محمود قرني
(مصر)

علاء خالدأصدر الشاعر علاء خالد ديوانه الخامس تصبحين علي خير ، وذلك عن دار شرقيات بالقاهرة.
في ديوانه الجديد يستعيد الشاعر علاء خالد أحد أشد الأغراض الشعرية قدما وهو الرثاء، حيث يكرس الديوان، الذي يتضمن قصيدة مقطعية طويلة، لرثاء أمه، غير أن أدوات الشاعر تفارق الوعي الكلاسيكي، إلي وعي أشد حداثة، وتتجدد معه العديد من مفاهيم قصيدة النثر المصرية، التي يُعد علاء خالد أحد أهم شعرائها من جيل الثمانينيات.

وقد ارتبط خالد في بداية صعوده منذ أوائل التسعينيات بفصيل يرتبط بجماعة الجراد التي أسسها الشاعر أحمد طه، والتي ضمت عددا من شعراء تلك الحقبة، مثل إيمان مرسال، محمد متولي، أحمد يماني، ياسر عبداللطيف، فاطمة قنديل وآخرين، وهو فصيل كان، في معظمه، قادما إلي قصيدة النثر بمرجعية غربية خالصة، تأثرت الي حد كبير بالنص المترجم، وحملت عداءات واسعة للمرجعية العربية لا سيما في حقبة الحداثة، حيث نظروا للنص الريادي باعتباره نصا رسوليا، يكتبه انصاف الآلهة، وقد بدا واضحا، عبر نصوصهم، الشيء الكثير من هذا الوعي الذي ميزته عداءات أخري لمفهوم معرفية النص وتركيبته، وكانت الرغبة في تحقيق الخصائص التي أشاعتها مفاهيم سوزان برنار جارفة، وهو ما دفع النص الي مناطق تأثر إضافية لا سيما في مشهدها اللبناني.

كان ذلك يحدث في مواجهة فصيل آخر يأتي من مرجعية النص العربي المثقل بأعباء اللغة والحداثوية، والأيديولوجيا، وهو نص عاني مشكلات الارتباط بميراثه الأقدم في بداياته غير أن تحولاته كانت أكثر منطقية وربما لهذا السبب كانت هي التي حققت استمرارا ودأبا وصنعت تراكما صار هو المؤثر الحقيقي في الشعرية المصرية، فقد بقي لدينا من هذا الفصيل الشعراء: علي منصور، إبراهيم داود، عاطف عبدالعزيز، فتحي عبدالله، ثم جاء جيل أصغر ما زال قيد التشكل، لكنه كان أقرب إلي الحلقة العربية، بعد أن كف شعراء ليسوا قليلين عن الكتابة أو غادروها إلي أشكال شعرية أخري.

وفي الإجمال كان الصراع بين هذين الجناحين البارزين سببا في انضاج العديد من المفاهيم حول قصيدة النثر، وهو صراع منح أهمية وفرادة لفريقيه، ورغم المرارات التي مورست عبرها عداءات تبدو شخصية أحيانا، إلا أن الايجابية كانت السمة الأساسية في هذا الجدل الذي يبدو الآن خلاقا الي حد بعيد.

وسط هذا الصراع بدأت تجربة الشاعر علاء خالد عام 1990 بديوانه الجسد عالق بمشيئة جد ثم ديوانه وتهب طقس الجسد إلي الرمز عام 1992 وهما من أعماله المبكرة التي قدم خالد فيها صورة لوعيه المركب بالشعرية، ورغم ان هذين العملين قد أغرقا في الرمزية وفتنة وشيوع الجسدانية في ذلك الوقت إلا أن مزاجهما الرومانسي الفيتكوري لم يكن خافيا، وكانت تقاطعات هذين الديوانين مع الشعرية السبعينية لا يمكن إنكارها، غير ان تجربة علاء خالد تبلورت بشكل لافت في ديوانه الثالث حياة مبيتة الذي صدر عن دار الجديد عام 1995، وهو الديوان الذي توقف خالد بعده عن نشر الشعر لمدة تجاوزت عشر سنوات، ولم يعد إلي نشر شعره سوي في العام 2006 عندما أصدر ديوانه كرسيان متقابلان لكنه نشر في فترة توقفه ثلاثة كتب نثرية هي خطوط الضعف ، المسافر ، طرف غائب ، وهي في معظمها سيرة شخصية عن الرحلات التي يعشقها علاء خالد والتي أصدر تتويجا لها مجلته أمكنة التي تحتفي بالمكان وطقوسه النادرة.

في ديوانه الجديد تصبحين علي خير يستقطر الشاعر لغته وتشف الي اقصي الدرجات حتي لتصبح المسافة بينها وبين التركيب اللغوي شاسعة، وربما كانت رحلة خالد الشعرية بحثا عن تلك الشفافية التي تمثل مطمحاً لقصيدة النثر، لكنه مع ذلك، لم يقع في الركاكة، ولم تكن لغته عاجزة في أية لحظة عن اكتشاف خصوصيتها وفرادتها عبر الصورة المشهدية الممتدة والخاصة، التي تتشكل عبر التجربة الشعرية المستبطنة.

وتبدو تجربة الموت عاملا حاسما في الوعي بشعرية الديوان واكتشاف أسرارها والوقوف علي فرادتها، فالموت يتشكل في الديوان عبرا العديد من الصور المفارقة المتجددة، ومن ثم حدثت تحولات واسعة في مفهوم غرض الرثاء الشعري، الذي تخلي عن سرد مناقب الميت، وتحويله إلي أسطورة من أساطير ما بعد الموت بتجلياتها الدينية، ومن ثم فقد الموت ركنا أساسيا من أركان قداسته، واكتفي الشاعر بالوقوف أمام العديد من التفاصيل الصغيرة والحميمة، يتأكد هذا المعني عندما يقول خالد:

كنت جالسا بجوارك
أقرأ القرآن وأبكي
أي كتاب أقرأه في حضور جثمانك
كان سيدعوني للبكاء .

ولنتأمل تلك الصورة التي يقتطعها ويستعيدها الشاعر من المخيال الشعبي وطقوسه في الموت، عندما يتذكر ملاءة الميت أو غطاءه الذي يعود بعد الدفن إلي الأقارب، يتذكر ذلك رابطا بين ما فعله بالملاءة التي غطت الأب، ثم غطت الأم وكيف تصرف حيالهما، يقول خالد:

عندما مات أبي،
تسلمت أيضا تلك الملاءة من أحد الأقارب
كعصا عداء في مارثون طويل
وسرت بها مسافة
ووضعتها أمامي علي منضدة البار
ورحت أتحدث إليها حديثا عاطفيا
هذه المرة عدت بملاءتك
وصنعت منها خيمة
نصبتها في حديقة البيت .

لقد كان تخلي الموت هنا - موت الشاعر - عن طقسه الديني سببا مباشرا في اكتناز الشعرية بمعرفية لا تخلو من تفلسف، أقصد تلك المعرفية التي يتسرب من خلالها نمط إنتاج شعري تتجدد رؤاه بتجديد معانيه، وتبدو الاجتراءات أو الاجتراحات التي يطرحها الشاعر في مقام الموت نوعا من إعادة التشكيل السردي الذي يحول ذلك الكابوس الأسود إلي مفارقة يمكن التماس اللذة لديها، يقول علاء خالد:

كان من الأفضل أن أرسل للملائكة
قائمة بعاداتك اليومية
بمواعيد تناول الدواء
بملابس الصيف وملابس الشتاء
ولكني أسألك عن القبر
عن وحشة الليلة الأولي .

واستعادة رواحه، بل علي العكس يمكنها أن تخلق مناخا للحضور الحميم، وللتذكر، وللألم الشفيف الذي يعني وجودا من نوع آخر يتحقق عبر هذا الغياب، لذلك نقرأ العديد من مقاطع قصيدة علاء خالد وهي تستعيد أجواء البيت المكتظ بأسرار الأم، وأنفاسها، وعكــــازاتها التي يسميها الشاعر القدم الثـــــالثة، تلك التي ظلت إلي جوار الكرسي بعد الرحيل بينما لا يجرؤ علي الاقتراب منها، كذلك يتأمل الكرسي الذي كانت الأم تؤدي عليه صلواتها، ويتصوره وهو يدخل معها إلي الجنة، وسط هذا الركام الذي يخلفه الغياب يفاجئنا الشاعر بتلك الحياة الناعمة المنسلة من بين أصابعه عندما يتأملها بحسرة وهو يقول:

مرّ عام،
وما زلت أقف علي باب غرفتك ليلا
كعاشق قديم
أسترق السمع
لأنفاس متعثرة
أغنيتي صامتة،
حتي لا تستيقظي
وتضبطيني متلبسا بالحب .

الموت لدي علاء خالد يتحول إلي تميمة لا تدفعه فقط إلي الجهر بامتلاك السر، بل إلي الجهر بالفخر بأنه يمتلك حكاية حزينة، فيتحول فعل الموت الكابوسي والأسطوري إلي فعل من أفعال الحب والمعرفة معا، حيث يتحول الشاعر السارد إلي فاعل لا يتخلي عن دوره لذلك القاسي والدامي الذي يشكله فاعل غير محدود القوة ومن ثم يتبدي الوعي الشعري مغمورا بعمق اللحظة الإنسانية عبر رفدها بطاقات متجددة تمنحها القدرة علي تغليب فعل الحياة في مواجهة الرواج الذي يخلفه الموت، يقول الشاعر:

أصعد عتبات بيوت الغرباء
أجتازها بدون سؤال، بشفرة سرية
معتزا بكوني أمتلك حكاية حزينة

عن أم فقدتها وأنا في الخامسة والأربعين . ويبدو الشاعر علاء خالد في ديوانه تصبحين علي خير مستعيدا لطقوس الموت المتغلغلة في عمق التجربة الحضارية الإنسانية في عمومها، والتجربة الفرعونــــية بشكل خاص، التي أقامت طقوسا شديدة الثراء حول فكرة البعث، واعتبرت الموت قنطرة للعبور إلي الحياة الثانية التي ستكون أجمل بالقطع.

وهي الفكرة التي تناسلت في الديوان عبر تلك الشفافية والاستقطار اللغوي الذي يملك درجة كبيرة من حسم اختياراته، ويبدو الديوان ـ في الإجمال ـ خطوة مهمة في بلورة تجربة علاء خالد وانحيازاته الشعرية، وهو كذلك أيضا داخل إطار تجربة قصيدة النثر المصرية، التي زالت كثير من الفوارق الواسعة بينها وأصبح هناك ما يمكن تسميته بالنمط الذي حقق درجة من الاستقرار النسبي لبعض المفاهيم الملتبسة، والتي أثارت العديد من الصراعات التي جاء أغلبها خارج النص الشعري.

القدس العربي
05/2008