1

قفزات في الهذيان الفاتن

محمد علي شمس الدين

قراءاتان في "مرايا العابرات في المنام" لجمانة حدادبعد "عودة ليليت" ("دار النهار للنشر"، 2004)، وهي قصيدة في "تأنيث العالم" شاءتها جمانة حداد لا تمر من دون قتل اسطورة الرجل الاول، العالي، المسيطر، من خلال فصل "سالومي بنت ليليت"، تعود الشاعرة الينا بديوانها الاخير "مرايا العابرات في المنام" ("دار النهار" و"الدار العربية للعلوم"، ناشرون، 2007). يتم مديح ليليت بسبعة اصوات الرجال، لأنها "سبع نساء في امرأة"، والسبعة الرجال جوقة واحدة ترتل احوال ليليت، ومن خلال تقنية سرد شعري شبيه بلغة العهدين القديم والحديث، ينتقل الخطاب من نشيد بلقيس ابنة ليليت، الى لغة كهنوتية عجيبة على لسان خالق حواء، النادم على طرد ليليت، الواصف لها ولأحواله، ولعودتها، كتصحيح لخطأ كوني قديم، وفي حديث متدفق كأنه حديث الله لنفسه أو مزمور ندم الهي، تتفجر فيه اللغة، وتُحكم سيطرتها لكي تغدو اكثر ضراوة، لتنتهي الحكاية الاسطورة الرامزة بعودة ليليت.
قفزة اخرى نحو تأكيد العودة المظفرة لليليت الاسطورة الخلق، الأولية، أمّ الرجل واصله واصل الوجود، تمارسها جمانة حداد في "مرايا العابرات في المنام"، حيث الشاعرة تميت الموت الذي هو انتحار الشاعرات باختيارهن، وهو اختيار وجودي حر ومرعب، وكأنها متمرسة بأعلى انواع الخطر، وكأنها بطل المتنبي الذي يتساءل حياله "... تقول أماتَ الموت أم ذُعرَ الذعرُ". استعارة المرايا والمنام لعبور الشاعرات المنتحرات استعارة "لاكانية" (نسبة الى جاك لاكان من خلال دراساته في علم النفس، وخصوصا عندما تحدث عن مرحلة المرآة بوصفها المرحلة التي يكتمل فيها للذات وعيها بنفسها)، حيث يتم التوازي بين الشاعرة الراوية او الساردة، وبطلاتها الشاعرات المنتحرات. وهو توازٍ عادةً ما يفضي الى احد موقعين: إما التضاد والصدام، وتالياً الافتراق بين الوجه وصوره في المرايا، وإما الالتحام، وتالياً اندماج الوجه والصور، السارد الراوية وشخوصه المتعددين. والحال الثانية هي حال جمانة حداد مع بطلاتها المنتحرات الشاعرات، على اختلاف صورهن وهوياتهن واشكالهن ولغاتهن وازمنتهن وامكنتهن واشكال انتحارهنّ... الخ. فهي هنّ وهنّ هي، ولا فاصل بين الاصل وصور المرايا، على الرغم من انها مرايا غير مسطحة، غير مصقولة، بل مرايا مقعّرة او محدّبة او مكسورة. من هنا، نفسيا، وشعرياً، الكتاب مُعْدٍ. عبثٌ قليلٌ في العنوان من "مرايا العابرات في المنام" الى "العابرات في مرايا المنام" بحيث تغدو البؤرة تعود لصاحبة المنام (جمانة حداد)، أما الأطراف فما يتحلق حولها ويعبر من مراياها من شاعرات منتحرات. وفي كل الاحوال، فالخدعة شفافة والكتاب، بالتأكيد مُعدٍ.

كتاب جمانة حداد شبيهٌ بمدافن الفراعنة، الدخول اليه من دون عدة وخريطة واستعداد نفسي او دافع، ربما يودي الى الهلاك، على غرار اولئك الذين سقطوا في مطبّات المدافن وفخاخها، فوقعوا في حفرة، ولم ينتهوا ليستمتعوا بمتعة الاكتشاف. فنصوصها ذات طبقات وتركيب، أصوات وألاعيب، وحيل كتابية، تمتد من اخبار صحف، الى استشهادات لمفكرين وفلاسفة وشعراء، الى قصائد وأصوات مركبة للشاعرة نفسها، الى تقارير عن حالات الشاعرات المنتحرات، احيانا محايدة كتقارير البوليس او المستشفيات، واحياناً محقونة بجمل غير علمية، غير محايدة، شعرية (بمعنى الحساسية والصيغة)، مثل الجملة التي وردت في التعريف المختصر بأميليا روسيللي الشاعرة الايطالية المولودة عام 1930 (تحت برج الحمل) والتي انتحرت بكهربة نفسها وهي في بانيو شقتها، في يوم احد، في السادسة والستين من عمرها، "كانت تقول ان البرق عشيقها" – عانقته. فجملة "ان البرق عشيقها" مفتاح شعرية الانتحار هذا. او كجملة "النوم والموت شقيقان توأمان (من ملحمة "الالياذة" لهوميروس) كمدخل لمرآة توفا. توفا ديتلفسون شاعرة دانماركية مولودة عام 1918 (تحت برج الجدي) انتحرت بابتلاع حبوب منومة في يوم احد في السابعة والخمسين من عمرها، عانت ارقا مهلكا طوال حياتها. كان في الامكان، على ما نرى، استبدال جملة هوميروس الوصفية، بجملة اخرى هي في رأينا من اهمّ الجمل وأعمقها في الموت والنوم، قالها الرسول الاعظم وهي "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"، فتكون اميليا اختارت بانتحارها، اليقظة.

الشعر، في "مرايا العابرات في المنام" اكثره هندسة، وبعضه انبثاق Jaillissement – والهندسة تركيب وتأليف وكولاج وترتيب محسوب لمقاطع ومفاصل ومحطات. لذا، فعملية التأليف الشعري، كتقنية، هي هنا عملية ذهنية، في حين ان في الكثير من المقاطع، داخل هيكل التأليف، انبثاقات وظهورات مفاجئة، باللغة او الصورة او الخطاب (المونولوغ او الديالوغ)، وهكذا، مبدئيا، من خلال فصل نموذجي من فصول "مرايا العابرات" والتحديق فيه، ورسم خريطته، نستطيع الامساك بالخريطة او البيان الصالح لقراءة جميع الاقسام والفصول. هكذا نمسك بمفتاح او خريطة الدخول الى المدافن الفرعونية. والقصائد مدافن لأنها تتعلق بشاعرات منتحرات، حيث الموت في حالته الخاصة والمفاجئة (الانتحار) هو مصباح الهداية لكل شيء: الحياة، الحب، القصيدة، الانتقام، السخرية، والكفر والايمان... الخ.

كنا نأخذ على نزار قباني، مثلا، وعهدئذ، ان قصائد الحب التي كتبها، مسحوب منها عصب الموت، فهي مستغرقة باللذة الحسية المتعيّة والمادية، حتى لكأنها لا تفكر في الموت، أو تطرده عمداً وبرأي، في حين أن الحب شروع في الموت والعكس صحيح. مجنون بني عامر أعظم عاشق في التاريخ هو هكذا. ويروي عبد المنعم رمضان عن والده الذي كان "حبّاباً"، اي كثير الحب، انه ما عشق امرأة الا كان يمشي في الشوارع ويردد "قتلتني... قتلتني"، وهي حالة جسدية وصوفية للعاشق قتيلاً، او فانياً ميتاً في المعشوق. اختيار الانتحار كمغامرة في درجة الغليان لاختيار الحب. هو بؤرة شعرية ووجودية لا مثيل لها لدى جمانة حداد في "مرايا العابرات". لكن الحب بين يديها وأيدي بطلاتها، ضالع كليا في الجنس، بل في السادية الجنسية، بل هو السلاح العجيب الذي تشهره الانثى المقدِمة على الموت اختياراً، في وجه هذا الذكر الوحش، فيتعاركان. على الكرسي، او في السرير، او على الارض، كعراك الديوك، ويسيل الدم وتتعالى صرخات النشوة. صراع ديكة هو بين الشاعرة الانثى وآلة الانتحار (الموت) الذكر، بل صراع الماتادور (الانثى) ضد الثور الموت الذكر بقرنيه المعقوفين، وانبثاق الدم وتبعثر الاشلاء هو ذروة النشوة وعرامها من جراء التحامٍ عنيف للذكر بالانثى. فمن اول مطلع للكتاب، نقرأ، وكأن ذلك على سبيل الاستطراد "... ثم انك جنس ايها الموت". وهو شهوة وانتصاب ضوء اسود ونازل في ثياب فتى اسمر وسيم غامض بقميص اسود وبنطلون من الجينز الغامق والضيق، وليس حليقا تماما، رغبة في بعض وخز الشعر، ثم هو اغتصاب حين يدخل ويصرخ في غيظ: تعالي ايتها الفاجرة. تتعرى وتضاجعه بعنف، ويأخذها بالقوة، ثم يتقطر الشعر والكلمات بعد ذلك، على الصفحة، كأنه قطرات المني:

"جنس
هو
الموت
نعم
يلهث
الشريان
المشدود
عند
ملتقى
الفخذين".

"الموت سيصل يا اميرتي الحلوة، يشم ويلحس". فالموت جنس والجنس موت. اي الجنس افتراس حتى الموت.

القصائد شديدة القسوة. وسوف نعثر على دمج وتبادل ادوار بين الرحم والقبر في سوداوية حالكة جدا، استحضرت لديَّ اعمى المعرّة حيث يصور بسخرية صورية مدهشة تحول القبر حتى يفغر فاه لتلقّم الاضداد في جوفه، الى فم ضاحك "ربّ قبر قد صار قبراً مراراً/ ضاحك من تزاحم الاضداد".
تقول جمانة حداد: "كل حياة، هي موت يقهقه في مرآة"، وتستطرد مستنبطة على الارجح الصورة المعريّة: "لا تزغردن يا مزغردات/ ولا ترتدين ابيض العرس/ لست اولد لأولد/ انما انا فقط لأموت"، كأنه "لِدوا للموت وابنوا للخراب"، أو عبثية "غير مجدٍ...".

تصور الشاعرة حركة الولوج والخروج (وهما حركتان جنسيتان) في الكثير من ادوات الانتحار واحوال الشاعرات المنتحرات. فالتحام الشاعرة الارجنتينية الفونسينا ستورني المولودة العام 1892 والمنتحرة غرقا في البحر وهي في السادسة والاربعين، هو التحام جنسي. ثمة مديح للعشيق البحر الموت الفردوس المنشود. "من مياهٍ فمي، من مياهٍ نظرتي، من مياهٍ حلمتاي". انه اذاً اندراج جسدي بمفردات الجنس الانثوية والذكرية "صلب قضيب الرمل". لسعة المخدر التي قضت بها الشاعرة الاسوجية كارين بوي، لسعة نشوة جنسية قاتلة، والرصاصة التي اخترقت فم الشاعرة البرازيلية آنا كريستينا المنتحرة بإطلاق النار على رأسها من بندقية صيد، هي عضو ذكري مخترق موجع وممتع حتى الموت. ومثله حبل المشنقة الملتفّ حول عنق الشاعرة الروسية تسفيتاييفا المتنحرة بشنق نفسها، هذه العنق الرهيفة اللطيفة البيضاء الشاحبة اللينة كأنثى متأهبة للحب. اقول حبل المشنقة عضو ذكري مؤلم وممتع حتى الموت حيث النشوة تقتل الالم او تزدرده. اكثر ما تتجسد الايروسية المَرَضية للانتحار، في مرآة فلوربيلا. ان فلوربيلا اسبانكا شاعرة برتغالية انتحرت برمي نفسها تحت عجلات قطار. وفي ما يشبه المونولوغ المستعاد تقول (ودائما وفي كل مرآة من المرايا، فإن الراوية جمانة حداد تقول ايضاً بلسان بطلتها الشاعرة المنتحرة): "شيء وحيد يثيرني حقا: مشهد القضيب المنتصب المسنون المتأهب"، "معبود حي يستدعي السجود والاكرام"، ثم يتحول القطار (الذي اختارت الشاعرة الموت تحت عجلاته) الى عضو مستحيل اشتهته ولم تستطع الحصول عليه. فالموت تحته منحها الرعشة الباهرة القصوى التي طالما تاقت اليها في حياتها ولم تذقها. تضيف: "ارتمائي تحت عجلاته دعوة مباشرة لاغتصابي". وهو نداء الشاعرة الايطالية اميليا روسي المنتحرة بكهربة نفسها في بانيو شقتها، حين رمت نفسها في "مغناطيس السيل" وقفزت قفزة "في الهذيان الفاتن"، وهي النشوة بالكهرباء التي "من فرط شعاعها جسدي انتشى". اما السكين في "طقوس الملاك" – مرآة ريتيكا – الشاعرة الهندية المنتحرة بقطع اوردة معصمها بسكين مطبخ، فهو "عضو رجل موشّى بعري رغبة". هكذا نمسك بمفتاح الدخول الى مقابر نساء جمانة حداد المنتحرات بالشهوة والنشوة، المفتقدة، المستعاض عنها باختيار اعنف انواع الموت انتحاراً. وهي الفكرة الاكثر غرابة وغواية وخطرا في مشروع شعري معاصر، لم اجد ما يقترب منه سوى اسطورة الشاعر الأموي علي بن عبد السلام المعروف بديك الجن الحمصي، الذي قتل حبيبته ورد من شدة شغفه بها، ثم ضاجع الجثة بعد ذلك، ثم احرقها وصنع من رمادها كأس خمرة جلس يشرب منها ويندم ويبكي ويقول الشعر حتى مات.

"مرايا العابرات في المنام" ايضا تأليف شعري وتقنيات وسرد حكائي ولغة او لغات للشعر واخرى للسرد. وكما سبقت الاشارة هو نص كبير ذو طبقات، والحفريات فيه تكشف لنا بالتدريج اسسه الهندسية المعمارية، ولبنائه وحيله ومطباته، التي وإن لم يكتشفها المستكشف فإنه منتهٍ الى تلافي الدخول في المقبرة الفرعونية للشاعرات المنتحرات. فثمة ما يشبه التشويش المقصود من الشاعرة او التضليل للمستكشف من خلال اصوات وحكايات ومطالع وجمل وكورس واقوال مقتبسة وارشفة صور... ألخ... بل ثمة اعلان ترفعه جمانة حداد في اول الكتاب تحت عنوان "تحذير" هي تقول: "حل من اثنين: اما ان تهرب، وإما ان تدجّن موتك"، وكأنه تحذير المقابر الفرعونية: "لا تدخلوا هذه المقبرة"، والهدف على الارجح حفظ الاسرار بإبقائها في حيز الغموض والمستور، فحكم الغيب اقوى من حكم الشهود، وربما كان السبب الثانوي اقصاء لصوص الآثار والكنوز المدفونة.

ثمة بنية نموذجية مهندسة ذهنية مؤلفة مركبة في رأس الشاعرة لكل مرآة او نص من "مرايا العابرات في المنام". هذه البنية هي التي سمّيناها الهندسة الذهنية للكتاب. نستطيع ان نأخذ على سبيل المثال، التصميم النموذجي من خلال "مرآة نيلغون". يبدأ النص بصفحة مؤلفة من صورة (ملصق) يمثل فتاة طائرة، وهو غلاف عدد من شريط "سوبر غيرل" المصور 1959. تحت الصورة (الملصق) تعريف لغوي من "لسان العرب": "هوى هَويّاً وهُوَيّاً وهوياناً، الشيء: سقط من علوّ الى اسفل. هوت المرأة: هلكت فهي هاوية". بعد هذه الصفحة من "مرآة نيلغون"، تأتي صفحة ثانية تعرّف بالشاعرة التركية نيلغون مارمارا المولودة عام 1958 (تحت برج الدلو) التي انتحرت برمي نفسها من شرفة بيتها (في يوم الثلثاء) في التاسعة والعشرين من عمرها. في الصغر كانت هوايتها المفضلة قراءة القصص المصورة ثم صدّقتها وشخّصتها عندما كبرت. يلي ذلك نص عنوانه "في النافذة المفتوحة ابدا"، وهو نص بلسان الشاعرة المنتحرة بمثابة وصية بتوزيع ارثها، ما خلا اعضاء منها، نكتشف على التوالي انها: عيناها: "لا، لن اورّث احداً عينيَّ/ بل/ من/ عينيَّ/ سأقفز/ لأفر!". وفمها، بصيغة العينين نفسها، والترتيب، وعنقها أيضاً... لأنها من فمها وعنقها، كما من عينيها، ستقفز لتفرّ. والباقي من أعضائها وممتلكاتها تهبه تركة.

هذا التركيب الشكلي من بناء قصيدة "مرآة نيلغون" يُستكمل في القسم الثالث من "مرايا العابرات في المنام"، تحت عنوان "تفاسير الموت بالفراغ" ويشمل: تفسير الدين: وهو نص على غرار نصوص التكوين في الانجيل أو التوراة: "في البدء خلق الله الشاعرة وصارت الشاعرة شوقاً وفراغاً صار الشوق، وقال الله: لتمت الشاعرة ارتماء في الفراغ. فماتت ارتماء في الفراغ الشاعرة.

ورأى
الله
ذلك
أنه
حسن".

يليه تفسير الشعر وهو نص تأملي للشاعرة نفسها، أعني جمانة حداد. هذا هو النمط التأليفي والهيكل النموذجي لنصوص "مرايا العابرات". لكن الحواشي والتفاصيل وتقنيات السرد وحيل الشعر، واساليبه، واللغة المتنوعة، تشكّل الزيت الذي في القنديل والروح التي في الهيكل، وهي وثابة، غنية، متنوعة، ومفاجئة، ويقتضي أن يُحسب لها حساب. من تقنياتها تعدد الاصوات وتداخلها: كورس، صوت وصداه، راوية وبطل، مرايا متقابلة، وجوه وأقنعة... سيرة ذاتية، سيرة تسجيلية مخترعة لآخرين، استنطاق الداخل، تقنية الوصل والاستطراد، وهو ما نلحظه في "مرايا" من صفحة 23 الى صفحة 39 من خلال اثني عشر مقطعاً، ينتهي كل مقطع بكلمات يسلّمها لبداية المقطع التالي، وهكذا حتى آخر القصيدة، وهو ما سميناه تقنية "الوصل والاستطراد". فالمقطع 1 على سبيل المثال ينتهي بجملة "أما أنا فأدخل المرآة حتى اللب"، ويبدأ المقطع 2 بـ"حتى اللب، أدخلها، المرآة"، وهكذا يتواصل النص بتقنية التسليم والابدال حتى نهايته.

لا يفوتنا ايضاً الحشد المتدافع اللغوي كالسيل بلا نفس "فحيح الموت عويل الموت صهيل الموت نعيب الموت زئير الموت صرير الموت عواء الموت نعيق الموت مواء الموت هديل الموت... الخ"، وهي 28 صوتاً للموت مسبوقة بمثلها في أدواته "مخالب، أنياب، صوافر، منقار أظفار قرون... الخ"، ملحوقة بمثلها في ضرباته "عضة قرصة لدغة نطحة خنقة طلقة شكّة لبطة... الخ"، فضلاً عن العمل على التتابع بلا فواصل للافعال "الميت ينهض يرتدي يفتح يستخرج يرى... الخ"، أو للاسماء أو للصفات، أو لصيغ النفي المتدافع أو الاثبات المتدافع، وهي في مجملها تقنيات أسلوبية لغوية وبيانية تجعل من سيمياء المجموعة سيمياء مركّبة، والشعر فيها يقفز قفزته التجريبية الاكيدة ونسأل: هل الشعر عمل انتحاري مثير أم الانتحار عمل شعري خطير بخطورة الشعر نفسه؟

***

2

شعرية تصدم تفاجىء وتنقضّ على اللغة كفريسة

هنري فريد صعب

"في مرايا العابرات في المنام" ("دار النهار للنشر" و"الدار العربية للعلوم"، 2007) تقدّم لنا الشاعرة جمانة حداد، ما تمكن تسميته "القصيدة - الرواية"، وذلك للمرة الاولى لبنانياً، كما أظن. أما عربياً، فقد سبق لفاضل العزاوي أن نشر عام 1980، كتاباً عنوانه "الديناصور الاخير"، مع تعريفه بعبارتي "قصيدة - رواية". لكن نسيج التركيب التعبيري عنده جاء أقرب الى النسيج الروائي، ما يجعله تجربة أولى غير ناجحة.

ما هي القصيدة - الرواية؟
في القصيدة كجوهر مستقل، يتداخل قطبان: الشعر والشعرية. والشاعر يجهد في أن يتوسط هذين القطبين المماثلين في منتصف المسافة، محاولاً أن يوفّق ولو للحظة، في دعم ازدواجيتهما وتعدّد أشكالهما الملازم للقصيدة. أما الرواية فهي حقل مفتوح على كل احتمالات السرد الجمالية. وعليه، فالقصيدة - الرواية، في صيغتها هذه، لا تفقد هويتها، وإنما تمتح من الرواية ما يسهل عليها هضمه، ويُغني بنيتها، كشأن الرواية - القصيدة التي تبادلها بالمثل.

فكيف تجلّت القصيدة - الرواية في "المرايا"؟
اليك ما تقوله الشاعرة في حديثها الى جريدة "السفير" (9/10/2007): "كل مجموعة شعرية، هي عندي مشروع، أخطّط له تماماً، مثلما قد يخطّط روائي لحبكة قصته. أعمل على البنية، والهيكل، والتصوّر العام، قبل أن أشحذ همتي وأغوص في الجوهر. ما عدت أجد نفسي معنية بجمع قصائد متفرقة وإدراجها في كتاب، بل ينبغي عندي أن يكون الكتاب "عملاً" له منطق واحد يحرّكه، وقيمة اساسية ينبش في تربتها ويدور في فلكها، وبنية متشعبة ولكن متجانسة تتواطأ مع مضمونه وتساهم في إيصال الرؤية الشعرية الى القارئ".
اذاً، على غير وعي منها ربما، قادها تخطيطها ل"المرايا" وبنجاح، الى ما سميته: القصيدة - الرواية. حيث في "عملها" هذا، ترفل القصيدة في قطبيها، ساطية في الوقت عينه، على ما يلائمها من أشياء الرواية. وأهمها، في نظري، محاولتها محو الملل عن ملامح الشعر، على غرار مطمح كل روائي في الرواية. فنحن نعرف أن الشعر، مهما جوّد في شكله ومضمونه، يظل يحمل سيماء الملل. فالشعر مملّ أصلاً، وإن كان يجذب ويستهوي بقوّة وفتنة؛ ولاسيما الحديث منه، الذي أصبح في أيامنا يكاد يكون سرياً، ومتداولاً بين فئات قليلة ونخبوية، ما جعل الرواية تتقدم عليه. ففي حين لا يجرؤ أحد اليوم، على كتابة قصيدة على مثال أحمد شوقي أو الأخطل الصغير، أو لامارتين مثلاً، ومَن في صفّهم، لا يُعاب في المقابل، روائي يشبه بلزاك أو تشيخوف أو موباسون، بل له ملء الحرية في التنقل بين "الطليعية" و"الكلاسيكية". من هنا، ظلّت الرواية، مع السينما والتلفزيون، شديدة التأثّر بالحفاظ على الاتصال بين الفن المطلق، والجمهور المضمر من طريق مختلف المستويات والسطوح أكثر من فن آخر ترهّف نهائياً كالشعر.
وعليه، فالشعر عند جمانة حداد لغة تقول، تفعل لا تهذي كما عوّدنا جيل، تخرمش، تصدم، تعرّي، تتوقّح. "لغة من النصال الحقيقية، خناجر لا تكلّ، تفرقع في انتساق"، على حد تعبير أوكتافيو باث. الشعر في "المرايا" ليس ترفاً. إنه تحدٍّ. مبعث للقلق. ينقضّ على اللغة كفريسة لا كحجارة نرد.
تقول في الصفحة 46: "إنسيْ أنك الله، الضبابة، القلق، السجية الأمكر من قناع، الوعد، حضن الوعد، العشبة التي تغيّر العالم، مثلما عشبة وحدها تغيّر العالم... إنزلي: اطردي خوفك بترنيمة خافتة، اسحقي كل قيد، ونادي ما تظنينه القفص، والسر، واللبس، لا تستغيثي بسوى الحجر...".
بمثل هذه الصرخة، قطّعت الشاعرة ذاتها شذرات شذرات. وبحس روائي، اختارت اثنتي عشرة شاعرة انتحرن بأساليب متنوعة، واندست في كل منهنّ، وراحت تفرّغ هواجسها، وعُقدها، وشكوكها، وأحلامها، وطلاء "مخالبها"، ودبابيسها، وشهواتها. كان يمكنها أن تختار أي اسم لا تاريخ له. لكن انتماءه الى تاريخ ومكان وزمان، ثم بثّ روحها فيه، قد أضفى على هذه القصيدة - الرواية جواً حركياً ملتبساً بين الحقيقة والوهم، وهو من أشد التوترات الذهنية التخييلية. وما زاد في حركية هذا الجو، لجوء الشاعرة الى "مسرحة" ذاتها المتشظية، فكان ذلك التخاطب الحيّ بين الأنا - الآخر، والأنا - الذات، في لعبة جدلية مأسوية.

"- ها قد نمتُ وانقسمت. جسدي شرخ ظِلٍّ صار. وصارت يدي، الشفافة يدي، تكسر النهر، وصرت أنشطر. وأظل كاملة. وأتفكّك. وأظلّ كاملة. وأتفتت. وأظل كاملة. وأنقص. وأظل كاملة... وصرت بنفسي أبدأ نفسي. لا توأم لي. لا صنو. لا اصل أصلاً".
"- بعدما نمتِ أصبحتِ أنتِ جريمتك
وأصبحت الدم وما يبقّعه" (ص64-65).

وهكذا، على شذرات هذه الأنا، ارتفعت أعمدة هيكل القصيدة الثلاثة: الموت والمرآة والانتحار.
تقول الشاعرة حداد في المطلع الاول: "اشتهاءً أشتهيك أيها الموت. يا ثور الهداية الأعمى. يا من تحرث نومي كل ليل. يا من تراوغني وتصارعني وبالاحمر التراب تمرّغني. يا سيد الضوء الاسود وممتحن الاحلام. يا جثة تشتعل في جثّة وكوناً يمرّ من عين العدم. يا من تجعلني صنماً في الصباح لتخرّ أسفل قدميّ وتتخشّع لي. يا بائع الألسنة الحامضة اشتهاءً أشتهيك فاستجب شهوتي".
يبدو لي أن مجابهة شاعرتنا للموت بهذا الشبق، ليس سوى مظهر من مظاهر شدّة حبها للحياة. "الموت مرآة الحياة"، يقول يسبرز، و"الحب لا يكون عذباً حقاً الاّ في الموت"، يخبرنا نوفالس. فالمرء الذي يغوص في صميم الحياة ويتذوّق جوهرها، إنما هو ابن الحياة، القوي بحبها الكبير له، الذي يشعر بأنه يمتلكها كما تمتلكه. مثل هذا المرء كيف له أن يهاب الموت؟

تقول شاعرتنا محذّرة قارئها من بداية المشوار معها:

"حلّ من اثنين: إما أن تهرب. وإما أن تدجّن موتك.
لا يُقرأ هذا الكتاب الاّ بالتدجين".

هل يمكن أن يصدر مثل هذا القول عن انسان ضعيف؟ وهل يمكن أن يمارس التدجين - لأي شيء كان - الاّ الاقوياء الذين يحملون ملء جوانحهم أعراس الحياة؟ وحدهم الضعفاء، وكارهو الحياة، والمتبرمون من واقعهم، والغارقون في فراغ المصير، وحدهم يخافون مجابهة الموت، لأنهم يفتقدون أمومة الحياة.
أرى أن شاعرتنا، إذ تدعونا الى تدجين موتنا، إنما تدعونا الى حب الحياة. ولكن بصورة مواربة، على مذهب الشعراء عادة، الذين يأنفون سلوك الدروب المستقيمة. إقرأ كيف تتهيّأ لاستقبال الموت:
"شلواً شلواً أخلع ثيابي وأشيائي. بالحذاء أبدأ وأولاً بالقدمين. أرفع اليمنى لأثبتها على فخذك اليسرى... بحبّات الكرز العشر ألوّح وجهك وصدرك والجبين يا موت. بالكرز نفسه أمرّغ شفتيك الرطبتين. الى تحت أيتها الاصابع. الى تحت أيها الفاحش الموت. الى تحت أيها الأزعر الشبق الموت... وبعد أيها الموت. أُلصق بشفتيك شفتيّ وأمتّعك كاملاً أيها الشقيّ الموت. ثم تشدّني من شعري وتُجلسني على جسدك وتأخذ. (بالقوة. دائماً بالقوة. ليس أمتع من العنوة يا موت)"(ص14).
أو قولها: "جنسٌ هو الموت، نعم، يلهث الشريان المشدود عند ملتقى الفخذين، نابضاً كلما فكّرت في الموت، مثلما ينبض كلما في الجنس فكّرت"(ص15).
بهذه الحفاوة الجريئة تستقبل شاعرتنا الموت - الجنس أو الجنس - الموت. وهل الجنس سوى الحياة؟ وهل الحياة والموت معاً سوى الجنس في ذروة لذّته، أي في موته لانبعاث الحياة؟ إن ذكور النحل تلاحق الملكة حتى أعلى الفضاء. والذكر الذي يتمكّن من لقاحها يسقط جثّة هامدة.
ولعل الكلمة الفصل هي عند هايدغر حيث قال: "إن الحد النهائي المطلق لمستقبلي، من شأنه أن يكشف لي عن البناء الحقيقي للامكانات الواقعية التي أجدها في قرارة نفسي. ففي ضوء الموت، لا بد من أن أجد نفسي ملزماً مواجهة ذاتي في محيط واسع ينكشف فيه أمامي كل شيء. ومعنى هذا أنني لا أرى نفسي ككل، الاّ حينما يكون الموت أمامي وجهاً لوجه. وليس من شأن فكرة الموت أن تزيد من حدّة شعوري بفرديتي فحسب، وإنما من شأنها ايضاً أن تكشف لي عن صميم وجودي في كليته المحدودة" (مقتطف من: "تأملات وجودية"، لزكريا ابرهيم).
والآن، لنحاول أن ندخل مع الشاعرة "مراياها" التي استطلعتها، كأنها نسخ من المرآة السحرية المحدّبة التي كانت في حوزة فيثاغورس، أو من مرايا الهرمسيين التي كان يتراءى لهم فيها الماضي والحاضر والمستقبل. تقول شاعرة "المرايا":

"حتى اللبّ أدخلها، المرايا.

هناك في رحمها التي منها خرجت، أتعلّم لعبة موتي" (ص26).

إنه مثال لغنى "المرايا" بأبعاد التركيب التعبيري. فما هي هذه المرآة التي تعلّمنا لعبة الموت؟ في كتاب "التحليل النفسي للشيطان" لروزيت دوبال جاء: "إن المرآة تلعب دوراً كبيراً لدى كل الذين يتنبّأون بالمستقبل، لأن في إمكانها أن تكشف الاشياء المخفية. وفي حكاية "بلانش - ناج" كانت زوجة أبيها الشرسة، ترصد في مرآتها السحرية قناعاً مرعباً ذا عينين فارغتين، قاسيتين، باردتين، بلا حياة، جامدتين ومتحرّكتين، تماماً كروح الملكة، قرينتها الشيطانية". ومن الترهات الشعبية في القديم، أن المرآة هي باب مفتوح على العالم اللامرئي، ولاسيما عالم الموتى. وفي فترة الحداد، كان الناس في بعض المناطق يحجبون المرايا في المنزل، لئلا روح الميت التي لا تزال تحوم حول الجثة، تجتذب كالمغنطيس، عبر المرآة، أرواحاً أخرى من المقابر أو من المطهر حيث تتعذّب، وتتعلّق بالاحياء.

إن العلاقة هي وثيقة اذاً، بين المرآة والموت. والمرآة في حد ذاتها، مليئة بالرموز. ولكل شعب رموزه. وشاعرتنا، بما لها من خلفية ثقافية وجمالية، قد أفادت من هذا الرصيد، فكان لنا هذا "الهيكل البلوري" الذي، من حيث جئته، يفاجئك بانعكاساته.

تقول المرآة لشاعرتنا: "الى موتك الناضج أستدرجك". هنا المرآة تتكلم بلسانها الشيطاني، من وراء بابها المفتوح على الموت. لكن ثالث أعمدة الهيكل، وهو الانتحار، ليس في الواقع، سوى الفرار أمام الموت، في رأي هايدغر. فأي انتحار يسود هذه "المرايا"؟ إنه الانتحار "المعلّق". المنتحرة في "المرايا" حرّة في أن "تعلّق" انتحارها. لأنها "لا تعرف أن تموت". إنها "وراء مرآتها تنام". فلا يصح أن نعيبها بالهرب. وها هي شاعرتنا تخاطب إحدى المنتحرات غرقاً:

"أي قصائد ستكتبين في القاع؟ انزلي، انزلي، حتى لا يعود لقاعٍ وجود. دوري على نفسك لتبين نجوم. الصّدَفة ستفترّ. والعالم داخل الصدَفة؛ العالم عارياً: حفرة بلا غطاء، غبار رطب بلا مخالب"(ص45).
في زعم القاصّ الالماني لودفيغ تيك أن "النوم يضاعف عالم الظواهر، بعالم معكوس وأجمل". وهذا ما فعلته شاعرة "المرايا". فمن عناصر سويدائية كالموت والمرآة "معلمة الموت"، والانتحار، شيّدت لنا قصراً جميلاً تحلو الاستراحة بين مراياه المتعاكسة وتُمتع.

جمانة حداد، امرأة شاعرة "تكتب بالمرأة". لا عن المرأة. ولا للمرأة. أكرّر "تكتب بالمرأة"، نابضة أمامك بلحمها ودمها، وبكل ما وهبها الخالق من أحاسيس. والذي يكتب بدمه، هو الأحبّ، يقول لنا زرادشت نيتشه.