محمد مظلوم
(العراق/سوريا)

سهام جب.. منذ نازك الملائكة التي أضحت «أيقونة» في مشهد الشعر العراقي، وفي ريادة الشعر العربي عموماً.
لم يُقلق مسيرة الجوقة الذكورية ونظامها المنضبط في الشعر العراقي صوتٌ نسويٌّ ذو قريحة صارخة تُجفل المسيرة بانعطافة ما أو تسمُها بسمة خاصة، وإنما غدا الصوت النسوي، وفي كل جيل شعري عراقي تقريباً، نوعاً من الباروكة التزيينية المضافة، وليس نفوراً طبيعياً داخل «المرحلة». ‏
وفي عقد الثمانينيات كما هو حال عقد السبعينيات كانت «المرأة» جزءاً من «الملحقات» داخل كل مجموعة، كأنها حسناء القبيلة لتزيين العدد وتطرية المشهد، لا لإغناء التجربة والمساهمة في تغذية تحولاتها، ولتركن بعد رحلة قصيرة إلى مكانها التاريخي في كونها «ملهمة» شعر لا «شاعرة». ‏
ومن بين عدد وافر من الشاعرات أو «الشواعر» المفترضات بمؤنثهنَّ السالم، وجمعهن المتكسِّر، من اللواتي ظهرنَ خلال عقد الثمانينيات الشعري الذي نال في مصطلح الأجيال العراقية أكثر من تسمية عقدية «ثمانينية» أو ظرفية:«جيل الحرب» قبل أن ينقسم إلى منفى وحصار، تمثلُ سهام جبار تجربة نادرة، تنطوي على تعقيد خاص، تعقيد يعيد السؤال حول «هويتها» النمطية المعيارية ليخرجها منها، ويجعلها تحتفظ به كصفة لا كمعيار في الوقت نفسه، لكنه سؤال يضعها في الخلاصة في عصب التجربة الحقيقية لهذا الجيل ولتاريخ الشعر العراقي خلال القرن الماضي، كأحد الروافد الأصيلة لـ «الجيل البدوي» وعلامة فارقة في «مرحلة» عقد الثمانينيات. ‏
وحين تقدم سهام جبار مجموعتها الشعرية الوحيدة بعنوان ذي دلالة (الشاعرة). فإن التأنيث هنا ينطوي على مفارقة حقيقية، فهي تقدم نفسها من خلال الشعر، دون خاصية «الفحولة» الموروثة، ولا ميزة الأنوثة الأثيرة لدى النساء. الشاعرة هنا ليست الجارية ولا «سيدة» الحريم، بل «الشاعرة» بلا نعت إضافيٍّ سوى انتسابها إلى قسوة الشعر وجحيميته وخساراته. فالشعر لعنة قادمة من خرافة، وهو ليس حتى خياراً مكتسباً، لعنة تستعدُّ الشاعرة أن تتحوَّلَ في مواجهتها إلى قربان، ودون أدنى تردُّد: ‏

عجلوا بالرجم أنا الشاعرة ‏

وخلال ربع قرن عبر ثلاثة عقود متداخلة، عاشت سهام منفى داخلياً بامتياز، فهي لم تذهب مع موجات المنفى بأطواره المختلفة، من «سبايا» المهجرات بفعل القمع، أو «موكب» الملتحقات بالتباسه بعد تداعي السلطة، أو «ركب» الهاربات بعد المشهد الأخير للدكتاتور أو قبله بقليل حين انفضَّ عنهُ كلُّ ما حولهُ بمن فيهنَّ «ماجداتُهُ» و«شاعراتُهُ» وحتى بناته! ولكنها بقيت في ثباتها كعزلة على جبل, وليس في كهف، ترى المشهد وتصرخ: ‏

ربَّما أتتابعُ كأني سيَّارات بأمكنتها ‏
كأنني الأمسُ يجيءُ كلَّ يومٍ. ‏
زرعوا بعينيَّ منظاراً وغصُّوا ‏
عدتُ بدمي مُعلقاً بشريطٍ لاصقٍ على فمي، ‏
ذبحتُ النائمين وصرتُ وحدي ‏
صارَ «وحدي» يراقبني ‏
كلما التقيتُ ذبيحاً أسلمهُ نجاتَهُ ‏

أكتبُ أيَّتها الطريقُ المغلقة؟ ‏
لا شيءَ يتغيَّرُ، يتغيَّرُ شيءٌ لا ‏
بغدادُ مُدوَّرةٌ وأنا مُدوَّرة. ‏

تتجذَّر تجربة سهام جبار عميقاً في ترابية الشعرية العراقية، الشعرية التي أنجبت في حداثتها الأولى نازك الملائكة، غير أن جميع من جئن بعد «عاشقة الليل» من الأجيال اللاحقة لم يصلن إلى جبل عزلتها «الشاهق في الظلام» وظللنَ يتخبَّطنَ في طرق أخرى، لكن سهام ستجد الطريق إلى عزلة نازك، فالنزعة التشاؤمية واحدة من السمات المشتركة بين «عاشقة الليل» و«الشاعرة» وكذلك القلق الوجودي، مع فارقٍ جذري يتمثل في كون سهام تبدو في مسيرتها أكثر جرأة وتجرؤاً، تجربة ونصاً. ذلك إنَّ نازك بقيت محافظة في نصَّها إن لم نقل ارتدادية، وذات تجربة حياتية غامضة تميزت بالعزلة كخيار وجودي، وليس مجرد اعتزالٍ طارئ أو متقصَّد. ‏
وحين تقترب سهام من حسِّ التشاؤم لدى نازك، فإنهُ لا يعني هنا التقرُّب التوسلي، وإنما اقتراب تفاعلي إنساني طبيعي، ذلك أن تشاؤم سهام هنا، معطى ومبني في الوقت نفسه، فهو قادم من إحساس أزليٍّ بالقهر والفناء والزوال، في مقابل بنيان متفاعل ومتتابع لإرث لا يُضاهى في تعزيز ذلك الإحساس، قادم من جحيمية الوقائع التي مر بها العراق من حروب وحصارات وكوارث متعددة الأنساق والتجليات: ‏

الحربُ تلدُ ‏
والأمهاتُ يُربينَ ‏
أو: ‏
لا آخذُ بيتي إلى البلادِ ‏
الهواءُ يحملهُ عني ‏
بينما البلادُ على أقدامِها تسيرُ ‏
في كلِّ أرض. ص 20 ‏

وإذا كانت الأهمية الاستثنائية الأساسية لنازك تمثلت في كونها جمعت بين وعي الريادة وممارستها، في المجالين الكتابيين: النصي والنقدي، فإنَّ سهام جابر، أكثر الشاعرات اللواتي جئنَ بعدَ نازك استشعاراً لهذه الأهميِّة حين جمعت بين البحث الأكاديمي الأدبي وممارسة النص، رسالتها عن «الزمن في الشعر العربي المعاصر» وعملها كأستاذة الأدب الحديث في كلية الآداب بجامعة بغداد. ‏
تلخص تجربة سهام جبار تفوُّقاً مُزدوجاً فهو تفوُّق على أصل جنسها عبر رفض آلياتها التقليدية في الحضور الجنساني داخل الأدب أولاً، وهي متفوقة تالياً داخل جنسها في كونها تمثلت تجربة الأنثى وجودياً كيانياً وتعبيرياً، وإحساساً بالمغايرة الكيانية لا بالتغاير الجنساني. ‏
من هنا سنجد أن شعر سهام، شعرٌ مُركَّب، ذو صياغات معقدة، ليست انسيابية مرنة كما اعتدنا قراءته في شعر «النساء».. لكن وبعيداً عن الأنوثة الأدبية أو الخطابية، أليست المرأة ككيان شعوري وبيولوجي أكثر تعقيداً وتركيباً من تلك التعبيرات المنسابة؟ ‏
وفي الخلاصة من يُعرِّفُ الآخر؟ الشعر تعريف للجنس أم العكس؟ وقبل ذلك هل الشعر نفسه اسم للجنس أم للنوع؟ ‏
في الثقافة العربية يبدو الشعر نشاطاً ذكورياً قائماً على معيارية الفحولة كطغيان لنسق ذكوري مهيمن في تلك الثقافة، لكنه بدا في وقت لاحق مائلاً نحو راديكالية مضادَّة، وذلك عندما بدأت الأنوثة تثأر من ذلك الإرث الاستبدادي وتستفيدُ من نسقها الموروث في تاريخ الأضحية لخلق مساحة خاصة لها داخل الأدب، مساحة تماثلُ «الغيتو» تختزل به حريةً مفترضة، لذلك فإنَّ «الأدب النسوي» بهذا المعنى هو صناعة أنثوية تمايزية تغايرية، وليس تمييزاً ذكورياً يشبه «العزل الأدبي» رداً على طغيان ذكوري اجتماعي فتّاك، كما يجري الترويج له. ‏
سهام جبار بهذا المعنى أوضح نموذج للتعبير عن «الجيل البدوي» الجيل الهائم خارج الأصول المنمطة، الذي يخرج من تعريف (العَقد العُشري) والجماعة القبلية والحزبية، وكذلك «النمطية الجنسية» من بين كل قريناتها وبهذا المعنى فهي شاعرة النوع المتفوق، لا شاعرة الجنس المسبق: ‏

الشاعرة تنأى مبتلة ‏
تعود بالعلم الطفولي ‏
إلى أناشيد هناك ‏
كانت تسبقني إلى الهزيمة بعقدين من السنوات ‏
عشرين عاماً بين الوطن وردَّاته ‏
أخذني بمركبته إلى فضاء الأشباح ‏
وأنا أغني نشيدي. ‏

إنه شعور الاختلاف لا الاختلال بمعنى أن الاختلاف الجنساني طبيعة وليس معياراً أو ترجيحاً نوعياً، فنحن نتحدَّث عن الجنس بوصفه صفة وليس امتيازاً ولا نكوصاً في النموذج إنه اختلاف عضوي وليس ثقافياً، أما الاختلاف " الثقافي" فهو مؤسس بالتجربة، وليس موروثاً بالطبيعة. ‏
وإذا كان أصل العلاقة بين الشاعر وقصيدته في ثقافة الإلهام العربي يقوم على حالة الإغواء والتجاذب الخفيِّ بين الشاعر والشيطان، فإنَّ الأمرَ هنا سيبدو وكأنهُ يتعلَّقُ عن ولادة القصيدة من حالة سفاح ذكوري! بل إن الشاعر العربي القديم كان يبالغ في تبيان «ذكورة» شيطانه لينال من خصمه، بأن ينسبَ لنفسه الذكورة الشيطانية المضاعفة ليؤكد فحولته الشعرية. يقول أبو النجم العجلي: ‏

إني وكل شاعر من البشر ‏
شيطانه أنثى وشيطاني بشر. ‏

والعجلي هو أشهر «راجز» في التراث العربي، وقد يكون لذلك دلالة إذ تفرق كتب النقد الأدبي القديمة بين «الشاعر الفحل» و«الراجز» الذي تجعله أقلَّ رتبة. ‏
ويمضي «راجز» آخر إلى التفاخر المزدوج بالفحولة والكبر معاً: ‏

إني وإنْ كنتُ صغيرَ السنِّ فإنَّ شيطاني كبيرُ الجن. ‏

وبعيداً عن «التراجز» الذكوري خلال «فترات» الحروب، و«التغنُّج» الأنثوي على امتداد «الحقبة» مضت سهام في طريق «جحيم الخلود» فكان منفاها مركباً، رغم أنها لم تعش المنفى بمعناه الكلاسيكي / الجغرافي، أما الأخريات مضيفات السعادة فقد خلدنَ إلى فردوس الوليمة ومداعبة المدعوين إلى حفلة كاذبة. ‏
انسحبت هي من مسرح الدمى، وتركت خيوط اللعبة لقدر الشعر نفسه، وليس لسواه: ‏

دو بوفوار ونسوة كثيرات ‏
عبرن على خيوطهنَّ ‏
خارج مسرح الدمى. ‏

وبينما كان الشعر لدى النساء الآخريات محفلاً اجتماعياً للوجاهة، فهو لدى «الشاعرة» حقل حياة، تدرسه وتدرسه وتكتبه، لا تتكسَّب به ولا تتقرَّب به لسلطان ولا تتزين به أو تتزيا في محفل متنكِّر، وإنما تعيش به وله وعليه وفيه. ‏
لذلك نجد صعوبة في نصِّها صعوبة لا تناسب الأنوثة الجنسانية، لكأنها متمرِّدة حتى على جنسها، سهام التي كانت تجري بخفة في كلية الآداب خلال الثمانينيات، لم تبدُ بالخفة ذاتها في ملكوت الشعر، ولا تغنجت قصائدها، وإنما تتدفَّق كصيحة ممتدَّة: ‏

كل نوال زوجة ويرثها مختون. ‏

وأنا غائرة في الشبك أتلفَّت، ستتهمني،وأبي والصمون يتسرمدان، وصعدنا إلى الفرن، خلقت النارُ أبالستي وصنعَ أبي النورَ.. فرِّقوا النورَ يا موزعي الشرف، لا الطمُ ولا أخبئ إلا ضحكتي حين يحجب السواد عاشوراءهُ، وتحمرُّ الجلود، أدلقُ العذريات في الميزان، ترنُّ معادنُ الصلاة والورق تبقع. ‏
كلُّ شيء بالاتفاق والحدائق.. سوف تليق. ‏
كلُّ يوسف صيرفي تقيس نظاراته الخيال رأيت عينيه تطفران الموانع، ففقأت بقلمي هذا فخرهما وعدت إلى الخسارة برضا. المكان وحده يبدِّلُ الجلد، يقيسه الواقعيون، والأخبار تعلمنا الحقيقة. ‏
«الشاعرة» عنوان لافت لمجموعة وحيدة صدرت حتى الآن لسهام جبار من بين عدد من المخطوطات، هي نوع من الاستحقاق المتأخر لشاعرة لم تزاحم أحداً في الحفلة. ولم تنضم إلى حشد «الحريم» الثقافي أو «جواري القصر» ومضيفات المهرجانات، داخل العراق وخارجه، وبينما لا تكفي النعوت الإضافية لتوصيف امرأة تقرض شعراً أعزل في بلد كل ما فيه مسلح بالغرائز المختلفة، تقدم سهام خلاصة، لا إجابة، لسؤال يتعلق بكيفية ولادة «الشاعرة» في زمن الجواري والمحظيات، وتنجو من صالونات السجاجيد الحمراء. ‏
وحقاً، ففي الزمن الذي كتب فيه على «الرجال ركوب الخيول وعلى الغانيات جرُّ الذيول» كان ثمة طريقان: سجاجيد حمراء، أو نعوش تمضي إلى مصيرها... فأيَّ طريق سلكته الشاعرة: ‏

الشاعرة أتت.. ‏
هلْ يكفي ما حلَّ ليتخلفَ هُنا عن هُناك ‏
والسياسة عن إدارة الكعبة ‏
كيفَ يمنعُ الناسُ أنفسهم عن النَّهر؟ ‏
إن دجلةَ في مكانهِ يراودُ كلَّ واحدة على طريقتها.‏

****