شادي علاء الدين

جودت فخر الدينيسعى جودت فخر الدين في ديوانه "ليس بعد" الصادر لدى "دار رياض الريس" الى بث روح التأني والتروي في قلب العالم. يريد أن يراقبه من خلال البطء الحامل كل النزوعات الشعرية ولذاذات اللغة وبهجتها. هذا التمهل ليس انسحابا وتراجعا، بل ليعطي الذات فرصة أن تكتشف العناصر الأعمق والأكثر باطنية. ما يظهر على السطح أنه جمود وموت، انما هو مدخل للولوج الى عالم غني بأحوال صاخبة لا يمكن اكتشافها الا بعد فترة تمرس طويلة بالصمت. الكلام الذي لا يطمح أن يكون نشيدا، هو كلام ينجح في التخلص من ارهاب الجموع والحشود ويتجمهر في عناصره وأدواته، مشرّعا الأبواب أمام هدير الهمس. من هنا نزعة الحميمية التي تطغى على أجواء النص وتهبه شفافية عذبة وسلسة. فالشاعر يخاطب ما يعرفه محاولاً اختبار معرفته به في احتكاكها بالكتابة. السري والغامض والشعري يكمن هنا، لأن التواصل مع الواضح والمنكشف لا بد أن يتسبب بأزمة في الكتابة. الحيل التي يلجأ اليها الشاعر للنجاة من المأزق هي عناصر تشكل البنية التي تقوم على أساسها قصائد الديوان. يقع الاغواء في صدمة انغلاق وامتناع تعريف ووصف ما كان يظن انه عار على الدوام وواضح. لا شيء واضحاً، وكل واضح خيانة وتوقف، وكل شيء غامض وعصي على التعريف.

شعر جودت فخر الدين ليس محاولة للتعريف، انه محاولة للاحتكاك بالوضوح المستحيل للأشياء المألوفة والحميمة، والغرق في غموضها واعلان ما يتيسر اعلانه من مكابدات هذا الغوص الشاق.

يقول في "مرثية النهر":
"عالم،/ ليس ينفعه أن يعيش على نفحة من رؤى الأمس،/ أو نفحة من رؤى الغيب،/ لا يستحق خرافاته./ عالم،/ يتخبط في وهج طفرته العارمه./ يستبد بأيامه،/ ويهيج عنيفا بها،/ فيبددها مزقا عائمه./ عالم جانح ومريض/ يهيج فينقبض النهر،/ تنقبض اللغة الواهمه./ عالم، أظلم الوهم فيه،/ تقلّص وجه الصحارى، ووجه المحيطات،/ والخوف ألّف بين الجهات،/ ففي كل جوّ له شهب حائمه./ عالم،/ يستبد، يهيج،/ ولا يستحق خرافاته،/ يتلهف مثل الأسير،/ ويشهق في ليل وحشته الجاثمه". هو "عالم،/ يتهاوى على نفسه،/ عالم،/ ليس ينفعه أن يموت بحسرة أنهاره،/ عالم،/ ليس ينفعه أن يموت ولا أن يعيش".

رثاء النهر هو رثاء لفكرة التدفق والجريان والجموح، لذا فإن العالم الذي احرق انهاره أو جمدها وأغلق على معناها وحضورها وصفاتها، هو عالم يقع خارج الوصف. هو عالم لا يملك تاريخا ولا حاضرا ولا مستقبلا. عالم لا يستحق خرافاته لان الخرافات جزء من النهر، اي من حالة الحراك التي يسعى الانسان من خلالها الى قراءة عالمه. عندما يموت النهر أو يُقتَل، تصبح تلك الخرافات ممتنعة ولا يستحقها العالم. لا ينسى الشاعر الاشارة الى حالة فقدان الهوية وحالة الالتباس التي يتخبط فيها هذا الوجود المفتقر الى الانهار. الخوف يوحد الجهات، وتاليا ما يأتي من جهة الخوف هو النقيض النهائي للجرأة والتوثب والطموح والتفكير، وللعناصر التي تقوم عليها الكتابة الشعرية. من هنا نستطيع الامساك بالبنية الترميزية للنهر الذي يمثل الكتابة. يتوجه الرثاء الى الكتابة التي لا يستطيع هذا الوجود احتمالها او حتى المحافظة على ما يسمح لها بالوجود. انها اذاً مرثية الشعر. لذا فإن العالم الذي يقتل انهار الكتابة، يستحق الاقامة الدائمة في حالة العذاب الابدية، خارج الحياة والموت .

قصيدة "انه الشاعر... اذا غاب"، تفتح الأسئلة عن علاقة الشاعر بالتراث والحداثة، ثم تخلص الى نتيجة مفادها أن الشاعر مطارد حثيث للرعشات الهاربة. يقول فخر الدين في مقطع القصيدة الرابع: "أطلق الشاعر ساقيه لريح من رياح الأمس،/ فاهتاجت به، وانكسرت فوق الجبال./ أطلق الشاعر ساقيه لريح من رياح الغد،/ فاهتاجت به، وانكسرت فوق الجبال./ كيف للشاعر أن يلوي أعناق الأعاصير التي/ هبّت عليه من جهات الأرض، لا يدري أعصفٌ – ربما يغويه-/ يأتي من جنوب أو شمال؟/ كيف يطوي لجة العصر الذي/ ينشر أثواب الأساطير ويطويها/ كما الساحر يطوي كلّ وجه من وجوه الاحتفال". ثم يقول في ختام المقطع الأخير: "ماذا يرقب الشاعر في المقهى؟/ أمام البحر،/ في يوم ربيعي/ له فتنة موت عابر/ فتنة طير راح ينأى/ ثم ينأى ثم ينأى/ ثم لا حجم، ولا شكل/ ولكن رعشة تنأى/ على الأفق البعيد".

يجد الشاعر نفسه محاصرا برياح التأثير التي تهاجمه من الماضي ومن المستقبل، اضافة الى مؤثرات الحاضر البارع في صناعة الاساطير واستعمالها. اللافت أن فخر الدين يستعمل مفهوم الأساطير بدلالة سلبية فكأنه يسعى الى التوكيد أن المسميات التي أطلقت سابقا على مثل هذا المفهوم مرتبطة بنزوع فكري وفلسفي مكثف وعميق، ولذا كان مدلولها مختلفا. اللحظة الميتة التي يفرزها الحاضر لا تكشف عن مثل ذلك النزوع. من هنا يظهر التوظيف السلبي لمفردة الاسطورة في وصفه احتجاجا على افقاد الاشياء معانيها. الاسطورة إنتاج حضارة كاملة وليس ثمة مؤلف واحد لها، وهذا ما كان يصنع اهميتها وشموليتها. اسطورة اليوم يصنعها عصر الاشخاص لا الشعوب، وهذا العصر لا يردد في صناعته لاساطيره أصداء ما يجيش في نفوس الناس من أفكار ومشاعر بل يكتفي برسم صورة لأفراد معينين وأسطرتهم. هكذا تتحول السطورة الى أكذوبة وتفقد ماهيتها وفاعليتها.

ما الذي يستطيع الشاعر فعله للخروج من وضعية المتأثر والمستعيد والمكرر؟ يأتي جواب القصيدة عن هذا السؤال بسيطا وحاسما. لا نجاة للشاعر الا بالتخلص من الحجم والشكل، ومن أفكار الريادة والأسبقية وصناعة مدرسة ما، والتحول الى رعشة تتكثف في الغياب، حيث يتحول الشاعر والشعر الى ظلال طفيفة لمرور خافت وحريص على عدم اثارة أي ضجة .


إقرأ أيضاً: