علي زراقط
(لبنان)

يأتينا بلال خبيز، الكاتب والشاعر والمقاتل السابق الخارج من أتون الحرب الأهلية، بكتابه الأبيض، "اللحظة التي تفتح فيها عينيك هي لحظة الفاجعة"، على ناصية المدينة، يهتم بنشوئها وتطورها. الكاتب المتحيز للحداثة وتفاصيلها، يتبنى المدينة كقضية، كهمّ عام، ومكان تتفرق على أرصفته مدنٌ عدة، وأماكن مختلفة في زمن عيشها، وكيفياته. يتحمل الكاتب مشقة البحث عن المدينة الواحدة المنتمية إلى الحداثة كزمن واحد. كتابه هذا، نال الجائزة الأولى في "بيينال الشارقة" للأعمال الفنية، في إطار تجهيز ضمّه إلى عمل فيديو ولوحات (بالاشتراك مع وليد صادق وفادي العبدالله)، حيث يعرض غلافه الأبيض ليكون مرآةً للصورة التي نريد أن نضعها، نحن القراء على هذا الغلاف.

ينسج خبيز كتابه في ستة أقسام تسرد سياق الزمن الذي تحياه المدينة منذ أكثر من عام. على الهوامش يكتب رجلٌ هو الشاعر فادي العبدالله (الهامش العمودي)، وامرأة هي هدى طه (الهامش الأفقي)، سياق الزمن الخاص المترافق مع الزمن العام. يجتمع العمود بالأفق، لاحتضان الحشو في بناء هندسي، يطرب لمديح المدينة، وللإنتماء إلى الحداثة بوصفها الزمن الذي يجب أن يكون.
"يضرب الارهاب في المدن الحديثة هذه المفاصل الرخوة بالضبط". يشير خبيز في مقولته هذه إلى مفارقة لا بد من التوقف عندها، مفادها أن مدينتنا التي ضربها الإرهاب برمتها هي مفصلٌ رخو، أو في أبعد تقدير مجموعة من المفاصل الرخوة. مدينة هشة هي المدينة التي يتكلم عنها الكاتب. مدينة أشبه بزجاج، تستطيع أن ترديه بحجر واحد. أبهة البلور المصقول، الذي استهلكت لإنتاجه عوامل الحداثة، ثمة حجر باقٍ من العصر الحجري يستطيع أن يهشمه بالكامل. السؤال هنا، لِمَ هذه الهشاشة كلها؟ يأتي الجواب بسيطاً وواضحاً، وببداهةٍ تبدو لكثرة صدقها على كثير من الغرابة، "لأنها (أي المدينة) لا تحيا في الزمن نفسه الذي يحيا فيه المتهورون من الشباب". يحاول الكتاب في قسمه الأول، "منع التجول في مستقبل البلاد"، تكوين صورة واضحة عن الزمن الذي نعيشه أو ما يمكن تسميته بالزمن العام، وفي ذلك نلاحظ أنه يتكلم عن زمنين شديدي الاختلاف: الأول هو شرفة على مستقبل نعيشه في وسط المدينة التي يدعوها "شرفة المدينة"، وهذا هو الزمن الهش غير القادر على شيء إلا الفتنة االتي تدعو إلى الفرجة. هو زمن الكرنفال الدائم، زمن دائم الدهشة، ودائم الجدة. أما الثاني فهو زمن الأحياء، لا نعيشه إلا عندما نقفل أبواب الزمن الآخر. إذا كان وسط المدينة هو الشرفة، فالأحياء هي داخل المنزل، زمن للانكماش والتقوقع. يوطئ الكاتب في هذ القسم لما سيأتي في الأقسام الآتية، في تعريفٍ للعين تتناول عنوان الكتاب، "اللحظة التي تفتح فيها عينيك هي لحظة الفاجعة"، ليعود فيؤكد في جملة واحدة: "اللحظة التي تصبح العين فيها حاسةً في المدن، هي لحظة الفاجعة". في المدن الحديثة التي تربي سكانها على التطبع بطبائعها، تتربى العين على أن تكون وظيفية، بمعنى أنها ترى أمامها كي تستطيع السير. تتذكر المكان كي تجلس فيه. أما اللحظة التي تفتح فيها عينيك للتأمل فإنها لحظة الفاجعة، لحظة انفجار، أو زلزال. تلك هي اللحظة الوحيدة التي تجرّك إلى التأمل واستخدام العين في بعد مغاير لبعدها الوظيفي. إلا أننا في بيروت، وفي وسطها الذي كان دوماً على دهشة، ودوماً على يقظة للعين في الرؤية والمراقبة، فقد كنا دائماً على أهبة الفتنة. هذا مكان يتنبأ بالفاجعة، أو يذكّرنا بالماضي الذي كان (الحرب الأهلية)، مما يستدعي منا الندم والإعلان الدائم عن ضرورة عدم العودة إلى ما مضى. فاجعة مضت وأخرى سوف تأتي.

قد تكون الحرب الاسرائيلية الأخيرة هي الحادث الأهم الذي شاهدته في حياتي، ولا سيما مشهد بيروت وهي "تأكل" القصف من فوق والذي كانت تنقله إحدى الشاشات اللبنانية بشكل مباشر ومتواصل ليلاً. خلال الحرب لم أكن قادراً على استيعاب مدى القسوة التي يختزنها هذا المشهد، والفتنة التي يولّدها، فتشدّني كي أشاهدها لساعات وساعات. أن ترى القذيفة على التلفاز ثم تسمع صوتها في التلفاز، ليأتيك من بعيد فتعلم أنك الناجي من القصف. في تلك اللحظة تفتح عينيك، وتوقن أنك لا تزال حياً، وهذا يعني في الضرورة أن الميت هو جارك الذي سقطت القذيفة عليه. شعور يأخذك ما بين الفرح بأنك نجوت، والحزن على جارك الذي قتل، ولا تدري أي الشعورين أقوى.

يمكنك أن تقرأ في القسم الثاني من الكتاب، ما يوضح أن الخيارات تنحصر. ف"نحن في هذا المكان الذي نسميه مدينتنا لا نملك أكثر من طموح أن نكون البكائين. فالخيارات تكاد تكون محصورة بين اثنين، إما أن تكون الباكي وإما تكون الميت". من الملاحظ في هذه الجملة، كما في هذا القسم كله، أمران، الأول هو إنحسار عبارة "الذي نسميه مدينتنا". كأن المدينة لا تعدو أن تكون مكاناً ما، فهي الفارغة شوارعها، والمختبئة خلف جدرانها، تنقلها المحطات التلفزيونية باعتبارها الحدث، فتفرغ من حياتها. في هذا المكان النابت لا يعدو الخيار أن يكون أكثر من تنظيمٍ دورك في الفاجعة، فإما أن تكون أنت الضحية، وإما أن تكون الباكي على الضحية. أما الثاني فهو التقارب المخيف بين حد الموت وحد الحياة، وكلاهما مرٌّ. عندما تسقط المدينة، تزول كل الصفات والخيارات، فيصبح المرء ميتاً أو بكّاءً: "الحياة اليوم هي حياتنا التي نعيشها بكل ما نقوى عليه ونعض عليها بالأنياب ونخمشها بالأظافر. حياة مخمشة ولا نستطيع إثباتها عياناً. ذلك أن كاميرات المصورين تختار الموت هدفاً، ولا تقيم وزناً للأحياء".

لكي نفهم غاية هذه المقولة، نقفز إلى القسم السادس من الكتاب، "العودة إلى المدن"، حيث يمتدح بلال خبيز الأنانية والانتهازية، اللتين تصيبان الناجين. تكمن الأنانية في الفرح عندما يتيقن المرء أنه نجا، فينتهز الفرصة كي يبتعد عن مكان الموت. يتوضح هذا الشعور عندما نرى الفارق بين ما يشاهده المقيم في بيروت ويحسه لحظة القصف، وذاك المقيم في نيويورك أو باريس مثلاً. يقول خبيز في ذلك: "إن المقيم في بيروت في زمن الحرب يخاف ويحزن حين يقع القصف، لكنه حين يشاهد الموتى وأمكنة الدمار (في الصحافة أو على التلفاز) يدرك أنه نجا، وهو في هذا الادراك لا يخفي شعوراً بالفرح أن القذيفة استهدفت أحداً سواه". أما المقيم في نيويورك والذي لم يشعر أنه مهدد بالقصف، ويتابعه على التلفاز بعد وقت من وقوعه، فإنه "يحزن على القتلى حزناً خالصاً لا تشوبه شائبة من أي نوع وخصوصاً من المشاعر الأنانية التي تبدو من اختصاص الناجين في كل زمن". يأتي خيار خبيز هنا في امتداح أنانية الناجي في المحافظة على حياته ومحاولة صوغها في المكان الذي يعيش حالات الموت. ينتهز الناجون المكان لبناء زمن خاص بهم، لا يختبئ في الكهوف، ولا يدّعي المقاومة والشجاعة، ولا يحيّد نفسه في أبراج مبعدة عن الدمار، في أقسامٍ غير مستهدفة من بيروت أو في بلاد بعيدة، ولا يدعي الحزن أو الإحساس بالشفقة على الضحايا. في مديح الأنانية والانتهازية مديح للحياة، ومواجهةً للموت بالحياة. مواجهة الناجي للموت الذي نجا منه بأن يحافظ على حياته، بأن يبني المدينة على زمن حديث. هؤلاء هم الذين يصفهم خبيز "بمن لم يعرف غير تلك البلاد وطناً". هؤلاء هم الأنانيون والإنتهازيون الذين يعيشون الحياة متمسكين بها (وقد لا يحبونها)، ويصرون على البقاء في هذه البلاد. في هذه البلاد فقط.

النهار
يوليو 2007