تحليقه ومن السرد حجارته

يحيى القيسي
(الأردن)

عرفت الساحة الثقافية الأردنية نوال العلي شاعرة ومترجمة عن الفرنسية والإنجليزية من خلال بعض النصوص التي نشرتها في الصحافة المحلية والعربية خلال السنوات الخمس الأخيرة ، واليوم فإن العلي صحفية أيضا ، لكن كتابها السردي الأول " سيرة النائم : على الجانب الآخر من النهر " الذي نشرته لها وزارة الثقافة بداية العام 2006 بدا مساهما أساسيا في وضع اسمها بقوة ضمن المشهد الأدبي في الأردن ، ومن الواضح أنه يؤشر على موهبة أصيلة وجامحة سيكون لها حضور خاص في المشهد العربي أيضا فيما إذا استمرت في الكتابة بالمستوى نفسه من النضج والتميز الذي قدمته في كتابها الأول .

قدر لي أن أقرأ " سيرة النائم " وهي مخطوطة ، وقد بدت لي العلي وهي تقدم لي كتابها قبل نحو العام والنصف واعية لفعل الكتابة ، ومتوجسة من فعل الإبداع ، ومتواضعة في تقييمها لتجربتها ، لكنها بدت لي أيضا مثقفة وقارئة لا تكاد تقارن بأبناء جيلها الذين يستعجلون الظهور دون سند ثقافي حقيقي واستعداد كاف , وعلى كل حال حسنا فعلت وزارة الثقافة في تبني كتابها الأول ، ومن الجيد أيضا أن تكون العلي قد اقتنعت أخيرا بضرورة إخراج كتابها على الناس دون تردد ، رغم ما يشوب التجربة الأولى عادة من هنات وأخطاء ،ووضوح في الجانب التطهيري للكتابة عبر إشغال حيز كبير للسيرة الذاتية فيها ،وضبابية أحيانا في استيعاب سؤال الكتابة ..!

" سيرة النائم " أو كما رغبت أنا بتسميها " سيرة النائمة " نص سردي أقرب إلى الرواية في التجنيس ، رغم أن الكاتبة نفسها قد وقعت في حيرة التسمية

" لا أعرف ماذا أسمي كتابي:رواية، سيرة، نص، شعر هي نفس الحلقة التي تتدلى من السلسلة وتعلق بكل التفاصيل الثقيلة والخيالات الثمينة.." ص 20

وبغض النظر عن التجنيس فإن الكتابة جاءت على شكل سرد متوهج ظل محافظا على سويته حتى النهاية ، وظل هناك خيط سري يلظم النصوص الواردة في الكتاب لتحافظ على روحها ، ومن الجلي لمن يعرف العلي أن يدرك مقدار غمسها نصوصها

بجزء غير يسير من سيرتها الحياتية الخارجية أو العوالم الداخلية لها ، ولهذا سيكون الكتاب مفهوما بدرجة أكبر لمن اقترب منها ، فثمة الكثير من النصوص والجمل الواردة في الكتاب يبدو المعنى فيها في بطن الشاعر كما يقال ، أي أن المعنى يصل إلى المتلقي بشكل مشوش وسريالي ضمن نص يبدو واقعيا في بعض درجاته بل في منتهى الواقعية أحيانا.

ما يهمني في هذه القراءة أن أحاول التعريف بهذا الجهد وملامحه ،والدخول أيضا إلى بعض أعماقه ،وتبقى مسألة الغوص في تفاصيله التقنية وتحليل خطابه أمرا نعول أن يتنطع إليه الأكاديميون والنقاد المتخصصون ، ولا سيما في ظل حالة نقدية عربية انتقائية غالبا ونائمة عن الكتاب الجدد أيضا . يمكن في " سيرة النائم " المرور على عناصر كثيرة لمناقشتها ، الكتابة عن الكتابة مثلا ، فشخصية الراوية " نوال " تتطابق مع شخصية الكاتبة كاسم وملامح ، و ثمة إشارات كثيرة إلى هذه المسألة ، ففي ص 12 مثلا تقول " سأكتب النص الأكثر طيبة .." ,و في ص 18 " أن أكتب يعني أن يدربني الله على مهارات الخفة " ، ص 56 " تناولت القلم وكتبت " عتبة آب وعتابه " تفوهت بأشياء كثيرة نشرت بعد عام من ذلك الوقت بأخطاء مطبعية عاطفيه .." ولكن الحوار الأبرز في النص عن الكتابة بينها وبين الممثلة ظهر جليا في ص 83 ، 84 " إنني لا أنفصل عن كتابتي أبدا ،أنا أعيشها .." .

ويكمن الإشارة أيضا إلى علاقة راوية النص بالكتب الأخرى التي تستوقفها بين الحين والآخر مثل قصائد درويش ، رواية جورج أورويل 1984 ، الرواية الفلبينية ، وغيرها .

في الجانب الآخر يمكن لقارئ " سيرة النائم " أن ينتبه إلى الشعر الخالص الذي ينتمي لقصيدة النثر في صفحات بعينها ، أو الشعرية العالية في نصوص سردية أخرى ،رغم بعض التمويه الحاصل أحيانا لدى الكاتبة في وضع النصوص على شكل مقاطع سردية تنتمي لما قبلها ، لكنها في الحقيقة منفصلة عنها تماما في صورها المركبة ,ومقدار التخييل فيها ،والغنى بمفرداتها ،ونقرأ من ذلك ص 58

" القارب الذي حللت وثاقه ما هو إلا حياة ولت بغير رجعة / أتذكر يوم تأملتني كمضغة أفسدت الأمر كله / كان الله غاضبا حينها وما كان ليساعدني أبدا / لكننا فجأة استندنا كقتيلين طازجين إلى شجرة لن تخضر أبدا / وبعد خمس دقائق انحدرت السماء بقطعان النعاس ..." .

وربما يأتي هذا الشعر وتلك الشعرية من أثر كتابة العلي أصلا في الشعر ،واقترافها للسرد بعد ذلك ، وعلى أية حال فإن هذه الروح الشعرية المبثوثة في النص تنهض به عاليا ، فيما يتكفل السرد برزانته وثقله في جعل النص لا يطير بعيدا ليتحلل في الهباء...!

المسألة الثالثة التي استوقفتي في النص اللعب على حالتي الصحو والغياب ، الوعي واللاوعي ، الحلم واليقظة ، والتماهي بينهما أحيانا كثيرة ، وهذه الثنائية تندرج أيضا على التناوب بين أكثر من راو ، ولكن الأبرز هنا " نوال والمرأة المجاورة لها ".

إن "الطفلة الأكثر طيبة " قد طعنت في ذاكرتها منذ الصغر على ما يبدو , وتعرضت إلى ما يشبه حكاية ليلى والذئب ( ص 21 ) وهذا الطعن أتى من العالمين الخارجي والباطني ،ولهذا كانت النتيجة امرأة شبه معطوبة في ذاكرتها وبعض حواسها كالشم والذوق ، لقد أفاد الشعر هنا في نقل بعض ما يعجز السرد عن المراوغة به ، فالدلالات المشوشة ، والتي تحتمل معاني ضبابية للمتلقي يمكن للشعر تحمل وزرها أما السرد فلا يقبل غالبا إلا الوضوح ( السرد / الصحو / الواقع ) نقيض ( الشعر / الحلم / المتخيل ) :

" بماذا تفكر الملائكة وهي تريق أوعية من نعاس ووشوشات صغيرة جدا كحبات السمسم؟ لا يمكنني سماعها دون ابتسام، في تلك الحجرة المضاءة بنور ذهبي يتحرك مفتونا بالحراك يبدل ملابسي ويستغرق في حركة ناعمة ومركزة..."

وبالطبع فإن دراسة هذه الحالة من الدخول إلى الباطن تحتاج إلى الكثير من التحليل ،ولا مجال لها هنا ،إن الذهان المرعب الذي سيطر على الطفلة منذ صغرها بسبب تواجد أفاع تلتف عليها في الحمام أو من أثر الكوابيس الليلية جعل الطفلة تهرب من البيت نهارا ومن النوم ليلا ،وفي ظل ضغط خارجي( العائلة ) وداخلي ( تغول العالم الباطني والكوابيس ) في الآن نفسه ،و تعرضت الراوية هنا إلى انهيارات متوالية على الصعيد الجسدي والنفسي بل وأدى ذلك إلى السجن .

والعلي كما يظهر للقارئ عارفة جيدا بعوالمها وهي تؤشر عليها أكثر مما تشرح ، ولقد هالني مثلا عدد الجثث الملقاة بين الصفحات ،وقد رصدت نحو خمس جثث لميتات مرعبة عدا الموت الطبيعي مثل رحيل الأب والجد والأم ، ففي ص 61 هناك "جثة في بيت الدرج " , ص 42 جثة أخ الساردة الطفل وقد اختنقت بفعل الشد عليها أثناء اللعب " ، ص 53 جسد راضي المشنوق تحت شجرة التوت ، ص 91 مقتل شقيقة الساردة بحادث سير فاجع ، هذا عدا عن الجثث التي وجدت في النوم مثل الرجل الذي يقطع حلمات النساء بالسواطير ، وعدا أيضا عن عشرات المفردات مثل القبور ,,الشنق ، الموت ، الظلام وغيرها ، وقد زاد الطين بلة كما يقال بعض الأوصاف والجمل التي تحيل إلى كل ما تعافه النفس مثل : شرب دم الحيض ، القيء ,..الخ , وعلى أية حال فإن " سيرة النائم " يظل غنيا بدلالاته وبالبعد السيكولوجي والميتافيزيقي محمولا على ثقافة كاتبته وخبراتها الغنية في " نهر الحياة والجانب الآخر منه اللامرئي " ،وهو في النهاية من الكتب السردية القليلة التي صدرت مؤخرا في الأردن لكاتبات يمكن للمرء أن يقرأ لهن دون تردد وبعيدا عن النمطية والعادية السائدة .

******

بعد المطر بقليل

نوال العلي
(الأردن)

...
الذي ضل طريقه بين الأشجار الجافة جداً في المنحدر
ليس نفسه،
من أمسكته العجائز في حقول مبطنة بالأشباح والنمل،
وقرقعة علب معدنية معلقة في فراغ بين الثمرة وأختها.

ليس نفسه،
الميت الذي وجدته مختبئاً بين الحشائش الضارة،
وقد دخل عامه الثاني وما زال يحتفظ بخاتم حديدي وثلاثة أرغفة يابسة.
ـ شهدت كل شيء، وأنا جالسة فوق الخزّان كعادتي، أقابل الليل بعد أن تنام عائلتي متدلية من سقف الحلم إلي الخارج.
العسكر يطوقون الموت المهجور، وقد جمعوا الفشك وقطع التنك وبقايا أقمشة طيرتها الريح من المزابل إلي هنا أمام عيني.
تتدفق مياه البلدية إلي الخزان، فأحس بنمنمة لذيذة في قدمي الملمومتين بذراعيّ. أرصد صوت الماء والعتمة، ثم أوقظ أمي لتمد البربيج وتسقي أشجارها المدللة، ونباتاتها النامية في علب حليبنا و تنكات الزيت المستهلكة في العام الماضي، هذه الجلبة المفاجئة تربك شقيقي الذي كان يمارس العادة السرية علي ما يبدو، فيتقلب بعنف، ويتأفف بلوعة.

لكنه ليس نفسه،
الحزين الذي وصل حين كان الإسفلت طازجاً، علي الشارع المستحدث بين البيوت المصنفة من الفئة ب ـ الأمر الذي يعني أن نجتث بعض الزيزفونات لنمد أمتارا من الباطون، ونبتاع باباً مستطيلاً من الألمنيوم انقطع بنصر شقيقي برتاجه الحاد، لم تكن فكرة الكراج سيئة جداً، فقد تسني لنا أن نرسم مربعات الحجلة باستقامة أكثر ـ
ما زال حذاؤه في السقيفة ملطخاً بالقطران بعد كل هذه السنوات، ساخناً تفوح منه رائحة الغياب، والشمس الحامية لظهيرة آبية من الثمانينات، حين درجت موضة الكتافيات العريضة، فتبدو خالتي القادمة من بعيد فزاعة ترتدي جاكيتاً رمادياً، منقوشاً بكمية مدهشة من أزهار معملقة، لم يخلق في حجمها قط.

ليس نفسه،
حائراً صادفته في طريق مجنحة بالسراخس خلف البناء، حيث عاش أبي في شبابه.
قال إنه يختنق فعلّمته كيف يبكي،
بكاء عودتني عليه نساء وحيدات تربيت في أحضانهنّ، أمي، أخواتي، عماتي، خالاتي، ثلة من الأرامل والمطلقات والعوانس والدميمات. كن بائسات بحق، لا يشغلهن سوي تأخر الطمث وبضع نكات إباحية يكررنها علي نحو مبكٍ، بينما تلف أصابعهن ورق الدوالي باحتراف، يرمين به محكماً إلي قدر أخذت تصغر عاماً بعد عام، إذ انسحبن من المشهد، واحدة تلو الأخرى.
لم يبق سواي وشقيقتي، تحاول كل منا أن تبقي النار هادئة، تحت قدر اليخنة التي تكفي لشخص واحد علي الأكثر.
وليس نفسه،
مرتبك يتبع بحة الأنثى الواقفة أمام تاجر الكلف والشلحات الموسلين، توتونجيان بائع التتن في صباه، يقول لها إن الجنس تمباك حياته الملفوف بالموسلين الأسود.
لا يخفي استياءه من هذا الحديث العاري بين الأرمني والصبية، المرتبك يبقي دائماً علي الرصيف المحايد بجوار الفتاة، وعندما تستدير نحوه يتذرع بالنظر إلي ملصقات سينما رغدان الإباحية.
لا يعقل أن يكون نفسه،
من يصغرني بعامين ـ وله أخت غير شقيقة عضضتها مرة في مؤخرتها، فعاقبتني أمي بأن أوثقتني في مخزن العتق ليلة كاملة مصغية لصراخي يختلط بنباح الكلاب ـ
أصغرنا وأكثرنا صمتاً، عندما التقط لنا السائح صورة تذكارية إذ اصطحبناه إلي المدرج الروماني، جلس مقرفصاً، مرخياً يده علي ركبته كإشارب أنثوي متهدل. فاقتربت منه وقاسمته سيجارة ميركوري كان يدخنها باستهتار.
لكنه ليس نفسه،
ينال الذي اعتصرناه بيننا،
ـ وقت اختبأنا، نحن الفتيات الخمس، وكنت أكثرهن بشاعة، في زقاق بين العطّار والفرن القديم، وقد ابتلت ملابسنا بالكامل فالتصقت التنانير بأجسادنا اليافعة، وتبادلنا نظرات ساكتة ثم انخرطنا في ضحك ماطر تحت شتوة أيلول التي بللت ذيل الصيف، فانتفض هارباً كقط بريّ ـ
رغم أنهن تحرشن بكامل أعضائه، لكني وحدي، حظيت بقبلة من فمه القرمزي الشركسي. ذلك أن نظرة قديمة ظلت بيننا.

وليس نفسه،
السادن الذي استغفلته أميرة،
ـ لها شكلي ومزاجي من حدة الطبع وفوبيا الغيم، والتطير من صدف البحر، لكنها في ذلك القرن الغابر صعدت المائة ألف درجة ووجدت نفسها في مكاني بيدين مذعورتين و باغة خالية تماماً للكلاشن الساخن المفرغ للتو بالخطأ ـ
السادن كان قد مات معها طويلاً، صاعداً تلك السلالم خلفها، أمسك اليدين الهستيريتين ومسح الدماء بكمّه عن وجهها بهدوء.

أبداً، ليس نفسه،
الوحي الذي جاء بعد المطر بقليل،
ـ في شتاء ألف وتسعمائة وخمس وتسعين، اقتادتني أمي لتكويني عند الحجاب ـ قالت إن العلل تتكالب علي جسدي، وليس بي مرض سوي أنني أعلم ما لا يعلمون ـ
لم يكن ذا جناحين،
غير أن عباءته زملتني تماماً،
فغبت عن الخلق في ليلكيّ، صار موحشاً وقاتلاً كلما سدرت فيه،
كأن روحاً شيطانية تسلمني إلي أخري.
كأن باطني مختزل في ظاهر الغيب الذي شاهدته في ما مضي،
لكنه ليس نفسه.

ہشاعرة من الأردن،
وهذا جزء من نص طويل بعنوان الميت.

القدس العربي
2006/05/16

نوال العلي، بوح حميمي يأخذ من الشعر تحليقه ومن السرد حجارته

يحيى القيسي
(الأردن)

عرفت الساحة الثقافية الأردنية نوال العلي شاعرة ومترجمة عن الفرنسية والإنجليزية من خلال بعض النصوص التي نشرتها في الصحافة المحلية والعربية خلال السنوات الخمس الأخيرة ، واليوم فإن العلي صحفية أيضا ، لكن كتابها السردي الأول " سيرة النائم : على الجانب الآخر من النهر " الذي نشرته لها وزارة الثقافة بداية العام 2006 بدا مساهما أساسيا في وضع اسمها بقوة ضمن المشهد الأدبي في الأردن ، ومن الواضح أنه يؤشر على موهبة أصيلة وجامحة سيكون لها حضور خاص في المشهد العربي أيضا فيما إذا استمرت في الكتابة بالمستوى نفسه من النضج والتميز الذي قدمته في كتابها الأول .

قدر لي أن أقرأ " سيرة النائم " وهي مخطوطة ، وقد بدت لي العلي وهي تقدم لي كتابها قبل نحو العام والنصف واعية لفعل الكتابة ، ومتوجسة من فعل الإبداع ، ومتواضعة في تقييمها لتجربتها ، لكنها بدت لي أيضا مثقفة وقارئة لا تكاد تقارن بأبناء جيلها الذين يستعجلون الظهور دون سند ثقافي حقيقي واستعداد كاف , وعلى كل حال حسنا فعلت وزارة الثقافة في تبني كتابها الأول ، ومن الجيد أيضا أن تكون العلي قد اقتنعت أخيرا بضرورة إخراج كتابها على الناس دون تردد ، رغم ما يشوب التجربة الأولى عادة من هنات وأخطاء ،ووضوح في الجانب التطهيري للكتابة عبر إشغال حيز كبير للسيرة الذاتية فيها ،وضبابية أحيانا في استيعاب سؤال الكتابة ..!

" سيرة النائم " أو كما رغبت أنا بتسميها " سيرة النائمة " نص سردي أقرب إلى الرواية في التجنيس ، رغم أن الكاتبة نفسها قد وقعت في حيرة التسمية

" لا أعرف ماذا أسمي كتابي:رواية، سيرة، نص، شعر هي نفس الحلقة التي تتدلى من السلسلة وتعلق بكل التفاصيل الثقيلة والخيالات الثمينة.." ص 20

وبغض النظر عن التجنيس فإن الكتابة جاءت على شكل سرد متوهج ظل محافظا على سويته حتى النهاية ، وظل هناك خيط سري يلظم النصوص الواردة في الكتاب لتحافظ على روحها ، ومن الجلي لمن يعرف العلي أن يدرك مقدار غمسها نصوصها

بجزء غير يسير من سيرتها الحياتية الخارجية أو العوالم الداخلية لها ، ولهذا سيكون الكتاب مفهوما بدرجة أكبر لمن اقترب منها ، فثمة الكثير من النصوص والجمل الواردة في الكتاب يبدو المعنى فيها في بطن الشاعر كما يقال ، أي أن المعنى يصل إلى المتلقي بشكل مشوش وسريالي ضمن نص يبدو واقعيا في بعض درجاته بل في منتهى الواقعية أحيانا.

ما يهمني في هذه القراءة أن أحاول التعريف بهذا الجهد وملامحه ،والدخول أيضا إلى بعض أعماقه ،وتبقى مسألة الغوص في تفاصيله التقنية وتحليل خطابه أمرا نعول أن يتنطع إليه الأكاديميون والنقاد المتخصصون ، ولا سيما في ظل حالة نقدية عربية انتقائية غالبا ونائمة عن الكتاب الجدد أيضا . يمكن في " سيرة النائم " المرور على عناصر كثيرة لمناقشتها ، الكتابة عن الكتابة مثلا ، فشخصية الراوية " نوال " تتطابق مع شخصية الكاتبة كاسم وملامح ، و ثمة إشارات كثيرة إلى هذه المسألة ، ففي ص 12 مثلا تقول " سأكتب النص الأكثر طيبة .." ,و في ص 18 " أن أكتب يعني أن يدربني الله على مهارات الخفة " ، ص 56 " تناولت القلم وكتبت " عتبة آب وعتابه " تفوهت بأشياء كثيرة نشرت بعد عام من ذلك الوقت بأخطاء مطبعية عاطفيه .." ولكن الحوار الأبرز في النص عن الكتابة بينها وبين الممثلة ظهر جليا في ص 83 ، 84 " إنني لا أنفصل عن كتابتي أبدا ،أنا أعيشها .." .

ويكمن الإشارة أيضا إلى علاقة راوية النص بالكتب الأخرى التي تستوقفها بين الحين والآخر مثل قصائد درويش ، رواية جورج أورويل 1984 ، الرواية الفلبينية ، وغيرها .

في الجانب الآخر يمكن لقارئ " سيرة النائم " أن ينتبه إلى الشعر الخالص الذي ينتمي لقصيدة النثر في صفحات بعينها ، أو الشعرية العالية في نصوص سردية أخرى ،رغم بعض التمويه الحاصل أحيانا لدى الكاتبة في وضع النصوص على شكل مقاطع سردية تنتمي لما قبلها ، لكنها في الحقيقة منفصلة عنها تماما في صورها المركبة ,ومقدار التخييل فيها ،والغنى بمفرداتها ،ونقرأ من ذلك ص 58

" القارب الذي حللت وثاقه ما هو إلا حياة ولت بغير رجعة / أتذكر يوم تأملتني كمضغة أفسدت الأمر كله / كان الله غاضبا حينها وما كان ليساعدني أبدا / لكننا فجأة استندنا كقتيلين طازجين إلى شجرة لن تخضر أبدا / وبعد خمس دقائق انحدرت السماء بقطعان النعاس ..." .

وربما يأتي هذا الشعر وتلك الشعرية من أثر كتابة العلي أصلا في الشعر ،واقترافها للسرد بعد ذلك ، وعلى أية حال فإن هذه الروح الشعرية المبثوثة في النص تنهض به عاليا ، فيما يتكفل السرد برزانته وثقله في جعل النص لا يطير بعيدا ليتحلل في الهباء...!

المسألة الثالثة التي استوقفتي في النص اللعب على حالتي الصحو والغياب ، الوعي واللاوعي ، الحلم واليقظة ، والتماهي بينهما أحيانا كثيرة ، وهذه الثنائية تندرج أيضا على التناوب بين أكثر من راو ، ولكن الأبرز هنا " نوال والمرأة المجاورة لها ".

إن "الطفلة الأكثر طيبة " قد طعنت في ذاكرتها منذ الصغر على ما يبدو , وتعرضت إلى ما يشبه حكاية ليلى والذئب ( ص 21 ) وهذا الطعن أتى من العالمين الخارجي والباطني ،ولهذا كانت النتيجة امرأة شبه معطوبة في ذاكرتها وبعض حواسها كالشم والذوق ، لقد أفاد الشعر هنا في نقل بعض ما يعجز السرد عن المراوغة به ، فالدلالات المشوشة ، والتي تحتمل معاني ضبابية للمتلقي يمكن للشعر تحمل وزرها أما السرد فلا يقبل غالبا إلا الوضوح ( السرد / الصحو / الواقع ) نقيض ( الشعر / الحلم / المتخيل ) :

" بماذا تفكر الملائكة وهي تريق أوعية من نعاس ووشوشات صغيرة جدا كحبات السمسم؟ لا يمكنني سماعها دون ابتسام، في تلك الحجرة المضاءة بنور ذهبي يتحرك مفتونا بالحراك يبدل ملابسي ويستغرق في حركة ناعمة ومركزة..."

وبالطبع فإن دراسة هذه الحالة من الدخول إلى الباطن تحتاج إلى الكثير من التحليل ،ولا مجال لها هنا ،إن الذهان المرعب الذي سيطر على الطفلة منذ صغرها بسبب تواجد أفاع تلتف عليها في الحمام أو من أثر الكوابيس الليلية جعل الطفلة تهرب من البيت نهارا ومن النوم ليلا ،وفي ظل ضغط خارجي( العائلة ) وداخلي ( تغول العالم الباطني والكوابيس ) في الآن نفسه ،و تعرضت الراوية هنا إلى انهيارات متوالية على الصعيد الجسدي والنفسي بل وأدى ذلك إلى السجن .

والعلي كما يظهر للقارئ عارفة جيدا بعوالمها وهي تؤشر عليها أكثر مما تشرح ، ولقد هالني مثلا عدد الجثث الملقاة بين الصفحات ،وقد رصدت نحو خمس جثث لميتات مرعبة عدا الموت الطبيعي مثل رحيل الأب والجد والأم ، ففي ص 61 هناك "جثة في بيت الدرج " , ص 42 جثة أخ الساردة الطفل وقد اختنقت بفعل الشد عليها أثناء اللعب " ، ص 53 جسد راضي المشنوق تحت شجرة التوت ، ص 91 مقتل شقيقة الساردة بحادث سير فاجع ، هذا عدا عن الجثث التي وجدت في النوم مثل الرجل الذي يقطع حلمات النساء بالسواطير ، وعدا أيضا عن عشرات المفردات مثل القبور ,,الشنق ، الموت ، الظلام وغيرها ، وقد زاد الطين بلة كما يقال بعض الأوصاف والجمل التي تحيل إلى كل ما تعافه النفس مثل : شرب دم الحيض ، القيء ,..الخ , وعلى أية حال فإن " سيرة النائم " يظل غنيا بدلالاته وبالبعد السيكولوجي والميتافيزيقي محمولا على ثقافة كاتبته وخبراتها الغنية في " نهر الحياة والجانب الآخر منه اللامرئي " ،وهو في النهاية من الكتب السردية القليلة التي صدرت مؤخرا في الأردن لكاتبات يمكن للمرء أن يقرأ لهن دون تردد وبعيدا عن النمطية والعادية السائدة .

******

بعد المطر بقليل

نوال العلي
(الأردن)

...
الذي ضل طريقه بين الأشجار الجافة جداً في المنحدر
ليس نفسه،
من أمسكته العجائز في حقول مبطنة بالأشباح والنمل،
وقرقعة علب معدنية معلقة في فراغ بين الثمرة وأختها.

ليس نفسه،
الميت الذي وجدته مختبئاً بين الحشائش الضارة،
وقد دخل عامه الثاني وما زال يحتفظ بخاتم حديدي وثلاثة أرغفة يابسة.
ـ شهدت كل شيء، وأنا جالسة فوق الخزّان كعادتي، أقابل الليل بعد أن تنام عائلتي متدلية من سقف الحلم إلي الخارج.
العسكر يطوقون الموت المهجور، وقد جمعوا الفشك وقطع التنك وبقايا أقمشة طيرتها الريح من المزابل إلي هنا أمام عيني.
تتدفق مياه البلدية إلي الخزان، فأحس بنمنمة لذيذة في قدمي الملمومتين بذراعيّ. أرصد صوت الماء والعتمة، ثم أوقظ أمي لتمد البربيج وتسقي أشجارها المدللة، ونباتاتها النامية في علب حليبنا و تنكات الزيت المستهلكة في العام الماضي، هذه الجلبة المفاجئة تربك شقيقي الذي كان يمارس العادة السرية علي ما يبدو، فيتقلب بعنف، ويتأفف بلوعة.

لكنه ليس نفسه،
الحزين الذي وصل حين كان الإسفلت طازجاً، علي الشارع المستحدث بين البيوت المصنفة من الفئة ب ـ الأمر الذي يعني أن نجتث بعض الزيزفونات لنمد أمتارا من الباطون، ونبتاع باباً مستطيلاً من الألمنيوم انقطع بنصر شقيقي برتاجه الحاد، لم تكن فكرة الكراج سيئة جداً، فقد تسني لنا أن نرسم مربعات الحجلة باستقامة أكثر ـ
ما زال حذاؤه في السقيفة ملطخاً بالقطران بعد كل هذه السنوات، ساخناً تفوح منه رائحة الغياب، والشمس الحامية لظهيرة آبية من الثمانينات، حين درجت موضة الكتافيات العريضة، فتبدو خالتي القادمة من بعيد فزاعة ترتدي جاكيتاً رمادياً، منقوشاً بكمية مدهشة من أزهار معملقة، لم يخلق في حجمها قط.

ليس نفسه،
حائراً صادفته في طريق مجنحة بالسراخس خلف البناء، حيث عاش أبي في شبابه.
قال إنه يختنق فعلّمته كيف يبكي،
بكاء عودتني عليه نساء وحيدات تربيت في أحضانهنّ، أمي، أخواتي، عماتي، خالاتي، ثلة من الأرامل والمطلقات والعوانس والدميمات. كن بائسات بحق، لا يشغلهن سوي تأخر الطمث وبضع نكات إباحية يكررنها علي نحو مبكٍ، بينما تلف أصابعهن ورق الدوالي باحتراف، يرمين به محكماً إلي قدر أخذت تصغر عاماً بعد عام، إذ انسحبن من المشهد، واحدة تلو الأخرى.
لم يبق سواي وشقيقتي، تحاول كل منا أن تبقي النار هادئة، تحت قدر اليخنة التي تكفي لشخص واحد علي الأكثر.
وليس نفسه،
مرتبك يتبع بحة الأنثى الواقفة أمام تاجر الكلف والشلحات الموسلين، توتونجيان بائع التتن في صباه، يقول لها إن الجنس تمباك حياته الملفوف بالموسلين الأسود.
لا يخفي استياءه من هذا الحديث العاري بين الأرمني والصبية، المرتبك يبقي دائماً علي الرصيف المحايد بجوار الفتاة، وعندما تستدير نحوه يتذرع بالنظر إلي ملصقات سينما رغدان الإباحية.
لا يعقل أن يكون نفسه،
من يصغرني بعامين ـ وله أخت غير شقيقة عضضتها مرة في مؤخرتها، فعاقبتني أمي بأن أوثقتني في مخزن العتق ليلة كاملة مصغية لصراخي يختلط بنباح الكلاب ـ
أصغرنا وأكثرنا صمتاً، عندما التقط لنا السائح صورة تذكارية إذ اصطحبناه إلي المدرج الروماني، جلس مقرفصاً، مرخياً يده علي ركبته كإشارب أنثوي متهدل. فاقتربت منه وقاسمته سيجارة ميركوري كان يدخنها باستهتار.
لكنه ليس نفسه،
ينال الذي اعتصرناه بيننا،
ـ وقت اختبأنا، نحن الفتيات الخمس، وكنت أكثرهن بشاعة، في زقاق بين العطّار والفرن القديم، وقد ابتلت ملابسنا بالكامل فالتصقت التنانير بأجسادنا اليافعة، وتبادلنا نظرات ساكتة ثم انخرطنا في ضحك ماطر تحت شتوة أيلول التي بللت ذيل الصيف، فانتفض هارباً كقط بريّ ـ
رغم أنهن تحرشن بكامل أعضائه، لكني وحدي، حظيت بقبلة من فمه القرمزي الشركسي. ذلك أن نظرة قديمة ظلت بيننا.

وليس نفسه،
السادن الذي استغفلته أميرة،
ـ لها شكلي ومزاجي من حدة الطبع وفوبيا الغيم، والتطير من صدف البحر، لكنها في ذلك القرن الغابر صعدت المائة ألف درجة ووجدت نفسها في مكاني بيدين مذعورتين و باغة خالية تماماً للكلاشن الساخن المفرغ للتو بالخطأ ـ
السادن كان قد مات معها طويلاً، صاعداً تلك السلالم خلفها، أمسك اليدين الهستيريتين ومسح الدماء بكمّه عن وجهها بهدوء.

أبداً، ليس نفسه،
الوحي الذي جاء بعد المطر بقليل،
ـ في شتاء ألف وتسعمائة وخمس وتسعين، اقتادتني أمي لتكويني عند الحجاب ـ قالت إن العلل تتكالب علي جسدي، وليس بي مرض سوي أنني أعلم ما لا يعلمون ـ
لم يكن ذا جناحين،
غير أن عباءته زملتني تماماً،
فغبت عن الخلق في ليلكيّ، صار موحشاً وقاتلاً كلما سدرت فيه،
كأن روحاً شيطانية تسلمني إلي أخري.
كأن باطني مختزل في ظاهر الغيب الذي شاهدته في ما مضي،
لكنه ليس نفسه.

ہشاعرة من الأردن،
وهذا جزء من نص طويل بعنوان الميت.

القدس العربي
2006/05/16