(أعمال الفرنكوفوني الطاهر بن جلون الشعرية كاملة)

أنطوان جوكي
(لبنان/ باريس)

الطاهر بن جلونمن الصعب اليوم العثور على مثقف في العالم الغربي أو الشرقي لم يسمع بالكاتب المغربي طاهر بن جلون، خاصة وأن جميع رواياته تم نقلها إلى لغاتٍ عديدة، بعد نيله على بعضها أرفع الجوائز الأدبية. لكن هذه الشهرة الواسعة تنحصر بإنتاجه الروائي وتحجبُ غالباً مساره الشعري الغني بالمحطات والثمار. وقد اضطلعت دار "غاليمار" الباريسية حديثاً بمهمة جمع كل دواوينه الشعرية في مجلّدٍ واحد، الأمر الذي يُشكّل فرصة للتعرّف على مختلف المراحل التي عبرها بشعره، منذ بداياته عام 1966 في السجن، وحتى اليوم.
وقد يظن البعض أن بن جلون هو روائي بالدرجة الأولى يكتب الشعر من حينٍ إلى آخر، وذلك بسبب شهرة رواياته وعددها الكبير. بينما الحقيقة هي غير ذلك. فالشعر هو الذي استدرجه أصلاً إلى الكتابة. وفي ساعات الوحدة والكآبة، يتوجّه تلقائياً إلى قراءة شعراء مثل سان جون برس، شار، أراغون، بورخس، بونفوا وبونج. في أحد حواراته، يقول: "الرواية هي وسيلة هروب وانزلاق وتسلية. الشعر يساعدني على العيش، على البقاء". وفي مقدّمة هذا المجلد، يقول أيضاً: "إلى الشعر علينا أن نعود دائماً لإسكات الضجيج الذي يحدثه الوهم واليأس، للمكوث في الجوهري بلا جلبة، للبقاء بجوار الطفولة وما فيها من إثارة وصواب، لمحاورة الأم، وإن كانت أمي لا تجيد القراءة ولا الكتابة، لأصغي إليها وأكتب". وبالفعل، يشكّل الشعر داخل أعمال بن جلون الأدبية الرفيق الوفي والمتطلّب. فمن خلاله يتفاعل مع سحر العالم ويقاوم عدوانيته، وبواسطته يملأ الساعات الضائعة، أو المسروقة، فيكتب في التاكسي، في القطار، في الطائرة وفي قاعات الانتظار داخل المحطات. إنه نوعٌ من الموعد الثابت مع الذات، على الرغم من صخب السفر، كما يشهد عليه مضمون قصائده وغزارتها التي تغطي بشكلٍ كثيف فترة أربعين عاماً من حياته، "منذ الأوهام الغنائية في مرحلة الشباب وحتى تلك النظرات التي نلقيها يوماً على الزمن الذي مرّ بسرعة". موعدٌ يبتكره بن جلون ويحييه باستمرار وفقاً للقاءاته أو لفورات غضبه أو لتأمّلاته.
قصائده الأولى نشرها في مجلة Souffles المغربية عام 1968، ثم قام بجمعها عام 1970 داخل ديوانٍ يحمل عنوان "رجالٌ تحت كفنٍ من صمت" (دار "ألانتا"، الدار البيضاء). وتحمل هذه النصوص العنيفة آثاراً ثورته الباكرة على ظروف حياته وحاجته الملحّة إلى فضح أماكن الظلم والاستبداد والكذب في محيطه. وحول هذه الحقبة، يقول: "كنتُ ساذجاً، من هذه السذاجة الحارقة. (...) لم أبدأ الكتابة بقصائد حب بل بنصوصٍ هي كناية عن صراخٍ يشبه ذلك الذي كنا نحزره أو نسمعه خلال الليل عند حدود بعض الفيلات حيث كانت شرطةٌ أخرى تجري عمليات الاستنطاق". وبالفعل، كتب بن جلون قصائده الأولى خلال فترة العام ونصف التي أمضاها في معسكر تأديبي بسبب مشاركته في اعتصام الطلاب الشهير في آذار 1965. ثم استمر في الكتابة الشعرية حتى وصوله إلى باريس عام 1972 حيث اضطلعت دار "ماسبيرو" بإصدار ديوانه الثاني "نُدَب الشمس" في العام ذاته، ثم ديوانَي "خطاب الجمل" (1974) و"شجر اللوز مات متأثّراً بجروحه" (1976).
خيار باريس يبرره ولع بن جلون باللغة الفرنسية منذ صغره وإتقانه إياها بشكلٍ تمكّن فيه بسرعة من تطويعها ومدّها بصورٍ وأنوارٍ وموسيقى حياة لم تعهدها من قبل. وفي هذا السياق، يلاحظ قارئ قصائده قدرات الشاعر منذ البداية على تجديد هيبة الإغرابية (exotisme) وخيباتها معاً، كما يلاحظ شهادة هذه القصائد لصالح الخلط وتهجين الثقافات. وبعد فترة تنقّل بين باريس، مكان الكتابة، وطنجة، مصدر أحلامه، عرفت رواياته خلالها نجاحاً ساطعاً، تحوّل بن جلون إلى متجولٍ في عواصم العالم يسعى وراء أشباحه الخاصة. ومع أن برنامجه الشعري كان وبقي مبنياً على "الموسيقى قبل أي شيء" ـ موسيقى الكلمات، ولكن أيضاً موسيقى الصور المتخفّية خلف الكلمات ـ إلا أنه لن يلبث أن يوظّف مهاراته الشعرية لاصطياد "آفاقٍ جديدة" تبدو الحياة فيها كحلمٍ ويتحوّل الشعر فيها إلى لعبة أحاج وألغاز.
في صباه، ترك بن جلون لجَمَله مهمة فضح "أولئك الذين يصرعون الأطفال النائمين على الغيوم". بعد ذلك، اضطلع بنفسه بهذه المهمة، وبصيغة المتكلّم، مستحضراً صور الحروب والدمار والحداد التي تحاصر وتمحو الأحلام الوضيعة بالسعادة. كما لو أن العنف هو طبيعة الوجود، كما لو أن الكلمة الأخيرة هي دائماً له، على حساب الرقة وجمال الأشياء. ففي دواوينه اللاحقة، يحصي الشاعر الأحلام الضائعة والمهشّمة في بلده وفي البلدان العربية الأخرى، وعلى رأسها فلسطين، لدرجة يبدو فيها أحياناً وكأنه يحمل على كتفَيه جميع مصائب العالم. لكن المعجزة، وفقاً لمقدّم هذه الأعمال فرنسوا بوت، هي في محافظة بن جلون دائماً على طريقة تنقّل بهلوانية، أي شعرية بالدرجة الأولى. ففي الجزء الأخير من المجلد، يتذوّق القارئ نفساً شعرياً آخر يحرّكه حسٌّ هزلي رفيع يضع الحروف والكلمات في عطلة مثيرة وطريفة تتجلى من خلالها أهمية اللغة المطلقة في حياتنا، مثل النص الذي يروي الشاعر فيه مغامرات حرف "الدال" الذي استيقظ يوماً ليجد نفسه وحيداً في القاموس الكبير، أو ذلك الذي يروي فيه قصة "القدر" الذي أخذ إجازة مرضية وترك الناس يتدبّرون شؤونهم لوحدهم. ويختتم المجلدَ نصوصٌ هي كناية عن نزهات في إيطاليا وعلى ضفتي نهر السين على شكل بطاقاتٍ بريدية مُرسَلة من صقلية وتوسكانا ونابولي وميلان وروما وباريس كأصداءٍ لقصص حبٍّ ضائعة ومستعادة.
ومن قصائد بن جلون مجموعةً تتجلى نظرته إلى الشعر كملاذٍ وحيدٍ أمام غرابة العالم وكمادة هذه الغرابة في الوقت ذاته، ولكن أيضاً كتلك الحالة من الدقة التي تشكّل ميزاناً لما هو غير مرئي، أي كنوع من الرياضيات أو من فيزياء العواطف والأحاسيس التي تقع فيه كلمات الشاعر في مكانها مهما كانت مشحونة بالألم. وعلى الرغم من اعتبار الشعر مستحيلاً أو متعذراً بلوغه نظراً إلى طبيعته التي لا تعرف المهادنة، إلا أن بن جلون تمكّن في الجزء الأكبر من قصائده من الاقتراب ـ بصمت ومهارة ـ من سرّه العميق والمشعّ.

المستقبل
الخميس 26 نيسان 2007