسأل ابنها معاتبة: «لماذا غبت يا ولدي؟». والأم التي تدعى «آمنة» وهو «إسم الرحمة الاولى» يسبغ الشاعر عليها ملامح شبه أسطورية، فهي «الأميرة التي خلف الحمى» و «جمالها/ أعلى من الاسوار» و «بياض الثلج في وجناتها» و «اخضرار العشب في نظراتها»... ولا يغيب اسم محمد الذي اطلق على الشاعر يمناً وبركة، فيقول: «السلام على التي/ ولدت «محمد».../ واغتسلت ضحى بالماء...». إنها الأم المنتقلة من الحال الترابية الى حال التجلي السماوي، الأم – «الفراشة» التي «حطت هناك على السرير/ كنقطة بيضاء/ في الحلك العظيم».
ولئن اعترف الشاعر بأنه لا يحترف التنبؤ ولا العرافة فلا يعني هذا الاعتراف أنه ليس صاحب رؤى وأحوال. في قصيدة «حدود «الحيرة» وأحوال المقيم فيها» تتبدى الحيرة في معنييها المختلفين: المدينة العراقية القديمة والحال الروحية التي تخامر المتصوفة وتعرف بمقام الحيرة أو موقف الحيرة. ولعل «الرجل» الذي يتحدث عنه هو الشاعر في مَن يمثل أو الشاعر كمتصوف أو عرفاني: «رجل يسكن في أرض/ تدعى أرض «الحيرة»/ يُغمض عينيه على الأشياء/ فيبصر كنه الاشياء». إلا أن أرض الحيرة تلتبس هويتها أو تقع في الابهام الذي يتقصده الشاعر، فاذا حدودها غامضة كما يقول «تمتد من الخابور ومفترق النهرين، الى أرض تدعى «أين». إنها المدينة التاريخية القديمة وقد تحررت من هويتها الجغرافية لتصبح مكاناً غفلاً يسميه الشاعر «أين» وهو اسم يعني اللامكان مصوغاً في شكل السؤال الذي تفترضه مفردة «أين». ويواصل الشاعر رسم صورة هذا الرجل – الانموذج فاذا هو أيضاً «رجل ملقى في حيرته/ لا يعرف أين يقيم» أو «رجل ينظر في المرآة/ فيبصر أحوال العالم». وتتضح هوية هذا الرجل قليلاً عندما يقول الشاعر: «رجل يسأل يوسف/ عن مأساة العلاج». إنه أيضاً الرجل الذي ينظر في التاريخ «فيبصر ما لا يبصره الراوي» بل الرجل الذي «يختار له اسماً ويغادره». ولعبة «الاسم» تبلغ ذروتها الشعرية – الصوفية في قصيدة «مَن منكم لا يعرف اسمي؟». حيث يعلن «الشاعر» أن مَن لا يعرف حرف «الميم» لا يعرف اسمه. وهنا تأخذ الاحرف التي تؤلف اسم الشاعر شكل اليمن والقدسية والماوراء منذ يصبح الاسم قريناً صوفياً للاسم الاسمى: «أحفر بالاقلام النورانية/ أحرف اسمي/ كي اسكن فيه»، ويضيف الشاعر: «وصعدت/ وكان «الميم» يضم «الحاء» ببردته/ ويشد على «الميم» الاخرى/ اشلاء الوجد/ فيشتد/ يا ولهي...». هذه القصيدة تضرب جذورها ليس في تربة الشعر الصوفي فحسب وإنما في مساكب التكوين، مستعيدة النور الأول. إنها أكثر من قصيدة صوفية، إنها قصيدة تكوينية في المعنى الديني للتكوين وفيها يرى «الشاعر» صورته في مرآة الزمن السحيق.
تتنوع إذاً اجواء الديوان فيفاجئ الشاعر قارئه مثلاً بقصيدة مستوحاة من لوحة للرسام سلفادور دالي «سيدة تنظر من نافذة مفتوحة». وهذه قصيدة طريفة جداً يبحث الشاعر عبرها عن «المجهول البحري الأزرق» المتجلي في اللوحة، ويتأمل تلك المرأة وهي تتأمل بدورها من نافذة مفتوحة. لكن المرأة التي ألفاها قد غادرت الصورة فيما «النافذة المفتوحة ظلت نافذة مفتوحة» ستظل تنتظر بعدما «مضى دالي». القصيدة الثانية المفاجئة أيضاً تلك التي كتبها في الراقصة اللبنانية داني بسترس «في يوم انتحارها». ويكتب الشاعر ايضاً قصيدة في رثاء الروائي الاردني مؤنس الرزاز مستوحياً بعض أعماله.
ديوان «الغيوم التي في الضواحي» قد يكون أكثر من ديوان، لكنّ أجواءه المتعددة، زادت من ثرائه، ووسعت افقه، وبدا الشعر هنا قادراً فعلاً على أن يناغم بين تلك الاجواء التي امتزجت فيها صورة الذات بتلافيفها أو ثناياها الداخلية وصورة العالم بما تحمل من تناقضات.

الحياة
28/01/2007