بقلم : نضال حمارنة

خليل صويلحفي رواية ورّاق الحب الصادرة منذ سنوات، والتي عرض فيها أساليب مختلفة لكتاب قرأ لهم وأعجب بنصوصهم، كشف الروائي خليل صويلح نيته الاشتغال على أسلوب روائي حديث خاص به.. بعدها صدرت روايته بريد عاجل فانتمى إلى جيل كتاب الرواية الجديدة في سوريا الذين سعوا وما يزالون يقدمون تجاربهم المختلفة بالاشتغال على تجديد التقنيات والأساليب في بنية الشكل الروائي.

أما في رواية دعْ عنك لومي الصادرة مؤخراً عن دار الآداب، استغل خليل صويلح أدواته وإمكانياته في تفعيل التقنيات غير التقليدية في السرد الروائي فيما يخص الحكاية - الراوي - أبطال الرواية.. وتوظيفه للسينما، والشعر العربي والأدب العالمي، فمنح الراوية عوالم أكثر رحابة، أغنت الأحداث وأضفت روح الدعابة على الاسقاطات المقصودة.

المكان : كفضاء مدينة دمشق، والأحداث تدور في المربع الذهبي لحانات وسط العاصمة (بار الظهيرة.. الكهف إلخ.. أماكن معتمة.. شعبية روادها ينتمون لشرائح اجتماعية متنافرة)، إضافة لحارات باب توما، وبعض باراتها ومراقصها.
الزمان : السنوات الأولى من الألفية الثانية - بحسب تلميحات الراوي. أما زمن الأحداث - الوقت أو الجو - والكلمة استعارة من الراوي - المساءات وتبدأ من الثامنة حتى شقشقة الفجر.

الزمن الروائي يطابق زمن ما يروى مع زمن الراوي من خلال الحاضر استخدام الفعل المضارع في السرد باستثناء بعض نقلات الفلاش باك - مقطع تدور أحداثه بفندق بالقاهرة .

الحكاية: دعْ عنك لومي رواية متفرعة، ليس في متنها حكاية تقليدية لها بداية ووسط ثم نهاية (أي حل).

الكاتب يسرد أحداث قصيرة لوقائع ليالي، ومغامرات شلة من المبدعين، في فضاء غير تتابعي، مستخدماً تقنية التقطيع والتوصيل والنقلات السريعة من خلال الحكي الذاتي، والحكي الخارجي.

الأبطال: شلة من المبدعين الأعدقاء المتصعلكين في الوسط الثقافي السوري. يدخل الراوي - كأحد أبطال الرواية - إلى حياتهم من نافذة المشاركة المؤقتة وليس من باب الاندماج، مع أنه أحد أبطال واقع الحالة الثقافية وإن تواجد على ضفة أخرى. أما البطل الأهم فهو واقع الحال الثقافي لا صوت مباشر له، وإن ساهم في تشكّل شخوص الرواية، في إحباطهم المتكرر، في تعميق اغترابهم، فحوّلهم إلى أبناء أوفياء لصلب هذا الواقع، ينعكسون بوضوح في أحد مراياه العديدة، ويعبّرون عنه بإخلاص شديد. كضحايا لمناخ مضطراب (ص 121).

نقرأ عن حياة واحدة لهؤلاء الأبطال (المغامرات المسائية)، أما حيواتهم الأخرى، فلا نعلم عنها، وإن لمّح الراوي إلى شذرات ذكرت سريعاً، عن أسرة القاصة منى جابر وعن مشروع زواج أنس عزيز من ابنة خاله.

الأسلوب: تتميز لغة الروائي خليل صويلح برشاقة تحرّض القارئ على الاستمرار بالقراءة إلى أن تنتهي الرواية، لسلاستها وجزالتها غير المقعرة، وبعدها عن الوصف المطول أو التكرار أو الاستعارة المتكلفة. إنها لغة سردية بامتياز، عززت الضبط بين الكلمات والفكرة. وبين الشكل الروائي الحديث ومحتوى الموضوعات المطروقة. أما الحوارات التي ساهمت في تشريح الشخصيات وفي نقل الأجواء النفسية والأماني والرغبات، وفي متابعتهم الثقافية لنقاد حداثيين وما بعد حداثيين بينما يتعاملون مع الراهن بأنساق وقيم شديدة المحافظة. بيّنت الحوارات قدراتهم على التحايل من أجل استمرارية احتمال الحياة، واتّباع مبدأ التصيّد من تصيّد النصوص، وتصيّد الممولين من بلاد النفط، وتصيّد الأنثى، إلى تصيّد أخطاء أفراد الشلة، وتوزيع الاتهامات المتبادلة. هذا التأرجح بين وجود حياتي هشّ، ووجود افتراضي له هيئة الطاووس (ص 63).

الراوي: وهو أحد أبطال الرواية (السارد بضمير الأنا المتكلم). وتكمن أهميته في النص، بجمع خيوط تلك القصص المتفرعة لضبط التماسك الداخلي للمروية. إنه راوٍ ملتبس وأحد الأصوات في ذات الوقت. يدخل إلى العالم المروي متواجداً بقوة، وفي نقلة عابرة غير متوقعة نجده يروي من خارج العالم المروي ثم نقلة أخرى ويختفي، لتروى الأحداث بحوارات الشخوص الأبطال أو عن طريق تداعي أحلام اليقظة بذلك أتاح الكاتب الفرصة لخروج أصواتهم الموازية لصوت الراوي. ثم يعود ليمارس لعبة التحويل وتقلب أحوال الظهور ليستكمل إعادة روي واقعة ما بتعديل أو تبديل، أو تكذيب، أو تأكيد. من الصفحة الأولى نسمع صوت الراوي حتى منتصف الصفحة التاسعة ويحدث تداخل بين صوت الراوي وصوت عماد معصراني وفجأة يظهر الراوي في السطر الأخير من فصل فكاهة متخيلة (ص 12).

أوهمنا الراوي أن علاقته هشّة بالأمكنة التي تدور فيها الحكاية والتي وصفها وتحدث بعمق معرفي عن مرتاديها.. يروي عن لسان الآخرين وعن لسان حاله، يعلن عن وجوده وأسبابه كما حدث في فصول أسباب الراوي ، أسباب إضافية للراوي ، اقتفاء أثر ، أحوال الراوي التي لا تسر ، محاولة تفسير . وإن أوحى لنا الراوي بمكره وقدرته على ملاحقة أبطاله، وسبر دواخلهم وتحليلها واستنطاقها على الورق، إلا أنه على مستوى الواقع الروائي، يشاركهم معاناة هذا الواقع المعاش فنقرأ على لسانه (ص 142): خرجت من عيادة الطبيب بمشاعر متناقضة، إذ أخبرني أن سبب كآبتي لا يدعو للقلق، فهذه حالة جماعية (كلنا مرضى اكتئاب، ولكن بدرجات متفاوتة)، ونصحني أن أنظر إلى الأمور ب(المقلوب) .

في فصليّ أسباب إضافية للراوي ، و اقتفاء أثر ، نسمع صوت الراوي المرتبك بشدة في التقاط بوصلة فريق الثعالب (الشلة) إذ إنهم ينسفون على الدوام ما كانوا يروونه في الأمس... (ص 71). إن تلك النقلات السريعة المتقنة - وإن هي في مستوى الواقع - منحت الرواية الكثير من الحيوية، وأحدثت تبدلاً في المنظور عما يروي بفعل تناوب أصوات الشخوص - الأبطال وبينهم الراوي.

إذا كان الوجه الآخر لمنى جابر أنها سليلة جنس الندم بحسب ما قالته في هذياناتها (ص 138)، فإن الراوي يشترك مع أبطاله عماد وأنس وسمير وماهر بمفهوم الذكورة النابع من خصوصية البيئة العربية: يراودني أمل مُلتبس وشهواني في أن أعجن صلصال روحها بأكاذيب ذكورية بليغة (ص 147).

لا أنكر أنني تفاعلت مع هؤلاء الأبطال، رغم تسكعهم، وتصعلكهم، وشتائمهم، ورغباتهم الماجنة، وتعاطفت مع انكسارات وخيبات ومرارات أعماقهم في ظل واقع لا يمنحهم الاعتراف المادي والمعنوي الذي يستحقونه..
في الصفحة 152 يختم الكاتب روايته: مثل أسير في قلعة صحراوية اعتاد على جدرانها وحراستها.. .. يكتب الراوي لعبلة وهو قابض على جمر الأسباب: عبلة.. أكتب لك من بلاد مظلمة، من دون أن يكون الجو ليلاً .

الرأي
31 اغسطس 3007