محمد العشري
(مصر)

نزهة في ربيع إليوت

محمد العشريالعاشق الميت في وسعه أن يرقص التانغو، أن يتنزه مع عشيقته لدقائق في ربيع إليوت، قبل أن يصلا إلى الخراب، ويمارسا الجنس بشراهة على أقرب مقعد: "أسقط على جسدك/ أنهش لحمك الطري/ ألعق مذاقك المستهلك/ ألوكك بين ضروسي". هذا الميت في مقدوره أن يفعل كل شيء يصله بالحياة، إمعاناً في التشبث بها، غايته إعادة تجربتها بأنماط مغايرة. هذه هي صورة الحي في مرآة الشعر، ما يرتدّ إلى قلب القارئ من مجموعة "أشياء تفعلها وأنت ميت" للشاعر المصري المغترب في ألمانيا، أمير علاّم، والصادرة حديثاً في القاهرة لدى دار "ميريت" للنشر. تتصدر الديوان لوحة معبرة للفنانة إقبال البشبيشي تنفذ إلى خلايا النصوص، وتستعير منها هيكل الخيال. فالذات الشاعرة تقف مصلوبة على صليب المحبة المفتقدة، أمام قبرها أو سرير عشقها، حيث يحلو لها أن تمارس موتها وعشقها، في ظلام الواقع بإحباطاته، تتخلله نافذة متحركة. نافذة، في مرورها العابر، تُلقي الضوء على ما يمكن أن ينعش الروح، ويوقظها، من أجل مزيد من الإشتعال: "ثدياها المرسومان مثل كمثرتين/ يهتزان كالجيلي الذي تطهوه أمه يوم الأحد/ كم أحب ملمس النايلون/ الملتصق على فخذيها البيضاوين/ حين كان يضاجعها/ تدع أظافرها تنزلق عليه/ ليزأر الشيطان".

يغوي أمير علام شيطانه الشعري، يهيىء له مسارب في الروح ينفذ من خلالها، يصافحه مرة، مجرباً أن يصادقه بما يقدمه إليه، من رنات صاج عالية، ونساء، وهدايا: "سأختار لك أصدقاءك/ حبيباتك/ الشيطان المناسب". يصفعه في مرة أخرى، كي ينقذه من الموت، لأنه في دورة حياة قاسية، كل ما فيها غريب، حتى خياله الملتصق بالأرض، ينبهه ألا يترك التراب ينمو على حوافه، لكنه يغافله، ولا يلبث أن يضاجع عشيقته، على مرأى منه: "لا يكاد يسمع صوت أنفاسها/ حين يدخلها/ ملقاة كجثة في محارق النازي/ صامتة/ مقهورة".
تبدو القصائد للقارئ مفتوحة على فضاءات الآخرين بالتجاور، والإلتصاق الجسدي غير الحميم، لأن الأرواح هاربة في ماضيها. وما أشكال التنهدات والهمسات والنحيب إلا ذكريات، تعيش خارج الجسد. وهي منطقة يدهسها علاّم بقوة، لشحن الذات بما يدفعها الى تغيير عالمها، وينجح عندما يتناولها من وعيه الخاص بها، ويخفق في ما يتناوله ظاهرياً، لأن بيئة المكان ليست عالمه، فهو يحاول أن يبرر تصرفات الغرباء وفق منطقه، وليس منطقهم المشكّل لذواتهم.

تطل بقوة مفردات الحياة في مدينة برلين، الحوادث التي مرت بها خلال الحرب العالمية الثانية، ولا تزال محفورة على خوذة جندي ينتظر الموت، ويتجرع من كؤوس خمر منحته الدموع: "كآلاف أخرى معلقة على بيوت برلين المحترقة/ علامة الإستسلام/ الهزيمة/ النهاية/ الموت". تتحول المدينة خراباً بارداً، يجمّده ثلجها في مخدع للنساء، كان يظنّه الجنّة حين ترك صندوق ماضيه، في مدينة أخرى بعيدة، طابعها الزحام، والغليان، والقسوة، والفقر: "أبحرنا غرباء من ميناء الدموع/ حين تركنا أمهاتنا/ يشحذن ثمن مرتبة أوصى بها الطبيب/ لترحم ظهورهن من السقوط"، وتطير في الدخان جلسات الأصدقاء، وصرخات الأمهات تدق الأسى في العيون، على أولادهن المغتربين، ولبن حنانهن المسكوب على صدور العاهرات.

الرؤية الشعرية لدى أمير علاّم مبنية على المغامرة، في تجريد الحالة الإنسانية، متبعاً منهج فرويد في تناول الحياة من باب الجنس، بحثاً عن التحقق، والوصول إلى صيغة لتقبّل العالم على ما هو عليه، أو إرتداء شكل يلائم الرغبة في التحرر، والإنطلاق بالجسد إلى آفاق روحية مفتقدة. يجد القارئ أن التجربة الذاتية في مدينة المنشأ (القاهرة)، تقوده في النهاية إلى موت محقق، في مجتمع لاهٍ عنه، لا يمنحه عباءة تليق بإنسانيته: "سأبذل كل ما أستطيع/ كي أطبّق كل ما أعرفه عن هذه الحالة/ أن أموت مبتسماً/ تماماً كما هو مرسوم في كراسة الطوارئ". يحصل هذا، على الرغم مما يبدو من سلبية الذات، الهاربة إلى مدينة الملجأ (برلين)، التي تقوده الأشياء فيها إلى موت سريع، حتى وإن وجدوا علاجاً للإيدز، موفرين السبل لتجديد دماء الحياة. لكن، عليه أن يغيّر مساره، فيأبى ممعناً في موته: "لن أسلك طريقاً واحداً إلى الله/ لكن أيضاً/ لن أبحث عن حل سهل/ سأشرب الخمر بمذاقها الحرام،/ سأظل أثابر مع زوجتي". في قصيدة مهداة إلى الشاعر عماد أبو صالح، يتوحد أمير علام مع أبناء قصيدة النثر في الأطر العامة، لكنه يسعى إلى ترك حفريات تحت التراب، لها ملامح شبيهة به، تقود إليه في النهاية، من دون الحاجة إلى تحليل جيني، ليُكسب المادة الميتة صورة حية بالإشتعال الذاتي، وتفجيرها في جذوره، التي تشكل ملامح غريبة، لا تبدو شبيهة به، لكنها عجينة لعوالم كثيرين من أصدقائه الشعراء: "لن أرسم الأطفال العراة/ ولا الطين/ ضفاف الروث/ أحجبة البلهارسيا في أكباد متهرئة/ لن أرسم الحجرة الطينية من الداخل/ ولا مشهد مضاجعة الأبوين/ وسط أبنائهم الإثني عشر". في النهاية، يتحول الشيطان المغامر، المتخلي عن الحياة بالإنغماس في لذّاتها، إلى ملاك يحلق وحده بعيداً. أو هكذا تبدو له صورته في مرآة الشعر!

النهار
22 يناير 2007