خضر الآغا
(سوريا)

فاطمة ناعوتيحدث أن يرهن بعض الشعراء أنفسهم لمناهج نقدية معينة ويكتبون على قدها: شعر يومي، ميتافيزيقي، ذهني، بلاغي، شعر التفاصيل... الخ، يمكن العثور على ذلك لدى الكثير من شعراء سورية الجدد مصرين على الانتماء إلى أنساب شعرية عائلية: عائلة أبي تمام التي ينتمي إليها أدونيس كمثال، وعائلة أبي نواس التي ينتمي إليها محمد الماغوط كمثال آخر، وبينها الكثير من الأنساب... ولم يتوقف الأمر عند شعراء سوريين بل يمكن العثور عليه في أرجاء الرقعة التي يقطنها العرب.

لكن ثمة شعراء يتجاوزون ذلك ويكتبون وفق ضغط الدم لا المناهج، وفق ما تقرره القصيدة لا النظرية، وفق مزاج المفردة واللغة لا التصنيف... إلى هذه السلالة الأخيرة تنتمي الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت.

يتحرك ديوانها الأخير "هيكل الزهر" في الأفق الدلالي لمفردات الحياة اليومية وتفاصيلها، للمهمل والمتروك (شطيرة تمر، بيجاما، فول نابت، ورقة مطوية، كرسي متحرك... الخ) لكن هذا لم يجعلها أسيرة الركون لهذه المفردات، بل إنها لم تتوان عن القيام بإزاحته نحو أفق آخر قد يكون مطلقاً مرة، ومجهولاً مرة أخرى... وهكذا: "يتفقد بساتينه الواسعة / وفي يمينه سوط نيتشة:/ شيخ البلد" (ص 75)أو "أمهليني دقيقتين يا رامة/ فمهرك يكمن في السطر الأخير/ من كراسة السيمياء" (ص 97)

وبالمقابل لم تخرج بها تلك الإزاحة نحو أفق دلالي مبني على لغة وتراكيب معقدة محمولة على مجازات القصيدة العربية السائدة التي تعفنت من كثرة ما استخدمت. لقد احتفظت عبر هذه الأريحية التي تكتب بها بالخط العام الذي يشد النصوص إلى بعضها وإلى تجربتها الشعرية الخاصة، وبدا المجاز، هنا، على أنه شيء يمكن حرفه عن سياقه التاريخي باتجاه مجاز من نوع آخر، مجاز لا يموه على الحقيقة جراء استعمالاته المتكررة، مجاز يمكن أن يتحقق دون الذهاب إلى تعمية لغوية سادت طويلاً القصيدة العربية حتى بنماذجها المهمة.
بدت ناعوت حرة إلى حد كبير، إن في الصياغة، أو في تحريك المعنى وتشظيه وتجاوزه في الوقت نفسه. كأن تقول: "الضرورة الشعرية / جعلتك تشطب الياسمينة البيضاء / التي كانت تنمو على سور الحديقة" أو "قيود الخليل / أنبتت أجنحة للهوى / فطار" ص (133)... هذا الخروج الحر عن سياق النص -الضرورة الشعرية، قيود الخليل- لم يؤد إلى ضياع المعنى أو فقدانه، أو وضع النص في منطقة اللاقول، بل وسعه، ولأقل، وفق ديريدا، أجّله. فالنص بعنوان "الشرفة" وهو مليء بمفردات متباعدة ولا علاقة مباشرة لبعضها ببعض، حيث يتجاور المقعد والفستان الصغير وخيوط التريكو، جنباً إلى جنب، مع الأوديسا (هوميروس) ورأس المال (كارل ماركس) والنبي (جبران)... يتشظى، ضمن هذه الانتقالات، المعنى ويتعدد دون أي شعور، قد يتولد لدى القارئ، بالإصرار على معنى محدد يظهر على أنه أيديولوجيا أو مذهب، فالحرية التي تكتب خلالها تنتقل إلى القارئ، فيقرأ، بدوره، بحرية، فيستولد معنى ويصل إليه دون عسف أو إكراه. لكن ثمة خيطًا خفيًا وغائرًا يشد النص ويحكمه، ففي الشرفة ذاتها تجلس امرأة وحيدة، ومن خلالها ترى العالم بتعدده وقسوته، وهي ذاتها يمكن أن تكون الأوديسا والنبي ورأس المال، والمكان الذي يطل منه الشاعر الذي "لا يشغل من البيت / سوى مقعد واحد / في ركن معتم" أو أن تلك الشرفة هي التي يمكن أن يؤسسها هذا الشاعر المنعزل والهامشي...

إن عدم تقيدها بحرفية التقسيمات النقدية للقصيدة العربية جعلها لا تنظر بريبة إلى هذا التجاور بين المفردات البعيدة، وهو الذي جعل نصها أشبه بقطعة موسيقية يعزفها ماهر ما بأصابعه ورأسه وبكامل جسده وبحواسه كلها. ذكرني نصها بالعازف المصري الشهير مجدي الحسيني الذي كان يعزف على آلة الأورغ، في ذروة تجليه، بيديه وبكوعيه وبأصابعه كلها، وأحياناً بإصبع واحدة، مواجهاً الأورغ مرة، ومرة أخرى يجعله خلفه متابعاً العزف بثقة كبيرة.

هذا المبنى الكثير أدى إلى معنى كثير أيضاً، وفق المعادلة التراثية الشهيرة، فلو نظرنا إلى ذلك من جهة الشعر الذي تكتبه المرأة (شعر المرأة)، لاتضح الأمر أكثر. تبدى شعر المرأة، على الأغلب، على أنه شعر المرأة المنكسرة في علاقتها مع التاريخ والمجتمع والرجل، بما ينطوي عليه ذلك من شعور راسخ بالاضطهاد والعزلة القسرية، شعر يعرض لعذاب المرأة في مجتمع ذكوري... الخ، هذا من ناحية، من ناحية أخرى تبدى بعضه على أنه شعر طافح بالعذوبة واللطافة بما يشبه، حقاً، المرأة، على ما في هذا وذاك من أهمية وقيمة أحياناً، لكن الأمر بدا مع فاطمة ناعوت مختلفاً، فلم يكن "هيكل الزهر" شعر امرأة تعاني اضطهاداً مباشراً من مجتمع أو من رجل، فقط لأنها امرأة في مجتمع ذكوري (ربما كان شعراً ينظر إلى الحياة، أحياناًً، من وجهة نظر نسوية، لكن لهذا شأنا آخر في الدراسة والبحث) إنما كان شعراً ينفتح على معان مختلفة ومتعددة وذا طبقات متراكبة من غير الممكن أن تصنف في خانة شعر المرأة بالمعنى المشار إليه، واستخدمت لإنجاح مهمتها لغة خالية من التعقيد والتقعر البلاغي، عبر جمل متلاحقة وقصيرة أسهمت بسهولة الانتقال من نافذة معنى إلى نافذة معنى آخر. هذا جانب، جانب آخر بدا شعر المرأة موغلاً في الحزن والكآبة والشكوى من شدة اضطهادها (لديها الحق طبعاً على المستوى السوسيولوجي) لكن ناعوت حتى في النصوص التي تعرض فيها آلام المرأة، فإنها لم تكن على هذا المستوى من الحزن الذي لا يؤدي إلا إلى انتحاب نشيجي، بل كانت تعلو عن الشأن الشخصي في الكتابة إلى مستوى يتحول فيه هذا الحزن إلى حزن منتج وفاعل لا يؤدي إلى البكاء، بل إلى التساؤل والتفكر وإعادة النظر بقيم تبدو راسخة: "هذي حبال الغسيل / مرخية / معاطفي وستراتي مثقلة بهموم نساء / تدربن مثلك / على ابتلاع الزرنيخ / ومصاحبة كافكا" ص (92) كذلك: "غدوتُ فستاناً مثقلاً بالحجارة / معلقاً على شماعة في الركن المعتم / أتحسس ذراعي المبتورتين / وعنقي المجوز / وساقي اللتين خطفتهما العجوز في الطفولة..." ص (111).

وهكذا يتحول الشخصي إلى العام، ويرتد العام إلى الشخصي في حركة تبدو اختباراً للشعر والشعراء، ولم يكن هذا يتحقق بمجرد قرار، بل بالشكل الكثير الذي بذلته الشاعرة، وبتلك الأريحية في تداول النص والتفكير فيه وإدارة الظهر لحرفية النظريات النقدية المكبلة لكثير من الشعراء، وخاصة كثير من شعراء جدد في سورية.