(جودت فخرالدين في ديوانه «ليس بعد»)

عبدالعزيز المقالح
(اليمن)

-1-

جودت فخرالدينلا تزال عربات الشعر كعربات الروح تجري مع هذا الشاعر الكبير مشعة غير لاهثة. صحيح أن الشاعر يدلف نحو العقد السادس، إلاّ أن أعمار الشعراء كأعمار قصائدهم تماماً لا تقاس بالسنوات وإنما بالمنجز الإبداعي الذي يؤسسون له، وبالفراشات والينابيع والموسيقى التي يطلقونها في فضاءات الروح وفراغات الوجدان. وهكذا هو الشاعر جودت فخرالدين في ديوانه الجديد «ليس بعد» الذي يطلق سلسلة قصائد الذهبية على مشارف الخمسين، مؤكداً أن كل صباح يمر على الشاعر الحقيقي يضيف جديداً إلى تجربته الشعرية والحياتية.
بداية، أغبط صديقي الشاعر جودت فخرالدين على هذا الإنجاز الشعري البديع وعلى اختياره اللحظات المناسبة لكتابة قصائده الرائعة، وهي لحظات صفاء وإشراق وجمال، من المؤكد أنها قادرة على أن تنقل الإحساس بها إلى القارئ وتجعله يستعيد ما يقرأ لكي يتماهى مع تلك اللحظات بكل ما تحمله من صفاء وانتشاء.
والديوان الجديد للشاعر جودت فخرالدين يأتي بعد ستة دواوين سبقته إلى الظهور، بدأت مع ديوان «أقصر حبك» منشورات دار الآداب عام 1979، ولم تتوقف عند «سماوات» وهو الديوان السادس من منشورات رياض الريس 2002. ربع قرن وخيط جمال ناعم يتصاعد ويعلو بحثاً عن جوهر الشعر الثاوي في لغة إيمائية تجيد بنجاح تام إدراك المجرد وتجريد المدرك، وتهتم بالأشياء الصغيرة تلك التي تختزن الشعر والبراءة في آن، بعد أن تتخلى عن كينونتها الخارجية لتغدو كينونة شعرية مدهشة.
والأشياء في الشعر – كما يقول عنها جودت في مقال حديث
النشر-: «هي غيرها في الواقع، والأفضل أن تكون هي نفسها أيضاً! الأشياء في الشعر هي نفسها وغيرها في الوقت نفسه، فهي تولد فيه ولادة جديدة أو إضافة تحظى فيه بوجود مختلف عن أي وجود قبله، أي قبل القصيدة التي هي تحقق شعري. إذاً الأشياء متحولة بالشعر، ولكنها على رغم ذلك ينبغي لها أن تحتفظ في الشعر بما هو أساس لها أو بالأحرى بما يميز كيانها الأساسي». هذا ما يراه صاحب ديوان «ليس بعد» الذي يبدو أنني سأعود إليه – أي إلى صاحب الديوان – أكثر من مرة لأستعين به في هذه القراءة القصيرة لهذا العمل الإبداعي الذي يشكل إضافة لا إلى إنتاجه الشعري فحسب وإنما للشعر العربي الحديث بعامة: «أقبل الشاعر في يوم شتائي، إلى المقهى الذي يرتاده، ألقى على مقعده المعتاد ما ناء به معطفه، ألقى به، ثم تولى واقفاً خلف زجاجٍ واجمٍ، يرنو إلى البحر الذي دوَّخه مدٌ وجزر». (ليس بعد: ص 43)
على هذا النحو من اكتشاف الأشياء والتعامل الشعري معها بكامل البساطة، وبما تحفره في الأعماق وتنفذ معه إلى الأعماق، وبلا أدنى مبالغة يمكن القول: إن قصائد الديوان ليست قصائد بل كائنات رهيفة صافية تعيد ثقة الإنسان بالشعر، هذا الكائن اللغوي شديد الصلة بالطبيعة ومرئياتها الفاتنة، الوحشي منها والشفيف، تلك التي تثير الدهشة أو تلك التي تتموج كخيوط الضوء في براري الوجدان:
«تقول الجبال التي انتصبت كالرجال، شموخي مستوحش في الفضاء الذي يتناءى ويخبو، تقول الجبال التي انتصبت كالنساء: سوادي حجاب وقلبي أخضر مثل الزمرد، تقول النباتات مطفأة في الظهيرة: كيف أقوم وأشرد بين الجبال الرجال وبين الرجال النساء». (ص 21) الشاعر هنا لا يرسم صورة للطبيعة الحاضرة في وجدانه والمائلة في الواقع، ولا يتوسل للوصول إلى هذه الصورة المكثفة المختزلة عن الخيال بالمألوف من الصفات والصور، بل يرتفع بالنص إلى ذاتية مختزنة في مفردات الطبيعة بما يغفو في عالمها الحميم من خصوصيات قلَّ أن ورد مثلها على الهاجس الشعري في القديم والحديث.

-2-

في مقابلة أجراها معه الناقد اللبناني المعروف اسكندر حبش ونشرتها صحيفة «السفير»، أشار الشاعر جودت فخرالدين إلى سعادته بصدور ديوانه الجديد معللاً ذلك بالقول: «لأنني أشعر بأنني ما زلت أختزن أشياء كثيرة أريد أن أقولها: فالقصائد التي احتواها هذا الديوان جسدت لي كثيراً مما كنت أطمح إليه، كما فتحت آفاقاً للكتابة، ما زالت تغريني بما هو مجهول ومحتمل». والشاعر صادق كل الصدق في ما ذهب إليه، فهو واحد من شعراء قلائل يدخلون إلى أعمالهم الشعرية الجديدة بوعي جديد وبرؤية فنية متصاعدة، وهو في ديوانه هذا لا يكفي بأن يتجاوز نفسه – كما يقولون – بل يضيف إلى عوالمه الشعرية السابقة عالماً مختلفاً ورائعاً: «ها أنت تمضي، ولكن ماءً يناديك، ليس كنبعٍ، وليس كسيلٍ، ولكنه ماؤك المتلهف كالنبع، والمتردد كالموج، والمتهور كالسيل، ما زلت تخمد وهماً، لتنعش وهماً، فلا تتسرع، ولا تتباطأ وسر هادئاً...».
إذا كان الإنسان أشبه بزمنه – يقول الجاحظ – فإن الشعراء الحقيقيين أشبه ما يكونون بأشعارهم، وهذا ما يؤكده جودت فخرالدين في شعره الذي يشبهه ويعكس جاذبية روحه الرائعة المبهجة وصلابة مواقفه، وفي لغته التي تمتع القارئ ولا ترهقه، لغة فاتنة مكثفة موجزة بالغة الدلالة، لا تقول أقل مما يجب ولا أكثر مما يجب، وتلك ميزة لا يمتلكها سوى عدد قليل من الشعراء، وهي ميزة لا تأتي بواسطة ضربة الحظ، ولا من طريق التعامل الطويل والممارسة العالية مع اللغة عبر القراءة المتأنية والتدريس والكتابة والجهد المتواصل، وإنما من خلال الشغف باللغة وخوض المغامرات اللغوية كما يقول الشاعر نفسه في المقابلة التي سبقت الإشارة إليها: «أنا أتابع نفسي بدقة، أرقبها جيداً وأعرف كيف تتغير عناصر الكتابة أو تتطور لديَّ خصوصاً في مستوى اللغة الشعرية بعناصرها المختلفة، وأحب أن يتنبه إلى هذا الأمر كل من يتسنى له أن يقرأ مجموعاتي الشعرية. بهذا المعنى، أعرف أحياناً أنني في مرحلة جديدة من الكتابة عندما ينفتح لي أفق جديد لرؤية الأشياء والأمور من حولي، أو عندما تتجه بي اللغة في هذا الاتجاه أو ذاك، فاللغة أو تجاربنا في اللغة هي التي تقودنا نحو اكتشاف المعاني والموضوعات والرؤى وما شابه ذلك، وأنا دائماً أعيش شغفاً باللغة وبخوض المغامرات اللغوية إذا صح التعبير وكثيراً ما تأتي لي موضوعات جديدة وقضايا جديدة في خضم المغامرات».
بفضل هذا الشغف إذاً، ومن خلال خوض المغامرات الشعرية استطاع الشاعر أن يصل إلى لغته الخاصة التي تقول ما يقوله بطريقة خاصة تختلف عما يقوله الآخرون، لغة تصلح للشعر، وليس لغيره من أساليب التعبير: «هل كنت أرى شيئاً بين غصون الأشجار، هنا من موقعي العالي؟ والسهل أمامي حيناً، والوديان وبعض تلال أحيـــاناً، والأشجــــار هنا تبزغ، مثل مصادفة أو أكثر، تجثم هادئة، أو تتمايل منهكة، أو تجري...». (ص 53)
هذا المقطع من قصيدة بعنوان «عبث» وهو عبث جميل تمنيت لو أن كل الشعراء يجيدون مثله في براءته وتجلياته وتماهيه مع الطبيعة وما ترسمه في القلب من لحظات إشراق وحنان يجيد الشاعر التقاطها، حتى وهو في حضرة الموت يتحدث إلى صديقه الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور بعد عشرين عاماً من رحيله: «رأيتك في غفلة للشتاء، وأنت الذي في الشتاء تموت وحيداً، رأيتك تصغي إلى مطر ليس يهمي، وتصفو كيأس تألق خلف الغيوم، رأيتك تصفو كصحوٍ جديد». (ص 11)
يبقى أن أقول إنه لا يخفى على القارئ المتمرس أن جودت فخرالدين شاعر ماكر – بالمعنى الإيجابي للمكر – فهو يعرف كيف يخفي مهارته وبراعته الفنية الغامضة في صياغة قصائده بإحكام وحرفة متناهية بظلال من التواضع الذكي والبساطة الآسرة.

الحياة
18/03/2007