("قومٌ جلوسٌ حولَهم ماءُ" لمحمد أبو زيد)

فاطمة ناعوت
(مصر)

غارقًا في جماليات القبح "قومٌ جلوسٌ حولهم ماء" هو الشطرُ الثاني من بيت شعريّ شهير أطلقه أحد الناظمين ارتجالا حين سُئل أن يقول شعرًا وهم في قارب. وأما شطره الأول فهو: "كأننا والماءُ من حولنا". واتُخذ البيتُ كطرفة للسخرية من تفسير الشيء بنفسه، فجاء من يقول: "فسّرَ الماءَ بعد طولِ الجهد بالماءِ!". والشطر أيضًا هو عنوان الديوان الثالث للشاعر المصري الجنوبيّ محمد أبو زيد وصدر حديثًا عن دار "شرقيات" بالقاهرة. وتساءلتُ عن سرِّ العنوان الغريب، وهو الجملة الوحيدة الموزونة خليليًّا في الديوان النثري! ثمة رسالة يقصدها الشاعرُ حتمًا وراء هذه العتبة. أتراها رسالة "فنيّة"؟ فيناهض فكرة قيام الشعر على التفعيلة بقوله: هاكم جملةٌ موزونة خليليًّا سوى أنها لا تعني شيئا! ويؤكد هذا الاحتمال قوله: "في الماضي كنت أصفف شعري من المنتصف." كأنه يسخر من القصيدة العمودية المقسومة نصفين. أم تراها رسالة "فلسفية"؟ يقول عبرها إن الحياة/الديوان على مجملها عبث مثل هذا البيت الشعري الفارغ من المعنى.

ويؤكد هذا الاحتمال أن الديوان يقع في خمس قصائد طويلة عنوان أولاها هو الشطرُ الأول: "كأننا والماء من حولنا"، وعنوان أخراها الشطر الثاني: "قوم جلوس حولهم ماء"، كأنه يقول: حنانيك يا قارئي، فكلُّ ما بين دفتي الحياة قشٌّ وهواء. وأميل إلى أن الشاعر يقصد الرسالتيْن معا. والحق أنني لم أقع على ديوان أكثر عدمية وسوداوية من هذا الذي افتتحه الشاعر بتناص مشهديّ معكوس مع معجزة السيد المسيح: "حزينٌ لأنني لا أبرئ الأكمَهَ/ ولا الأبرصَ ولا أحيي الموتى..." الشاعرُ حتى لم يضع كلمة "أنا" قبل "حزين" لكي يصدمَ القارئَ رأسًا بحزنه دون فواصل منذ اللحظة الأولى. والشاهد أن حال الحزن والكآبة ستتلبسك بالفعل بدءًا من الكلمة الأولى وليس انتهاءً بالأخيرة، بل سيمتد وجعك بعد أن تغلق الديوان وتلقيه من النافذة لاعنًا الشاعرَ والشعرَ والحياة. وهذه تحديدا هي الحال التي يرجوها الشاعر لقارئه. إذ يسترسل: "والدم الذي تقرءونه الآن/ سال من عيني/ من فمي/ من أصابعي/ ..." ويبدأ شاعرنا يومه بالحزن: "حزني أكتشفُه عادة مع دقات المنبه." ثم يرفض إلا احتكار الوحدة لنفسه: "لستِ وحدكِ إذن/ أنا فقط وحدي." ثم يوغل في تشويه كل مفردات الحياة، حتى الجميل منها، مما اعتاد الشعراء اعتبارها منهلا عذبا للفتنة: "رمالٌ ميتة/ موجٌ نذل/ مراكبُ محطمة/ أسماكٌ مسممة/ سفينةٌ مشروخة/ جثثُ بحارةٍ فقراءَ وعمالٍ عمي/.. وقمرٌ يخيفك بفضّته". حتى الورد يذكره بالموت، وعيون حبيبته تشبه السفن الغارقة، وحتى أفراح طفولتنا في أعياد الميلاد كانت زائفة: "القطنُ الذي أقنعونا أنه ثلج يناير!". ويلح الشاعر على فكرة تقبيح الكون من طريق قرنه الجمال بالبشاعة: "ملائكة بلا جناحين- هددتْ بالغناء-البنتُ البيضاءُ ككفن-وجهكِ يا مرجانة كالغولة- الوطن أقسى من الموت"، حتى رمز العذوبة في عصرنا: فيروز، أردف بها مفردات من قبيل "الغدة الدرقية-الجثث-الدمامل والقيح- كراهية، الخ".

هي تيمة "استاطيقا القبح" التي اعتادها الشعراء الشباب في مصر الآن، سوى أن شاعرنا بالغ فيها حدَّ العذاب. والتقطتِ الفكرةَ الفنانةُ المصرية هبة حلمي فجاء الغلاف مزاوجًا بين وجه فيروز الحالم وبين قطة دميمة تبرز أنيابها بوحشية لتكريس معادلة: القبح=الجمال، ومن ثم ينفتح عنوان الديوان، وهو: تفسير الماء بالماء.

يلعب الشاعرُ على التراث: "سبع سنبلات خضر- سفينة نوح - نساء القرن الخامس عشر- تفسير الماء بالماء"، وعلى الميثولوجيا: "قرينة العالم الآخر"، وعلى التناص الكامل أو المنقوص بالحذف أو التغيير: نقّلْ فؤادَك حيث شئت من الهوى/ ما الحب إلا (للقتيل) الأول"- "فيرونيكا تقرر أن (تحب السينما)"- "حكيم روحاني حضرتك- الصبر لم يعد مفتاحا لأي شيء"، وسوف نصادف العديد من الأسماء والأعلام التي جاءت أحيانا مقحمة: إيزابيل الليندي- فاتن حمامة- على الشريف- ماركس- هتلر- القشتاليين- ماجلان- سلفادور دالي- جوليا روبرتس- دراكولا- رمسيس- جستابو- إبراهيم أصلان الخ. ويمارس الشاعر أحيانا لعبة الالتفات في الضمائر، أي التحول المفاجئ بالضمير: "أنتِ فيروز تخرجين الآن من أيقونتك كعاصفة الصحراء.../ اسمُها فيروز تدخل إلى عزلتي تغير لي ملابسي وصوتي وغدتي الدرقية/ أنا فيروز أسكبُ دمي على يديك فتضحكين كالقشتاليين.": فيتحوّل الضميرُ من المتكلم إلى الغائب إلى المخاطَب. وتقوم بعض القصائد على فكرة التداعي الحر والتوازي الأفقي للصور الشعرية بحيث لا تتراكم رأسيا لتقدم صورة واحدة متنامية ومتماسكة، ويكون على القارئ أن يلملم شظايا الصور تلك ليكون صورته الكلية الخاصة، مثل قصيدة "سيتسائل الأشرار من هي ميرفت؟": "البنطلونات الجينز/ حذاء سندريلا الأحمر/ الوطن المعلق على الصدر/ العيون التي تبكي حين تضحك/الشعر الذي يراقص الهواء فيكسره ...." ويقدم لنا تشبيها جديدا حين يقول: "الشياطينُ التي تشبه البشر"، وفي بلاغتنا العربية نشبه الأدنى بالأعلى للمدح، والأعلى بالأدنى للذم، لكنه هنا شبّه الأدنى بالأعلى من أجل ذمِّ الأعلى.

وعلى رغم عدمية الديوان السافرة لن نعدم بعض الصور السوريالية الطريفة التي قد ترسم شيئا من الابتسام الساخر على وجوهنا الكابية بالقراءة: "حزام الأمان الذي قسمكِ نصفين/ ترك نهدَكِ الأيمن وحيدًا ينهنه."، "هنا عبر ماجلان على دراجته/ قاصدًا الشهر العقاري/ يصفر للعربات فتتبعه..."، "تركتُ الماء يغلي حتى يستغيث"، "عينٌ واحدةٌ تبكي والأخرى تتفرج عليها." أو أن يقول: "ماجلان ليس هو الأعرج في القصيدة السابقة"، فنعود لنراجع القصيدة السابقة، ونحن نشك في أنفسنا وفي ذاكرتنا المثقوبة، فلا نجد أعرج ولا ماجلان! وأما أحد أجمل مقاطع الديوان حقًّا فيقول: "كان لي وجهٌ/ ويدان/ وشرايينُ وبنكرياسُ/ كان لي قفصٌ صدريّ/ وبيتٌ/ ودارٌ للأوبرا/ كان لي أصدقاءْ." والجميل فيه هو ذكر "السَّلب" عن طريق "الإيجاب" الماضي. فالفعل الناسخ (كان) يفيد غياب كل ما يليه، وهو وحده الذي رسم الصورةَ النقيضَ لماضٍ كان جميلا. وأما الجملةُ السهم في هذا الديوان الكابي فهي: "الوطنُ أقسى من الموتِ يا ميرفت."

www.f-naoot.com
fatma_naoot@hotmail.com