عمر كوش

أنسي الحاجيقتفي عبد الكريم حسن أثر الدلالة وآليات إنتاجها في قصيدة النثر من خلال دراسة نقدية لبعض قصائد الشاعر أنسي الحاج، وذلك في كتابه «قصيدة النثر وإنتاج الدلالة»، (دار الساقي، 2008)، حيث يختار قصائد عديدة تنتمي إلى أربع مجموعات شعرية، هي: مجموعة «لن»، ومجموعة «ماضي الأيام الآتية»، ومجموعة «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، ومجموعة «الوليمة»، مركزاً بشكل خاص على قصائد مجموعة «لن»، نظراً لكونها المجموعة الأولى التي أصدرها أنسي الحاج، بل الأولى في تاريخ قصيدة النثر العربية حسب زعمه.

ويعلل الناقد اختياره قصائد أنسي الحاج بالاستناد إلى ما كتبه أدونيس عنه، بصفته أول من كتب قصيدة النثر العربية، «وفقاً للمقاييس الفرنسية»، و»الأنقى شعرياً بين شعراء مجلة «شعر». ثم يصف النهج الذي اتخذه في الولوج إلى قصائد الشاعر بالقول إنه «نهج يسكن إليه جنون القصيدة، يسافر في حلمها، يمسك بخيوط هذيانها، يسيطر على فورانها، حتى تستقر بين يديه بنية ترتد إليها». وما يهمه هو تقديم «قراءة لشعر عصي على القراءة، شعر متمرد على الشعر، وشعر يستفز النقد إلى مواجهة لن يكون الهرب منها إلا هزيمة للنقد والحياة».

غير أن إنتاج الدلالة يتوزع ثانياً في مباحث الفصل الأول من الكتاب، حيث نجد: البؤرة وإنتاج الدلالة، الغروتيسك وإنتاج الدلالة، الصورة وإنتاج الدلالة، الصورة وإنتاج الدلالة، السجل وإنتاج الدلالة، التعشيق وإنتاج الدلالة، النحو وإنتاج الدلالة، الأسطورة وإنتاج الدلالة، البناء وإنتاج الدلالة، والتداعي وإنتاج الدلالة. لكنه يأخذ الأولية في مباحث الفصل الثاني منه، من خلال: الدلالة والدرس النحوي، والدلالة بين صورة المجاز ومجاز الصورة، والدلالة والبؤرة الدلالية، والدلالة بين اللاهوت والفلسفة وهذا «الغروتيسك». فيما تتمحور أقسام الكتاب كلها حول مفهوم إنتاج الدلالة، فتأتي في سياق النحو، مثلاً، أو الصورة، أو الأسطورة، أو البناء، وسوى ذلك.

ويرى الناقد أن الكلمات في لغة الشعر تلتقي بشكل غير مألوف، بوصفها كائنات بعيدة عن بعضها البعض، وغريبة كذلك، ولكنها كائنات سرعان ما تتعارف وتلتقي في صورة. فالصورة الشعرية هي قوام الشعر، ولا تصور للشعر من دون صورة، على أن لا يعني ذلك أن تكون الصورة على مثال، أي أن تقيسها استعارة أو يحدها تشبيه، أو تتخطفها كناية. إنها يمكن أن تكون كل ذلك أو بعضه، وأن تنسل منه أو ترتد إليه، ولكنها تبقى بكراً.

وتبدأ الدلالة بالانكشاف من الكلمات المفتاحية أو الجمل المفتاحية، كما تبدأ آلية إنتاجها. وقد تظهر هذه الآلية في أكثر مناطق الدلالة احتجاجاً على نحو بالغ الدقة والتعقيد. ففي بدء قصيدة «رحلة تفقّد» صورة غريبة ترسم المجرد بالمحسوس، ويضيع القارئ معها وتضيع فيها الدلالة، لكن القارئ يخرج من الضياع كلما تقدم إلى الأمام، حيث الضوء الصغير الذي يسبقه في تقدمه، يعود إلى الوراء من أجل أن يضيء عتمة الفضاء السابق. والخلاصة المستفادة من ذلك هو أن إيقاع القصيدة المدروسة هو إيقاع الانتشار، فتنشئ كل صورة جديدة دلالة جديدة، وتنتشر الدلالة في فضاء دائري يبلغ منتهاه في محاكاة ساخرة.

ويرى الناقد أن قصيدة «عملي» تقف شاهداً على تفتح الدلالة بين أحضان النحو، حيث يلعب النحو دور الحامل، والدلالة دور المحمول، وكلما تعددت إمكانيات القراءة النحوية، تعددت إمكانيات القراءة الدلالية، لأن النص مفتوح نحوياً ومفتوح دلالياً. ويؤكد أن ما نسميه تارة استعارة، وأخرى صورة، وثالثة مجازاً أو فيض معنى، ليس إلا تجليات لعلاقة واحدة هي علاقة الانزياح عن البنية النحوية العميقة، وكل انزياح في البنية النحوية يفضي إلى انزياح في الدلالة تنتج منه دلالة جديدة. والخلفية التي يرتكز إليها هي أن تأسيس الدلالة على الدرس النحوي هو القاعدة الأشد رسوخاً في كل ما له صلة في لغة الإبداع، بمعنى أن النحو هو المحدد للدلالة، يوجهها، ويحدد مساراتها وأبعادها. والنحو هو هذه القنوات التي تتنفس من خلالها الدلالة، فإذا كانت القنوات مريضة أو معطوبة، ضاعت الدلالة، وفقدت مقومات الحياة.

ويعترف الناقد بأن في الشعر العربي توظيفا جميلا متنوعا طريفا للأسطورة، ولكنه يرى أن أنسي الحاج لا يرضيه أن يجري على هذا المسار، فاتخذ لنفسه مساراً آخر تحرر فيه من غواية الديمومة، وحرّر الأسطورة من عبودية الكمال. والخلفية التي ينطلق منها هي اعتبار القصيدة سفرا في الأسطورة، كلاّ مستقبلا فيه يشدّ إلى ماضيه، وكل اندفاعة إلى الأمام انعطافة إلى الوراء؛ خطوة تتقدم خطوة تثني، في النص كما في الفهم، تلك الغواية التي تبدأ من أحضانها غواية الكتابة. وفي كل ذلك يلجأ إلى قراءة الشعري في ضوء الأسطوري، متخذاً من قصيدة أنسي الحاج «زوس» حقلاً لهذه القراءة التي ترى فيها تقنية النقل بالمعنى المعجمي للكلمة، من حيث أن الشاعر قام بنقل أسطورة »زوس« و »داناي« من سياقها الأسطوري إلى سياق شعري، فاكتسبت معه دلالات جديدة. وأفضت إلى تفريغ كل دال أسطوري من مدلوله الذي كان يحمله ليمتلئ بمدلول جديد يحدده السياق الشعري، باعتبار كليهما يتحول إلى مجرد دال يكتسب مدلوله في القصيدة. وتتحول أساليب «زوس»، كما تتحول على غرارها أساليب الشاعر، أي يتحول الشعري على غرار الأسطوري.

ويجد الناقد قصيدة «فردة حذائها» مثل «أكورديون» ينفتح وينغلق» ليشف في انفتاحه وانغلاقه عن مستوى نحوي كثيف الدلالة والتركيب، إذ ينهض المستوى النحوي للقصيدة على ظاهرة التثليث في بناءين؛ بناء أول، وبناء نظر، يفضي التقاؤهما إلى البنية الكلية للقصيدة. لكنه يدفع بمسألة البنية الإيقاعية، التي تفضي إلى القول الشعري ومسألة التكامل والوحدة، ومركبات البنية الإيقاعية على جمل كبرى تنطوي على عدد من الجمل الصغرى، حيث تتنفس في الجمل الصغرى العلاقة النحوية من احتمالي التقرير والاستفهام، استناداً إلى قراءة حركة الضمائر الموزعة.

منطق اللغة
غير أن البحث عن منطق للغة أو فيها، وهي في فورة جنونها هو بحثٌ عن اللغة في تشكلها الأول، في عقلها البدائي، وفي انبثاقها عارية من السديم. مع أنه بحث ميتافيزيقي، يغرق في التقابل والأولويات، وتظهر معه مستويات يغيب فيها العَجْمُ عن الحروف وتغيب العلامات الإعرابية عن الكلمات وعلامات الترقيم، ومستويات أخرى تجد فيها الصياغة راغمةً للقواعد وخارجة عن الأصول، ومستويات يبدو فيها التجريب الذي لا ينتهك النحو بل ينهكه ويستنفد القاعدة. وحين يتم استنفاد القاعدة إلى أقصى حد ممكن، يستجيب النحو لنظام إنتاج الدلالة في القصيدة، ويتحرك الإيقاع بفعل ضمائر غائبة أو حاضرة.

الإيقاع
وبصدد مسألة الإيقاع في قصيدة النثر، يرى الناقد أن الشاعر «ينظم»، لكنه يترك الأوزان لأشداء القلوب، بمعنى أنه ينظم الشعر ولكن بشعر غير منظوم. ويعتبر أن ما سمي «الإيقاع الداخلي» لقصيدة النثر أضحى عبارة ممجوجة ومطروقة حتى الابتذال، وتتثاءب فيه مصطلحات التكرار والتوازن والدوران والتناظر والتقابل، وتتجاوب معها مصطلحات الجناس والبياضات والفراغات، وكلها مظاهر سمعية بصرية بامتياز، الأمر الذي دفعه إلى تفضيل واجتراح مصطلح «الإيقاع الخفي»، الذي يبحث عنه في إيقاع البنية النحوية وإيقاع الضمائر وإيقاع الدلالة. وفي المحصلة تنتظم الصور والمدلولات في إيقاع قصيدة النثر، بوصفه إيقاعا لا يصل إلى من يغلق عليه مسامه، ويصل إلى كل من يريد الإصغاء إليه. تظهر قصيدة النثر في مجمل الكتاب على أنها نثر وشعر في آن واحد، وهي ليست القصيدة التي تكتب بالنثر، ولا القصيدة التي تمتح من النثر، إنما القصيدة التي تفرط حبات عقدها، أو ما كان يمكن أن يكون عقدها. بمعنى هي القصيدة التي تنثر عناصرها كما اليد تنثر الحبّ في الأرض، لا كما ينتظم «القصيد» في خيط متعارف عليه. وتجد قصيدة النثر جذرها اللغوي في القصد، وحمولتها الأساسية الشعر، ويجسدها ذلك الذي نقصد إليه في كتابتنا أو نتوجه إليه.

السفير
18 يناير 2008