رامي الأمين
(لبنان)

غسان جواد صادم. هكذا يمكن اختصار نصّ غسان جواد. كأنما الأشياء كلها تحدث فجأة. إنه شعر السؤال من غير علامة استفهام. شعر التعجّب، بلا علامة تعجّب. شعر صادم، هكذا وببساطة يكتبه الشاعر اللبناني غسان جواد في ديوانه الجديد الصادر لدى دار «النهضة العربية» تحت عنوان «ضوءٌ بين حياتين». لأن الصدمة تصنع الشعر، الصدمة التي كمصباح تضيء في الرأس. كفكرة تنخر الدماغ.

يضع نفسه وقارئه وأشياءه ومحيطه أمام هذه الأسئلة، التي على البداهة التي تعلنها، تنطوي على احتيال كبير وذكاء لا مثيل له: «لا تتحدثي عن تسريحة شعري/ فكري فقط/ لماذا حين أستيقظ لا أقول شيئاً»، أو أن يقول في مكان آخر، في قصيدة بعنوان «كما ساعة الرمل»: «كثيرة هي الأشياء عندما نهملها/.../ أن نشاهد لوحة ونصمت/ أن نعلق في المصعد/ أن نضع قدماً على قدم/ أن نتنهد». هكذا يمكن أن يقول الكثير بقليل الكلام، أو بالصمت، أو بالتنهدات والأشياء المهملة. الصمت ليس شيئاً مهملاً في نص غسان جواد. إنه مادة أساسية للتعبير والتصريح والقول. غالباً ما يشبه نفسه بأشياء صامتة. يستمد صفاته من الجماد: «كئيب مثل أشجار في جبالٍ بعيدة/ كمبان يرممونها عنوة/ وليس في وسعها السقوط».

يستطيع أن يصدم بالكلمات كما لو أنها صدمات كهربائية في غرفة إنعاش طبيّ. يصدم فيعود النبض إلى قلب القصيدة بعدما تمرّ بلا تنفس أو نأمة. ثم إنه يرى الأشياء معتمة، لذا يدخل ضوءاً في معظم قصائده. ينير القصائد بالضوء، خافتاً تارة، ومتوهجاً طوراً: «البدايات مشتعلة/ أنهار مشتعلة على اليدين»، أو «كما تتخفف روحٌ فتهزل وتذوي وتختفي/ وتضيء»، «رويداً يصبح كل شيء حولنا مرئياً/ الناس أوضح من المذنّبات»، أو «عيناكِ تتوقفان في عينيّ/ كما يتوقف الضوء على وجه نائم».

لاحظوا الضوء هنا. لاحظوا كيف يسلّط بقعة الضوء على بطل المشهد. كيف يصنع من الإضاءة عنصراً شعرياً وحياتياً، كيف يسند الضوء إلى الوجود، والعتمة إلى العدم. كيف أن الضوء نوماً يصير، والموت لا يقيم إلا في العتمة: «الرئتان تستعدان لنوم دائم في العتمة/ لإقامة طويلة في الدخان». وكيف أن لمعة الضوء تشبه عند الشاعر انقطاع العالم وعودته.

إلى الصدم، يعرف غسان جواد كيف يجرح. أو لنقل إنه يعرف كيف يحكّ المشاعر من الداخل بأدوات حادة. شعره أحياناً يحفر عميقاً في الروح، كما يحفر السجين نفق هروبه بملعقة أو بمقص أظافر. بأدوات صغيرة وضئيلة وبجهد كثير يفتح سردابه المعتم نحو الضوء الأخير، نحو الحرية العذبة التي يشتهيها: «تذكرت ما حدث وما لم يحدث/ وكيف حلمت يوماً أني ظلال حديقة». يعبّر عن نقصه، عن حلمه، ويبحث عن عتمته السرمدية، عن القبور التي هي «أن ننسى/ وأن نكتفي بما تبقى من ريق في أفواهنا». العتمة إذاً هي النسيان، لذا ينشدها. ويبحث عنها في كل مكان.

الحبّ عنده نقص. الحب هو نصف القلب كما يقول، نصف الوحدة: «أعود إلى البيت/ في داخلي فكرة وحيدة/ خوف وحيد/ وهمّ وحيد/ وقلب أحتفظ بنصفه/ بعد أن قال الجميع إنك جميلة». يعلن حاجته للأسئلة، لـ «أمنيات ضخمة تفتح/ وأبواب ضخمة تقفل». يقايض في نصه ما يريد بما يستطيع أن يعطي. يبادل تفتّح الأمنيات بإقفال الأبواب. وهي هنا مجرد أبواب، لا نعرف ما وراءها، ولا ندري إلى أين تفضي. ربما هي أبواب لا تفضي إلى شيء البتة. والأرجح قد تكون كذلك، ولهذا السبب يطلب إقفالها، ليفتح في مقابلها أمنياته الضخمة.
«ضوء بين حياتين». نعم، لكنه ضوء بين حياتين مضاءتين. ضوء يعرف كيف يميّز نفسه، ضوء كفلاش كاميرا، حيث «ينقطع العالم ويعود».

الحياة
13/01/2008