القاهرة تحتفل ببودلير ومختارات إيف بونفوا

إبراهيم فرغلي
(مصر)

إيف بونفواأقام قسم الترجمة والنشر في المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة احتفالا أدبياً لمناسبة مرور ربع قرن على تأسيسه على يد المستشار الثقافي الفرنسي ريمي لوفو في منتصف الثمانينات. وتزامن ذلك مع صدور "سأم باريس" لبودلير ومختارات من شعر إيف بونفوا، في العربية، وشارك في الاحتفال كل من الباحث جابر عصفور والروائي جمال الغيطاني والشاعر والمترجم بشير السباعي والمسؤولة لدى دار "آفاق" سوسن بشير ومديرة قسم الترجمة والنشر في المركز الفرنسي دنيا بو رشيد باديني، التي نظّمت الاحتفال وأشرفت عليه، كاشفةً أن هناك اتجاها لإلغاء منصب مدير القسم في المركز، على أن يقوم به شخص مسؤول آخر بالإضافة الى مهماته الرسمية، وناشدت المستشار الثقافي الفرنسي دوني لو لوش أن يتدخل من أجل انتصار الثقافة على السياسة، وصون هذا المركز الذي أنتج عددا من الترجمات لأهم الأعمال الأدبية الفرنسية، الكلاسيكية والمعاصرة، ويتعرض الآن للذوبان.

وكان المستشار الثقافي الفرنسي افتتح الاحتفال مشيرا إلى تاريخ القسم الذي تحول مع عام 1992 إلى برنامج لدعم النشر يحمل اسم طه حسين، وهو برنامج تموّله وزارة الخارجية الفرنسية، كما يعتمد نشاط القسم على مساعدات الترجمة التي تقدمها وزارة الثقافة الفرنسية. وقال إن القسم تعاون منذ إنشائه مع ما يزيد على خمسين مترجما من الفرنسية إلى العربية، وأكثر من خمسة عشر ناشرا مصريا، وأنه ساهم في إصدار نحو من 300 كتاب، من بينها خلال الأعوام الأربعة الأخيرة: "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست في سبعة أجزاء، موسوعة "جامعة كل المعارف"، مجلد "خمسون عاما من السينما الفرنسية" لرينه بريدال، ترجمة سوزان خليل، كتاب "المسألة الفلسطينية" لهنري لورانس في أربعة مجلدات، ترجمة بشير السباعي، "كتاب الموتى للمصريين القدماء"، تأليف بول بارجيه وترجمة زكية طبوزاده، "الأشياء الفريدة" لجان بورديار وجان نوفيل، ترجمة نادية صادق، وغيرها.

ليس هذا فقط ما قدّمه القسم، إذ شهد تصاعد نشاطه بشكل ملحوظ خلال ثلاث فترات أساسية هي التي تولى فيها مهمة إدارته ثلاثة من أنشط مديريه، ريشار جاكون وكاترين فرحي ثم دنيا بو رشيد، على ما أشار جمال الغيطاني في كلمته، مؤكدا أن المشروع قدّم خدمة جليلة الى الثقافتين العربية والفرنسية، وسدّ ثغراً مهمة، بعد ترجمته عددا من الأعمال الكبرى، بعضها مما أشرنا إليه سابقا، إضافة إلى طفرة ترجمة المصريات التي شهدت اهتماما فرنسيا كبيرا بلغ ذروته على مدى العقود الثلاثة الماضية. ولفت الغيطاني الى أهمية حركة الترجمة العكسية، منذ أن ترجمت "سوي" الزيني بركات، وانتقلت ترجمة الأدب العربي الى الفرنسية من مجال الاهتمام المحدود الذي كان مقتصرا على الجامعات ودارسي الأدب، لتصل إلى الجمهور الفرنسي .

من اللافت في اختيارات قسم الترجمة، التنوع في المجالات، وهي اختيارات عكست الآليات الجديدة التي أقرّتها دنيا بو رشيد في العمل، وخصوصاً عرض قوائم خطط الترجمة على الناشرين والكتاب من أجيال عدة، ومديري المكتبات الخاصة والصحافيين والأكاديميين، بحيث يحدد كل منهم أولوية ما يرى أنه الأنسب للترجمة، ويتخذ القسم قرار الترجمة وفقا للأعمال التي حازت أعلى نسبة في التصويت. وهي طريقة تعكس الذهنية الليبيرالية وتعكس ثقافة الجمهورية التي تنتمي اليها بو رشيد، وقبلها ريشار جاكمون، على ما أشار بشير السباعي في الكلمة التي ألقاها حول مفهومه للترجمة، وأهمية اعتراف الثقافة العربية بتقصيرها، وبقلة إنتاجها المعرفي، وإتاحة الفرصة لنفسها أن تتعلم على أيدي الذين يمتلكون هذه المعرفة، في إشارة إلى الثقافة الفرنسية: "كنت أشعر أن المستشرقين والمستعربين لديهم ما يقولونه لنا. علينا أن نتعلم. الثقافة الفرنسية لديها ما يمكن أن نستفيد منه". لكنه من جهة أخرى لفت الى أن الطرف الفرنسي ممثلا في مديري قسم الترجمة ممن تعامل معهم، وخصوصاً ريشار جاكمون ودنيا بو رشيد، كان ديموقراطيا تماما، وبدا ذلك في الاستجابة حتى لرفض بشير السباعي ترجمة بعض الأعمال التي كان يرى خلوها من شروط القابلية للترجمة، مؤكداً انتفاء كل شبهة عنصرية لدى الطرف الفرنسي ممن تعامل معهم.

ووصف جابر عصفور ترجمات بشير السباعي بأنها تأسيسية، وخصوصاً ترجماته لتودوروف، في خطاب ما بعد الاستعمار، "مسألة الآخر" مثلا، وليس أعمال تودروف البنيوية التشكيلية، وكذلك أعمال هنري لورنس. كان عصفور أعاد قراءة ما قدّمه قسم الترجمة في ضوء تطور حركة الترجمة الفرنسية التي يعزوها الى الحملة الفرنسية على مصر، في وجهها الحضاري والمعرفي، بعيدا من الجدل السياسي حول مغزاها ودوافعها. وأوضح أن البعثات الأولى الى أوروبا لم تكن إلى باريس على يد جيل رفاعة الطهطاوي، وإنما بدأت إلى إيطاليا بدراسة فنون الطباعة، وهي الجهود التي أدت إلى إنشاء المطبعة الأميرية التي طبعت كتاب الطهطاوي "تلخيص الإبريز" عام 1854.

وتحدثت مستشارة النشر لدار "آفاق" المصرية سوسن بشير، عن العملين المحتفى بصدورهما بالاشتراك مع "دار الجمل": لماذا "سأم باريس" لبودلير اليوم بعد مئة وخمسين عاماً على "أزهار الشر" للشاعر الكبير نفسه؟ لأن "سأم باريس" هو جدلية العشق والبغض لباريس، والدليل الدامغ الذي وضع المفتاح لقراءة بودلير وكل أعماله بما فيها "أزهار الشر". أما أنطولوجيا إيف بونفوا، ترجمة الشاعر والمترجم التونسي محمد بن صالح، فهي قراءة جديدة لشاعر من جيل ما بعد أدونيس الذي كان ترجم الأعمال الكاملة لبونفوا. فهذا الشاعر الفرنسي الكبير هجر الرياضيات عام 1923 ليركض إلى الفلسفة، وقد ترجمه شاعر تخرج من قسم الفلسفة. مرة أخرى يترجمه التونسي محمد بن صالح الذي تخرج هو الآخر من قسم الفلسفة، بل من فلسفة دمشق. فهذه رؤية جديدة لبونفوا الذي أطلق عليه مع مجموعة من أقرانه أنهم أصحاب قصيدة الواقعية الجديدة، لكن بونفوا الذي ركض الى الفلسفة، اقترب من الشعراء السوريالين وما لبث أن ابتعد عنهم، لكي ينزل القصيدة على الأرض، فترتبط ببحث الإنسان عن أصل الإنسان، لا ببحث الإنسان عن أصل العالم. فبونفوا أنزل القصيدة على الأرض لكنه نجا من فخ الآنية واللحظة. لم ترتبط قصيدته بلحظة لأنها صالحة لكل زمان، بحيث يأتي كل يوم فرد جديد ليقرأها ويبدأ البحث عن ذاته. وهكذا. ولولا حماسة الباحثة دنيا بو رشيد لما كانت صدرت هذه الأعمال بطباعة فاخرة وسعر زهيد. المفاجأة المقبلة هي الأعمال الكاملة لرامبو، ترجمة كاظم جهاد، والتي تنشر في مصر بمقدمة، في طبعة مزيدة منقحة، ليتعرف القارئ المصري الى هذا العبقري المتناقض الذي وقع في أسره الشعراء العرب".

الثلاثاء 02 تموز 2007