شاعر يكتب وروائي يحكي وعين تلتقط ما يثير الدهشة

رشاد أبوشاور
فلسطين

إبراهيم نصر الله في السيرة الطائرة ليس (أقل من عدو، أكثر من صديق) لإبراهيم نصر الله كتاب سيرة حياة شاملة، فهو ما زال في منتصف الرحلة، فعمره قريب من الخمسين، ومسيرته الإبداعية تنفتح علي عطاءات ما زال يَعِد بها، ويعدّ لها، ويخطط لإنجازها شعرا ورواية، ولذا فهو لا يكتب تجربته في خواتيمها، بعد أن أعطي كل ما لديه.
هو شاعر، هكذا عرفه الجمهور، بما قرأه له منشورا في مجموعات شعرية، أو في الصحف والمجلات، وما سمعه منه في الأماسي، أو ما غنته وأنشدته له فرقة (بلدنا) التي طار صيتها في سنوات الانتفاضة الأولي، والتي ما زال الناس في الأردن، وخارجه، يتذكرونها، ويستعيدون أغانيها وأناشيدها الحماسية المحفزة، الباعثة علي الأمل بانتصار فلسطين.

لم يكتف إبراهيم نصر الله بالشعر، ولذا انتقل لكتابة الرواية، وحتي الآن صدرت له عدة روايات لفتت اهتمام النقاد والدارسين، وجذبت قراءً كثيرين مع ازدياد الاهتمام بالرواية عربيا.

يمكن اعتبار إبراهيم نصر الله شاعرا وروائياً، ولكنه مع ذلك فنان تشكيلي هاو، شارك في معرض طريف أثار اهتمام الجمهور الأردني، جمعه مع كاتبين آخرين،هما: فاروق وادي، وجمال ناجي.

وهو إلي ذلك مصور فوتوغرافي بارع، وقد أقام (للقطاته) الجميلة الطريفة معرضا خاصا في (دارة الفنون)، التي عمل مديرا لها لعدة سنوات قبل استقالته ليتفرغ للإبداع.
ككثير من الكتاب والشعراء العرب، عمل إبراهيم نصر الله في الصحافة ـ صحيفة (الشعب) الأردنية التي أسسها الصحافي الكبير إبراهيم سكجها ـ والتي أوقف عن العمل فيها بعد نشره لقصيدة لم يرض الرقيب عنها، ومنذ تلك الواقعة بدأت متاعب إبراهيم مع (الرقابة)، فحرم من السفر، والعمل، وضيق عليه، ولكنه صمد حتي تمكن من زيارة وطنه فلسطين بتصريح !.
يا للعجب يحرم من الذهاب إلي العالم، من تلبية دعوات توجه له من مؤتمرات، ومشاركات في مهرجانات، وملتقيات أدبية، و..يسمح له (العدو) الصهيوني بزيارة وطنه!
هذه المفارقة المفجعة تفيض مرارة في صفحات السيرة الطائرة.

إبراهيم نصر الله لا يكتب مذكراته التي يضع فيها تجاربه، واستخلاصاته من رحلة حياته، فماذا يكتب إذا؟!
إنه يكتب سيرةً طائرة !
يكتب عن رحلاته بالطائرة إلي بلاد الله الواسعة بعد أن كفت الجهات الأمنية التي حرمته لسنوات من السفر، عن حرمانه وملاحقته، وإقفال أبواب العمل في وجهه، وهو ما يشير إليه بمرارة : المكان الوحيد الذي أستطيع زيارته هو وطني، وطني المحاط بالأسلاك الشائكة، والبوابات الإلكترونية، وخامس أقوي جيش في العالم...

كل نقاط الحدود البرية والجوية والبحرية تحتفظ باسمي، وتترصد حامله لكي تعيده من حيث جاء، إلي بيته الذي تحول إلي سجن مفتوح، باستثناء نقطة الحدود تلك، الواقعة في النقطة الأكثر انخفاضا علي وجه البسيطة (ص158).

النقطة الأكثر انخفاضا في العالم التي يشير إليها إبراهيم هي منطقة البحر الميت، حيث تقع مدينة (أريحا)، وحيث نهر الأردن وعليه الجسر الذي يصل فلسطين بالأردن،والذي يحتله العدو الصهيوني منذ حزيران (يونيو) 67، والذي جعله حدا فاصلا، ونقطة عبور حدودية!
هذا ما يرد إلي خاطره وهو يقرأ شعره للجمهور الكولومبي في واحدة من أعلي نقاط العالم، علي ارتفاع 1990 مترا.

لم ينكسر الشاعر المتشبث بحقه في كتابة الشعر، والعمل، والسفر، وقول ما يخطر بباله، والغناء والإنشاد، وحب وطنه بكامل شعره وكتابته، والتعاطف مع ملايين أبناء وبنات أمته الشقية التي تمزقها الحدود المفتعلة، ويطحنها القمع والفقر والجهل والتخلف.
في هذا الكتاب الطريف، الحميم، الغزير الشاعرية، ثمة شاعر يكتب،وروائي يروي، وعين تلتقط ما هو مثير للدهشة، وأذن تستقبل ما ترسله النفوس البشرية بلغات مختلفة، شرقا وغربا، شمالاً وجنوبا.
في الكتاب حب للمدن، وصداقة حميمة مع بعضها، برلين مثلاً، التي يقول فيها إبراهيم ما يشبه وجد الصوفي.

في الكتاب ود عميق وإعجاب بالشعب الإيطالي الصديق، بالفتيان والفتيات الذين وجف قلبه خشية من مواجهتهم، بأشكالهم المثيرة، بشعرهم، بالحلق في آذانهم، بملابسهم الغريبة الصرعات، ولكنه بالكلمة الخارجة من القلب يكسبهم لفلسطين، وتنشأ بينه وبينهم علاقة حميمية، ويفرح بأن الاختلاف الحضاري، واللغوي، ليس عائقا، فثمة ما يصل بين القلوب والعقول والنفوس.
الإنسان هو الإنسان، والمهم كيف تصل إلي قلبه وعقله بالصدق، بنبض الشعر.
نحن العرب ندعي أننا أمة الشعر، وأن جمهور الشعر عندنا بخير، مدغدغين أنفسنا بترداد أن الشعر ديوان العرب. إبراهيم ينقلنا إلي (كولومبيا)، إلي المدينة التي ارتبطت في الإعلام بالكوكايين وتجارة المخدرات : مدنين..فإذا بالشعر يتألق هناك عند القمم الشاهقة، مع إصغاء الفلاحين الزاحفين لسماع الشعر كأنهم في يوم عيد، الشعر الذي يستمتعون بسماعه مترجما من لغات العالم إلي الإسبانية، لغتهم...
جواب المدن، المفتون بالترحال،يكتب عن برلين :

هذه المدينة التي تسكن الذاكرة بقوة كما لا تسكنها أي مدينة أخري. (ص17).

هو في برلين في فصل الخريف، تصيبه حمي الكتابة، فيتدفق بشعر يشكل مجموعة جديدة: في برلين بدا لي فجأةً أن كلي خريف،وإلا من أين تنبع هذه القصائد التي ستشكل ديوانا كاملاً في النهاية، الديوان الذي سأواصل كتابته بعد عودتي، وأختتمه بهذه القصيدة :

لا ترد السلام علي أحد لا يحب الخريف
ولا ينحني لنحول الشجر
لا ترد السلام علي أحد لا يحب الخريف
الخريف بشر
(ص22)

وإبراهيم الفلسطيني المفتون ببرلين، يقرأ شعره في قاعة تحمل اسما غريبا (قاعة الصمت)، لا تغيب عن باله معاناة وطنه وشعبه، ففي برلين أسقط الشعب الألماني الجدار ـ جدار برلين ـ وهناك يشق قلب فلسطين جدار ينشئه الصهاينة المحتلون: حين وصلت (قاعة الصمت) صحبة ميخائيل ماركس المدرس في جامعة برلين الحرة، الذي قرأ قصائدي بالألمانية في واحدة من أمسيات فرانكفورت ـ يقصد معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، وكانت مناسبة زيارة الشاعر أن الثقافة العربية كانت ضيف المعرض ـ اكتشفت أنني طوال اليومين الأخيرين لم أصمت، وبعد دقائق من الصمت وجدت نفسي لم أزل أثرثر بقوة، فخلفي هناك يواصل (الإسرائيليون) بناء جدار سيبلغ طوله سبعمئة كيلو متر، ممزقا الأرض والسماء وحياة البشر.. (ص23).

لإسبانيا حنين عربي عتيق ومقيم وجارح، وجاذب، ولذا لا بد للشاعر من الرحيل إلي تلك البلاد التي ما أن يذكر اسمها حتي تلمع العينان بالشوق، وينبض القلب، وينثال في الذاكرة شعر، وموسيقي، ورقصات حرير، وقصور باذخة و..ما يوجع القلب علي من مضوا مع زمنهم، زمان الوصل بالأندلسي!
يضيع الشاعر في مدريد، هو الساري مع الصباح الباكر، فاتحا عينيه وعدسة كاميرته لالتقاط كل طريف من المشاهد الكثيرة، وهو يردد :

كلما اقتفيت خطاك
في المدن التي تدخلها للمرة الأولي
عثرت علي شيء فيك
لم تكن اهتديت إليه في المدن التي وراءك

يضيع في مدريد، كما ضاع من قبل في مدينة ما، ويصعد إلي سيارة تاكسي، سائقها يندهش من طلب (الزبون)، ليقف السائق علي بعد دقيقتين أمام الفندق المقصود...
يقول إبراهيم لنفسه :

أدركت أنني أخذت بالمكان إلي ذلك الحد الذي أضعت فيه بوصلتي. (ص 28 ـ 29).

في رحلته الإيطالية التضامنية مع الشعب الفلسطيني، إلي مدينة (بومليانو داركو) الرابضة في ظل بركان فيزوف، شارك في ندوة تحدث فيها سبع شخصيات إيطالية بارزة زارت فلسطين، وعايشت معاناة الفلسطينيين، وشاهدت عن كثب القمع الصهيوني الواقع عليهم.
أحد أعضاء مجلس النواب العائدين من فلسطين، بلغ به الأمر أن أعلن أنه مستعد للقيام بعملية انتحارية لهول ما رآه (107).

هنا أتوقف لأسأل من أضاعوا تعاطف كثيرين في هذا العالم مع قضيتنا وشعبنا: أين أوصلتم شعبنا وقضيتنا ؟!
ولأن السفر تعارف، وحوار، فإن الإيطاليين الذين التقاهم إبراهيم يبدون دهشتهم وهم يسمعونه يحدثهم عن أدبهم الإيطالي، والأدب الأمريكي، والفرنسي، والياباني... (ص107).
هذه الدهشة قرأتها من قبل في كتاب الراحل عيسي الناعوري عندما التقي بنجوم الأدب الإيطالي: بوتزاتي، كالفينو، مورافيا، براتولولني..الذين أثارهم أن العرب يقرأونهم، ويعرفون عنهم الكثير، ويتابعون أعمالهم الروائية والقصصية، ويعرفون الحداثة الروائية ويتابعون آخر المعارك الأدبية في الغرب!...

خطاب الأشجار :

يخاطب نصر الله الجمهور في القاعة، بحديث الأشجار، وشجرة الزيتون هي شقيقة الفلسطيني، والفلسطينيون يغرسون زيتونهم، ويعطون أشجارهم أسماء أبنائهم وبناتهم، و(إسرائيل) اقتلعت ربع مليون شجرة زيتون في بضع سنوات، يعني اغتالت ربع مليون إنسان.
حديث الأشجار يصل إلي عقول وضمائر الحضور، وتقديم أمثلة بسيطة عن جحيم حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال يحرك المشاعر الإنسانية المتعاطفة. يخاطبهم نصر الله: إن صعود امرأة إلي سطح بيتها، أو إلي شرفتها، لنشر غسيلها، أو احتساء قهوتها، هنا أو في أي قرية، لا يكلفها شيئا، ولكنه يكلف المرأة الفلسطينية حياتها (ص112).

إن قيام أي منكم بإبعاد الستائر في الصباح، لرؤية الشمس، وإشراع النافذة للاستماع لغناء العصفور بصورة أوضح، لن يكلفه حياته، ولكنه قد يكلف فتاة هناك حياتها، لأن القناص ينتظرها فوق البناية المقابلة ببندقيته (ص113).

ليس هذا الكلام تحليقا في الخيال، دغدغة لمشاعر بشر بعيدين عنا يستدرجهم الشاعر للتعاطف مع شعبه، ولكنه خطاب الشجر والألم الإنساني، والواقع الجحيمي المخيف غير اللائق بصمت البشر عليه.
أن يتعاطف البشر في أي مكان من هذا العالم مع معاناة شعب فلسطين، هو رفض للظلم، واغتصاب حقوق الأخوة في الإنسانية، فإذا ما تحقق هذا، فإن فلسطين تصبح قضية كل إنسان، لا قضية الفلسطيني وحده ! الفلسطيني الذي يريد أن يري شجرته التي تحمل اسم ابنه، أو ابنته، أو أمه، أو جده..تعيش معه، وتستمر في حياة طبيعية في أرضها، مع أهلها الفلسطينيين.
هنا يكتب الشاعر للشباب الذين تواصل وإياهم، في تلك المدينة الإيطالية، للجمهور الذي وجد فيه (اكثر من صديق:

في أرض البشر هذه
في قلوبهم
رأيت الكلمات تزهر
وغصن الزيتون يحلم
(ص114)

من إيطاليا، إلي كوريا، إلي إسبانيا، إلي ألمانيا، إلي..كولومبيا، رحلة طائرة، يلتقي فيها الشاعر بشخصيات عالمية مشهورة ذات صيت أدبي مثل (شوينكا)، أو فنانين كبارا، يتبادل معهم حوارات (طائرة) سريعة، لكنها حميمة، تدل علي أصالتهم، وتنقل للقاريء تصرفاتهم التي تنم عن تواضع وغني في النفس، وعدم دوخان بالشهرة...
في كوريا يمتدح نصر الله الأمانة، فالسائق يأخذك بالضبط إلي العنوان، وهل هذا بالأمر القليل؟! الأمانة التي باتت مفقودة في حياتنا العربية الفاشلة الخاربة...
في كولومبيا، تباع الروايات علي الأرصفة، ينادون عليها كما لو أنها (بسطات) خضار وفاكهة، والمارة يقلبون الصفحات، بينما الباعة يغرونها بالشراء، مقرظين تلك الأعمال !.
كولومبيا التي نسمع عنها أنها بلاد المخدرات وعصابات الإجرام تقرأ ملايين النسخ من أعمال روائييها، ويتدفق الجمهور بالألوف للاستمتاع بالإصغاء للشعراء!
محزن ما قرأته عن تلك البلاد، فهو يعيدني إلي الواقع العربي المجدب، إلي بلاد الشعر ديوانها، ولكنها اليوم بلا ديوان، ولا كتاب، ولا قراء، وبكثير من وزارات ثقافة لا تثقف، ولا تقدم سوي القليل القليل...
في هذا الكتاب ثمة تجربة أرضية في واحدة من بلاد العرب، هي أكثر هولاً من جحيم دانتي.
إبراهيم نصر الله اضطر للسفر سعيا للقمة الخبز، حيث عمل مدرسا في قرية نائية في السعودية، وهناك في حيث يعيش البشر في عصر ما قبل الحضارة، أصيب بالحمي، حيث لا علاج ولا مستشفي!...
كيف نقل إلي بلدة قريبة، وكيف قضي ليلته في كراج أغلق عليه رجل أشفق عليه ..هذا يصعب نقله، فلا بد من قراءته، لأنه الجحيم، إنه الظلام والكوابيس: إنه الهول..كانت تلك هي العبارة التي وردت علي خاطري وأنا أرتجف مع قراءة كل جملة في ذلك الفصل : الهول!..كما ردد بطل رواية (قلب الظلام) لجوزيف كونراد..الهول ! (كتب نصر الله تلك التجربة رواية صدرت بعنوان: براري الحمي).
انتهاء المنع مكن إبراهيم نصر الله من أن يفرد جناحيه ويطير في هذا العالم الواسع، عالم البشر والحرية والشعر، وهذا ما يجعل القارئ، يحزن شديد الحزن علي منع المواطن العربي من السفر، أو من دخول هذا البلد العربي أو ذاك،بلاد العرب بلاد الممنوعات، بلاد الحرمان، والأمية، والمهانة، والحمي، وكأن حرية السفر ليست من أبسط حقوق الإنسان!
سمح لإبراهيم أن يسافر، أن يطير، فرأي، وتنفس، وأحب مدنا، وأنشد، وكتب، وقدم للآخرين إنسانا عربيا يمد لهم قلبه، ويده، وسمات وطنه، لا كما ترسمها السينما الأمريكية، والدعاية الصهيونية، ولكن كما يجسده الشعر، الشعر الذي عقد صداقات بينه وبين شعراء كولومبيين، وأطفال، وشباب، وفلاحين بسطاء، ومع ذلك الفتي العازف علي الفلوت المبتور اليدين، ابن الشاعر الكولومبيين فيكتور روخاس...
كتاب ثري بالحياة، والشاعرية، وبحكايات تنعش الروح...
صدر الكتاب عن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت، عام 2006.

القدس العربي
25/09/2007