نصوصٌ مينيمالية تحتفل بالحياة وترقى فوق عنف الواقع اليومي

انطوان جوكي
(باريس)

كريستيان بوبانعلى الرغم من قيمة كتاباته الأكيدة وشهرته في موطنه، يحتل الشاعر الفرنسي كريستيان بوبان موقعاً هامشياً وغير مهم في الساحة الشعرية الباريسية. ويعود ذلك إلى جملة أسبابٍ، منها الطابع الروحاني الحاضر في نصوصه والمرفوض منذ فترةٍ طويلة، بدون عذرٍ مقنِع، من قبل شعراء ونقّاد الساحة المذكورة، وقصائده القليلة، وفق اعتبار منتقديه، مع أن كتاباته الغزيرة، وإن يصعب تصنيفها أدبياً، تنخرط بمعظمها داخل سياقٍ شعري أكيد، ولكن خصوصاً عدم مبالاته، طوال مساره الكتابي، بأي محيط أدبي وهروبه الثابت من الأضواء والتجمّعات والمواقع للانخراط في زمن الحياة نفسه ولفضيلة الصمت على الضوضاء. صمتٌ خصص سني عمره وأعماله لاستكشافه، إضافةً إلى مواضيع أخرى، كالفراغ والطبيعة، والطفولة و"الأشياء الصغيرة"، على حد قوله، والوِحدة التي اختبرها وعرفها جيداً، خصوصاً بعد وفاة حبيبته المفاجئ، عام 1995. مأساة روى نتائجها المؤلمة والمنوِّرة في كتابه الرائع 7-7-الأكثر من حيّة7-7- (1996).

أستاذ مادّة الفلسفة، ثم ممرَّض في مستشفى للأمراض العقلية، لفت بوبان أنظار النقّاد لأوّل مرّة عام 1985، لدى صدور ديوانه "سيادة الفراغ". لكن ظاهرته ستنطلق على أثر صدور البحث المؤثّر الذي وضعه عام 1993 حول حياة القديس فرانسوا الأسّيزي كإنسان، بغض النظر عن قدسيته. ومثل هذا الأخير، سيتجلى بوبان بسرعة ككاتبٍ مثير ومميز في إيمانه الوضيع والثوري معاً، لا يقيم اعتباراً للتاريخ ولا للاقتصاد ولا للسياسة ولا لأي من تلك الكلمات الأكاديمية الكبيرة، كالدولة والكنيسة، التي تعلم كتابة حرف البداية في كل منها بشكلٍ كبير داخل اللغات اللاتينية، بينما تحمل، بالنسبة إليه، قيمةً أقل من كلماتٍ صغيرة، مثل ثوب، شجرة، بشرة، صباح، مطر...

نعم، بوبان هو إنسانٌ مؤمن. لكن إيمانه يقوم بشكلٍ رئيسي على الحب كمفتاح للحياة وكقلب الحياة النابض نفسه. وكعشيق ثابت ووفي لهذه الأخيرة، عرف كيف يُكامِل ابتهاجه وحمى مشاعره بالهدوء والصبرٍ والصمت والفراغ، وكيف يبلغ ذلك الفيض المضيء، حتى داخل حالات الغياب والشك الرمادية، وذلك بدقةٍ ومهارةٍ تجعل القارىء يرتعش طويلاً بعد قراءته.

ومنذ نصوصه الأولى، تتميّز كتابة بوبان بإيجازها وبأسلوبها الذي يقع غالباً عند تقاطع قصيدة النثر والرواية ودفتر اليوميات. لكن السهولة التي يشعرها في أسلوب "المقطع" (fragment))، لم تمنعه من وضع نصوصٍ طويلة ومتماسكة. إنها كتابة مينيمالية عموماً مكوّنة من مشاهد صغيرة تمثِّل لحظةً أو تأمّلاً ما وتتألّف من كلماتٍ بسيطة يتمكن الشاعر بواسطتها من إحلال مناخٍ هادئٍ وصافٍ بعيداً عن عنف الواقع اليومي.

النصوص المترجمة هنا مستقاة من مجلّده الصادر حديثاً لدى دار "غاليمار" الباريسية (سلسلة "شعر")، والذي يضم ست دواوين شعرية له صدرت بين عامَي 1991 و2002، هي: "الوجه الآخر" (1991)، "الرسالة الأرجوانية" (1994)، "موزار والمطر" (1997)، "البهلوان" (1998)، "الحضور الصافي" (1999)، و"المسيح بين زهور الخشخاش" (2002).

***

في ديارنا، كلمة "حب" لا تقال. ترتجف، ترتعد، تطير، تحلّق، إنها في أي مكانٍ داخل الهواء _ لكن لا أحد يتفوّه بها.

في ديارنا، الكلمة ليست كما في دياركم، جزءاً من العالم، جزيرة مهجورة في محيط الصمت. في ديارنا، الكلمة هي أكثر من العالم وأكثر من السماء والشمس. إنها كقطعة صغيرة من الله، عالقة بين الأسنان. لا يمكن إخراجها إلا بحذر، وفقط خلال المناسبات الكبيرة.
حين يُصاب أحد منا بالسُقام، يذهب إلى صديقه، أي إلى أول شخص يلتقي به، لأن الجميع هنا هم أخوة وأخوات. يجلب معه كرسي من قش. يجلس قرب أخيه أو أخته، يبقى هنا بدون أن ينطق بكلمة خلال نهارٍ، خلال ليلةٍ، خلال شمسٍ ثم شمسٍ أخرى حتى يخرج السُقام منه. عندها يقف، يلتقط كرسيه ويقفل عائداً إلى أشغاله.

كلمة "حب"، يجب حصول حدثٍ مهم جداً كي ترد مرّة واحدة على شفاهنا ـ وهذا لا يُنبئ بشيءٍ طيّب.

بعض العلماء كتبوا أن كلّما قلّ استخدام كلمةٍ ما كلّما كان وقعها أقوى، لأن "ما لا يمكنه الرقص على حافة الشفاه يعلو صراخه في أعماق النفس" ربما.

رجال دين كتبوا أيضاً أن الصمت الذي ترقد فيه كلمة "حب" هو داخلنا كأطلال فردوسٍ، كأثرٍ على ذلك الزمن الذي كانت الأشياء فيه تشعّ لأنها لم تكن تحمل أسماءً بعد، لأنه لم يكن أي أسم يظلل ألقها.
ربما.
كتب شاعرٌ: مَن ينادي حبّه يتحضّر لقتله.

ربما، ربما، ربما. نحن موافقون على هذه النظريات ونستقبل بطيبة خاطر نقائضها. نحن أشخاصٌ جدّ متساهلون مع الأفكار. نرتّبها داخل الكتب، ونرتّب الكتب داخل مكتباتنا. لا نعير كل اهتمامنا إلا للحياة، لعصفور الحياة الجميل. الأفكار لا تزعجنا أكثر من الطيور المحنّطة. نترك أولئك الذين يرغبون في تجميعها أحرار. إنه هوَسٌ بريء.
طبعاً كتبنا كثيراً، وأمطرنا بكلمة "حب" الورق الأبيض الناعم. طبعاً. الكتابة غير القول، كما تعرفون.

كان ذلك منذ زمنٍ بعيد. سيلٌ من الكتب. طوفان حقيقي.

منذ تلك الفترة توقّفنا. منذ تلك الفترة فهمنا: تتطلّب كتابة كلمة 7-7-حب7-7- جيّداً حبراً أكثر مما هو متوفّر في العالم.

لا يوجد سجون عندنا. ومثلكم، عندنا مجرمون. ليسوا كثيرين، لكنهم هنا. ولا سجن إطلاقاً.

الحجارة التي تغطي طرقاتنا في أمان. تعرف أننا أبداً لن نهينها برصّها، الواحد على الآخر، داخل جدران عالية، كي نفصل الليل عن النهار، الإنسان عن أخيه.

أراكم تبتسمون. إنها ابتسامة من يعتقد أنه سمع جيداً في حين أنه لم يسمع أي شيء. تتساءلون ماذا نفعل بمجرمينا. بما أننا لا نسجنهم.
لسنا حمقى، نعرف أنه لا يمكن أن ينام النمر والحَمَل في المرج ذاته. السؤال ليس هنا. فمن طبيعة النمر أن يكون نمراً، ومن طبيعة الحَمَل أن يكون حَمَلاً. لكن ليس من طبيعة الإنسان أن يكون مجرماً.
مَن يُقدِم على القتل هو سلفاً ميّت. القاتل يقتل لإصابته بنقصٍ في الهواء.
مَن يزرع الشر نسمّيه "مصاب بضيق تنفّس".

كل شيء عندنا هو تنفّس، ذهابُ وإيابُ الهواء في الحنجرة، الله في الهواء، العالم في الله، تبادلات لا تنقطع، موجات مستمرّة، مدٌّ وجزر.
لا نعاقب المجرم. نساعده على استعادة تنفّسه الطبيعي.
نصطحب القتلة إلى الغابة. نطلب منهم الإصغاء إلى دردشة أوراق الشجر، إلى نشيد الينابيع، إلى أحكام الريح. نطلب منهم أن يأخذوا وقتهم، أن لا ينسوا شيئاً وأن يرجعوا بعد ذلك إلى فُرجة الغابة ليخبرونا كل شيء.

لدى عودتهم، نقول لهم : تقدّموا إلى عمق الغابة حيث الأخضر يصير أسوَد. أغلقوا عيونكم. استمعوا إلى ما هو فيكم كورقة الشجر، كالنبع، كالريح.

هذه المرحلة هي الأطوَل.

بعد بضعة أشهر، يعود أحدهم ويبدأ بالغناء، في منتصف الفُرجة.

الغناء عندنا دواءٌ، نورٌ، حقيقةٌ، تنفّسٌ نقي للحقيقي داخل الحقيقي، للذهن داخل الذهن، للقلب داخل القلب.

حين يرتفع صوت هذا الشخص إلى السماء فارضاً الصمت على الطيور المجاورة، نعرف أنه تعافى، وتعافى جيداً: لا حجر على النفَس، لا رماد على الروح.

طبعاً، ثمة حالات فشل. بعضهم يتوه في الغابة أو يعود بصوتِ كاسرٍ.
نقبل بذلك. لا نحاول مثلكم فصل النقي عن المدنّس. نعرف أنه سيكون فيهم شيءٌ من الاختلاط.

لسنا ملائكة، مثلكم.

تاريخنا محدودٌ جداً.

كان لنا ملوك. توّجوا أنفسهم. حسدوا بعضهم بعضاً فتقاتلوا. وبعد عدّة قرون من الزمن، تواروا بدون أن يتركوا أثراً سوى الغبار الذي أحدثته حوافر خيولهم.
يحصل أن يكسر فلاح سكّة محراثه على إحدى مقابرهم. يُخرج الحلي من المعدن الأصفر والهياكل العظمية البيضاء ويرميها بعيداً عن حقله، ثم يعود إلى عمله، بالكاد مغتاظاً من هذا التأخير.

بعد الملوك كان لنا كهنة. عشّقوا أيديهم الناعمة، الواحدة بالأخرى، وباركونا، ثم لعنونا. وبعد بضعة قرون من الزمن اختفوا ولم يبق منهم في ذاكرتنا سوى رعشة صلواتهم.

يحصل أن يعثر طفلٌ على تمثال ملاكٍ أو شيطانٍ، قرب نبعٍ. يعود به إلى المنزل. يعرضه على أصدقائه. نقدّم للإله بعض اللعب كذبائح. نتلوا بعض الترتيلات. ثم نملّ. نرمي الشيطان داخل فجوةٍ، ننسى الملاك في العلّية.
بعد الكهنة، الجنود. أعطونا ثياباً جديدة وخبزاً يابساً. وضعونا في طابورَين أو ثلاثة أو أربعة، ثم ذهبوا لمحاربة جنودٍ آخرين في بلدانٍ أخرى، ولم نر أي واحدٍ منهم بعد ذلك.

ثم جاء دور الأساتذة. أجلسونا وكلّمونا. ذات يوم، رحلوا ولم يخلّف رحيلهم جلبةً أكثر من كلامهم ـ جلبة كراسي.

آخرون أيضاً جاءوا. نسينا أسماءهم، وجوههم وهوَسهم. وإلى حد اليوم، أحدٌ ما يدّعي أنه يحكمنا ـ لا نعرف من هو.

صوت المعلّم هو صوت الضعيف: لا نسمعه من فرط بُعده.

يد المعلّم هي يد ميّت: لا نجرؤ على مصافحتها من شدّة سوادها.

والآن.
والآن سنتوارى: إنه خبر موتنا الذي نراه يشعّ في عينيك، يرتعش على شفتيك.
أنت لوحدك، لكنك هنا مع ملايين من البشر الذين يشبهونك. أنت وحيدٌ لكنك لست فريداً. لست سوى الأول بين ملايين من البشر الذين سيأتون خلفك ويمحون دروبنا تحت جلبة خطاهم.

تُحضر معك الرغبة والذهب والشهوة. نعرف أننا لن نقاومهم. لا أحد يعرف كيف يقاوم شمس الذهب الكبيرة وسكين الشهوة الحاد وخمر الرغبة القوي. لا أحد عرف كيف يقاومك.

كلماتك عذبة، يداك مفتوحتان. تقول بأنك تأتي لمساعدتنا. لطالما خفنا من أولئك الذين يتكلمون مثلك. مَن تربّص بنا شرّاً أتى كالذئب: نارٌ تكفي لإبعاده. مَن أراد لنا الخير أتى كأخ. خيره ليس مِلكنا. يصرفه علينا بدون أن ندري، في خبز القسمة.

أدخل. اذهب حيث تشاء. لن نقوم بأي شيءٍ يؤخّر سيرك.
نفصح لك عن سرٍّ أخير، هو أكبر سرّ نضعه بين يديك المتلهّفتين: ما يريد إبادتنا هو في الواقع أكثر ما يناسبنا. فقط حين لا نقاومه نكتشف أفضل ما فينا، ذلك الذي، لإنقاذنا، عليه أن يبدأ بإهلاكنا.

أدخل. خذ ما يفتنك واتلفْ الباقي.

في النهاية، في نهاية النهايات، يبقى ما يتعذّر تدميره، ما لا يموت من فرط خفّته، ما لا يحترق من فرط رقّته.

حول ذلك سنتلاقى، أنت ونحن.

معاً.
أُنظُر إلى يدي، بلا جلدٍ، بلا عظام، تتابع تفتيشي، تتابع بحثها عنك، في الرمل الذي في الدم، في الليل الذي في الليل، تحت العلّيق والحديد والأنصال والزجاج. حين أراك، سأتوقّف عن الموت كما نتوقّف عن الحياة. ستكون أعضائي سوداء وبيضاء. سترقد بسلام تحت الأرض التي تدوسها، على قفا الغيوم. ستعيرني أعضاءك، ستعيرني ذراعيك، ساقيك، وستحملني إلى حيث أنتظرك، إلى حيث أنتظرك.

****

إصغِ إلى رغبتي، إنها هنا، دائماً، تقودني إليك، خارج نفسي، خارج كل شيء، خارج الدم الذي يهرب مني، يهجرني ويحرقني. وإن لم أصل، وإن لم أصل. إستمع، في أنقاض عظامي، في حجارة جلدي، في جصّ السماء، أصغ. يبقى جُدجدٌ، تبقى أغنية. يمكنك انطلاقاً منها أن تعثر مجدداً على كل شيء، يمكنك أن تجدد العهد، الهواء، الجنون، التهويدة في دمي، في صوت دمي الذي هو أكثر من دمي. إصغِ، أنا أناديك، من داخل بَرْدي، من داخل بردي.

****

دوّار الأدراج التي أنزلها والتي تقود إلى أعماق البحر، إلى أعماق الحب. أدراج رطبة من دمي حفرتها أحلامي.
إلى ماذا يحلمون عشّاق المياه العميقة، إلى أي سلامٍ غير محتمَل، وتحت أي نورٍ من شمسٍ ميّتة؟

****

عطرٌ عنيدٌ، عطرُ بنفسجٍ ورماد. طعمُ أبديةٍ مرير داخل فمي حيث الهواء لم يعد يمرّ إلا أمواجاً، ألسنة نار.
لم يعد لي يدَان ولا ذراعان. لم أعد أسمع. لم أعد أبصر. لم أعد أملك إلا فماً، وهو جرحٌ عميقٌ فاحش.

حين تنظر داخلك، ستراه، الطفل في بيضته التي من رماد، الطفل الذي حبلت به دموعي، ذلك الذي سيفرغ دمي من إنجازه.

الطفل الذي هرسته عجلة شمسية، الطائش بفعل حنينٍ مفاجئٍ إلى كل شيء.

المستقبل
الاربعاء 13 شباط 2008