تتسرّب من شقوق الكتابة

حسين بن حمزة

مبارك وسّاطمبارك وساط مقلٌّ ومتأخّر في نشر شعره. كل الذين يعرفون هذا الشاعر المغربي يلصقون به هاتين الصفتين. السبب بسيط. إذا وضعنا جانباً فكرة التأخّر في النشر، فإن أي شاعر يكتب شعراً كالذي يكتبه وساط سيكون مبرراً له أن يكون مقلاً بطريقة ما. شعر يكاد يكون منجزاً بقوّة الكثافة وحدها. شعر يسعى إلى أن يكون في أشد حالات الشعر صفاءً وانتماءً إلى الشعر. الكثافة في هذا الشعر هي نتاج حساسيّة تمزج بين الشعر والفلسفة. التفلسف، بدوره، مجلوب من مخيلة شخصية مفتوحة على تداعيات بلا ضوابط مسبقة. ثمة سريالية ما بعد حديثة ينجح الشاعر في دسّ التماعاتها المدهشة داخل قصيدته. شعر بهذه الصفات، هل يحتاج إلى أن يكون كثيراً؟

في مجموعته «فراشة من هيدروجين» (دار النهضة)، وهي الرابعة له بعد «على درج المياه العميقة» و«محفوفاً بأرخبيلات» و«راية الهواء»، يكتب وساط ما هو يومي وذاتي وتفصيلي. إنه بطل قصيدته الأوحد تقريباً. اليومي والذاتي والتفصيلي يسود أغلب ما يُكتب من شعر عربي اليوم. لكنّ تفلسف مبارك وسرياليته العذبة يحجزان له بقعة مختلفة داخل المشهد الشعري العام. الشعر هنا لا يقوم على الخفة واستدراج الحياة اليومية ونثرياتها إلى القصيدة، وسوى ذلك مما بات روتيناً مضجراً لغالبية الشعراء الشبان المقبلين بشراهة على قصيدة النثر. شغل مبارك وساط أثقل وأكثف وأعمق من الوصفة التقليدية الجاهزة لهذا الشعر. يُقال عن بعض الشعراء إن لديهم «عالماً» أو «مناخاً» شعرياً. مبارك وساط واحد من هؤلاء، رغم كونه أصغر سناً، وأقل إنتاجاً، من أصحاب العوالم الذين يتواطأ بعض النقاد على حصرها بالشعراء «الكبار» وتلزيمها لهم. في القصيدة الأولى، يكشف الشاعر عن بعض أسرار مهنته، ويروي تفسيراً لا يخلو من طرافة لميله إلى النثر: «كنت على وشك الغرق في البحر البسيط/ حين أنقذني بحّارة عروضيون/ ..../ لقد حُكم عليّ بالتسكع/ فبيتي الشعري/ قد جرفته الأمواج/ وعليّ بمساعدة نموري/ أن أبنيه/ ثانيةً».

بداية مغرية كهذه لن تمهل القارئ على الشاطئ طويلاً، بل سرعان ما تدفعه إلى «الغرق» في أحشاء تلك الكتابة وطبقاتها وشقوقها الداخلية. القارئ يَعِدُ نفسه بالمزيد، والشاعر لا يخيب رجاءه. لا نحتاج إلى البحث والتنقيب كي نعثر على سطر مميز أو صورة شعرية مدهشة. الشعر الحقيقي متاح بوفرة حتى حين نقلب صفحات المجموعة عشوائياً. نفتح الصفحة 36 ونقرأ: «قم لتكون حاضراً للاستقبال/ قال أبي/ ذلك أن أحد أسلافنا/ قد أبحر/ من ميناء الموتى». وفي الصفحة 38 نقرأ: «صمتي جبل/ مكسوّ بالجليد/ فما عليَّ إلا أن أمسك عن الكلام/ لأتزلَّج وأنتشي». وفي الصفحة 74: «رجل مفتول العضلات/ يستطيع أن يلاكم الزبد/ مع هذا، جِدُّ رقيق/ رأى يدي الفجر تُقطعان/ فأجهش بالبكاء/ ومن دموعه/ تكوّنت اليدان مجدداً».

18-6-2008