(ساق الغراب ليحيى اَمقاسم)

عبدالله السفر
(السعودية)

ساق الغراب ليحيى اَمقاسمبذاكرةٍ تستقصي ما فاتَ وتُقيمه على سُوقِهِ غضّاً نديّاً، وبمخيّلةٍ فذَّة منفتحةٍ على الغريب والعجيب؛ يَسُوسُ يحيى اَمقاسم روايَتهُ ساق الغراب (دار الآداب ـ بيروت ـ 2008) لتبقى محتفظةً بتوازنٍ لا يطغى فيه التسجيلي على الإبداعي وحتّى لا يتحوّل العمل إلى وثيقةٍ تاريخيّة، ويظلّ مخلصاً لنسبه الروائي وأدواته الخاصة؛ تخوِّله نجاحاً يستحقّه في "وثيقةٍ فنيّة" شُيَّدَتْ بمهارة تنطوي على نشيدٍ عذب يطلع من عروق المكان، ويطفر من أرواح شخصيّاتٍ عمرتْهُ وأُشْرِبَتْ حُبَّه يجري مجرى الدم؛ تُحملُهُ وديعةً ممهورةً بروح الأسلاف تشرف على سريان العهود والمواثيق وتحفُّ بعينِ رأفتِها أسرارَ الأرض، فتمنحُها صبغةً ورائحةً لا تكون إلا لها؛ السرّ الخصب يتلقّفُهُ جيلٌ بعد جيل.

يعود الكاتب إلى الوراء طاوياً غبارَ الحاضر يتكدّسُ على الصورةِ، ويخدشُ بهاءً زيّنتْهُ سواعدُ الرّجال وزنودُ النساء، كتفاً إلى كتف في الشارع وفي الحقل وفي مجلس الرأي والمشورة، في الغناء والرقص وانتحاب الطين والحيوان. يتوغّل في رصد التحوّل القسري والممانعة الصّلبة بمنطقة تهامة بالجزيرة العربية. العشيرةُ بثقافتها الزراعية ومجتمعها الذي ينحو أن يكون أُموميّاً وطقوسها المتجذّرة منذ مئات السنين وبرواسب ممتدّة إلى أبعد من ذلك بكثير، في مقابِل السلطة الآتية من الشمال تريد فرضَ ثقافتها الذكوريّة الرعويّة الصحراويّة، واستتباع المجتمع هناك إلى كلٍّ واحد مُصمَت؛ قالبٍ لم يكن يوماً على مقاس العشيرة ولا مُعبِّراً عنها، ولا ينتمي إلى ذاكرتها وروحها. بين رفض العشيرة بقرية "عُصيْرَة" داعية ـ عاصمة ـ وادي الحُسَيْنِي وبين السلطة وإرادة الهيمنة بضغط الفرض والوصاية، تمضي الرواية تُقلِّب دفترَ "سادةِ الزمن الجميل"؛ المقاومة والانكسار؛ الممانعة والانحسار؛ الطوفان ومحاولة النجاة بنتفٍ من الذاكرة وكِسَرٍ من الأحداث والسِّيَرِ والحيوات؛ تجلو الغبارَ الكثيف وتردُّ الصورةَ إلى يناعتِها.

الصورةُ نسيج
الصورةُ لحمٌ ودم

الصورةُ روحٌ عصيّةٌ لا تفترُ حتّى الرّمقِ الأخير أو حتّى الحضور في غيابٍ مؤجَّل تستحثُّهُ بذرة "الحبوب" وأشباحُ الرّاحلين إذْ ترفعُ يدَ عنايتِها خيمةً؛ تظلِّل وتحرس وتهدي، وتردع وتبطش وتنتقم أيضاً. هذه الصورة عِمادُها ثقافة الحياة بما هي بهجةٌ ومرحٌ وانفتاح، والتصاقٌ بالأرض واعتزازٌ بها وبمكوِّناتها؛ ما يخرجُ منها وما يدبُّ عليها ممزوجاً بماء الأسطورةِ وزعفرانِها، يتقاطَرُ من حفلاتِ الختان، ومن رقص الحصاد؛ ومن حبلِ السُّرّة المقطوع؛ ومن غناء الراحلين؛ ومراسم استعداد الزوجة ليلة عرسها لدخول الزوج عليها. نقرأ في هذه الصورة نداءات الاشتداد والاستواء وابتهالات الخصوبة ونبوءاتِ المصير.

إنّها جملةٌ وسِياقٌ من العادات والأعراف والتقاليد والشعائر الثاوية في الذاكرة، تظلُّ مشتعلةً وفاعلةً بلهبِها من الأساطير والرموز، وما استدخلتْهُ في نسقِها القيمي من مبادئ ومعاييرَ تواضعتْ عليها العشيرة، وباتتْ محدّداً سلوكيّاً ينشأ عليها الصغير ويراعيها الكبير؛ مَظلّة تنفتحُ صانِعَةً الهويّةَ المتفاعلة مع الإنسان والبيئة والمكان والتاريخ، ولها حظٌّ من الاستقلاليّة والانفكاك عن مراكز السلطة؛ السّياسيّة والفقهيّة. هذه الصورة المخصوصة والهويّة المطبوعة في ثقافة العشيرة والممارَسَة اجتماعيّاً على مَرّ السنين وتعاقُب الأجيال، هناك مَن يُريد طمسَها تماماً وإزالتَها عن الوجود، وإحلالَ بناءٍ بديلٍ عنها في صورةٍ غريبةٍ منبتّة عمّا هو موجود ومُتعارَف عليه وأصبحَ هويّةً طبيعيّة يصعب الانسلاخ منها والنّظر إليها على أنّها مخالِفَة وخاطئة وإثمٌ ينبغي التَّطهر منه والانخراط في الصورة الجديدة؛ الإهاب الجديد القادم من الشمال؛ صورةُ ثقافة الموت والجفاف تتقصَّدُ طيَّ صفحةِ صورةِ الحياة والخصوبة؛ تبدِّدُها كأنّها لم تكن. هذه هي المفارَقةُ بين عالميْنِ يتطاحنان ويُؤجِّج أحدَهما يقينُهُ أنّ زمنَهُ أوفَى على نهايتِهِ وأنّ الجولةَ ليست له، مهما حاولَ أن يُنازِلَ أو يهربَ أو يستمهل؛ العصَفُ قادمٌ بيدِهِ السياسةُ والسّلاح والدّينُ والمال. السّلطان الجديد بإزاء السلطان القديم المتدثِّر بالجبل وبالذاكرة. الدّولةُ تتقدّم والعشيرة بحبلٍ يذوب لا يمكن أن تصمدَ؛ حتميّة "القدر الحديث" تفعلُ فعلَها وتُخطِّط بتؤدة وصبر فالثمرةُ في مَطَال اليد. أميرُ "صبياء" ممثَل السلطة السياسية، ومعه محمد المصلح "المقرئ" اليد المساندة لحرثِ الأرض القديمة واستملاكها ببذور جديدة، حين يخترق النسيج المشتد بـ"ابن الهيجة"، ولد السفاح المنسوب إلى الشجرة الهيّاجة، والمرفوع من العشيرة على معارج النبل، فهو عندهم المقيم على مجد أبيه وفخر أمّه، فلا يُقدح بضيم، فيكون مطية الساسة إلى فتق النسيج؛ تدبيراً من المقرئ حين ينال من تمام القيم القائمة، بصورة تأخذ صفةَ الدينِ الصّحيح، وكأنّ ما عداه بذرة معطوبة مُحرَّفة خرجتْ عن السَّنَن القويم وهذه (ذريعةُ أيديولوجية مثل جميع الذرائع التي تستخدم الدين لتبرير ممارسات تُؤسس لنشوء كيانات سياسية ـ فتحي العفيفي، الثيوقراطية العلمانية في الدولة الخليجية المعاصرة، المستقبل العربي، السنة 30، العدد 350، أبريل 2008، ص 140).

ومع إحكامِ السلطة الجيدة الطّوْقَ على القرية وبداية نُذُر التحوّل بإقصاء المرأة عن المشهد الاجتماعي والمعيشي خارجَ المنزل؛ والتحاقِ الأبناء بالجيش؛ ونَفْرَةِ بعضِهم إلى الشمال مغادرين القرية؛ فإنّ "سادة الزمن الجميل" لم ينتظروا اكتمالَ سقوطِ زمنِهم أمام أعينهم، فآثَرَ بعضهم الموتَ اختياراً (علي هبّاش؛ ابن شامي؛ الساحلي؛ بنت الخَبْتي...) أو الرحيل والاختفاء أَنَفَةً من شهود نوْبة الاحتضار القاصِمة. ونقصد هنا "بِشَيبش" تلك الشخصية التي غابت ولم تغب، إذْ بقيتْ طيفاً وروحاً حارِسة؛ تُكرّر أفعال الممانعة والرَّصد والحماية. "بِشَيبش" هو، أوّلاً، مَن حرق مسجد السلطة وقتلَ عينَها الواشِية، وشبحُهُ، ثانياً، لم يزل يتبعُ السّيْلَ ويمنعُ عن القرية غاراتِه ويرعَى خطوات وديعتِهِ (ابنته شريفة)؛ النبتة المُضمَرَة لحمْلِ رسالةٍ تريد أن تعود. "بِشَيبش" يُذكِّر بشخصيّة اختطَّت مسار الممانعة في رواية أخرى؛ "متعب الهذّال" في رائعة عبد الرحمن منيف "التيه" (الجزء الأول من مدن الملح). "بِشَيبش" شخصيّة روائية آسِرة أحسنَ يحيى اَمقاسم في خلقها وتوظيفها بإبداع في روايته، فشكّلتْ هذه الشخصية مع الأم قطبا ثنائياً (إلى جوار شريفة) منحَ العملَ أَلَقاً وتميّزاً على مدار صفحات الرواية (384 صفحة).

إذا كان الموتُ، اختياراً، أو الرحيلُ صيغةً تفسّر نتائج العهد الجديد؛ فإنّ الأم صادقيّة هي مَن عرف مبكِّراً بمجريات الأحداث ومآلها. حدستْ بالمصير وَهْلَةَ المجابهة الأولى ومن أيام "الهَرْبَة"، فهي المُمَكَّنةُ من عالَم الخفاء بعهدٍ منذ وفاة زوجها مشاري لقاءَ نور عينيها [وهنا، أيضاً نتذكّر سادة الخفاء وعوالمهم العجائبية عند إبراهيم الكوني، وعند إيزابيل اللندي وبخاصة رواية "إيفالونا"]. ولأنّ دفّةَ القيادة بين يديها لم تشأ المغادرة واختيار الموت، في زفّةٍ جنائزيّة تقودها الريح وأهل الخفاء، إلاّ بعد ترتيب المشهد لشريفة "بنت الأرض... بنت الرجال" لتصبح (القيّمة الأولى على وادي الحُسَيْنِي... وبذرة الوطن الذي لا يموت إطلاقاً ـ الرواية، ص 375)، تلك البذرة التي عهدت إليها القوى الخفيّة مجد السادة الراحلين، وأنّ تنجو إلى خلاص بوادي الحُسَيْنِي وداعيته "عُصيْرَة" من قوارع القادمين، فهي المخلص ونائلة الأمل، والنجوى إلى السماء نحو إشراقة أخرى.

كما أودعت الأم صادقيّة (إلى ضفة الخفاء وخاصة السر) حشفةَ "حَمُود" ـ حفيدها وامتداد السادة الكبار ـ مُخبّأَةً أسفل شجرة السّدر التي يمِلْن إلى ساسها نسوةُ القرية على الدوام، بعد أنْ حاقت العنّة بأزواجهن، إذ لم تعد بهم قدرةٌ على العطاء، وقد رُدّت إلى النسوة صلاتهنّ إلى الله أن يكشف ضرّ الرغبة في أجسادهنّ. وكأنّ عنتَ الرجال لعنةُ القصور والتخاذل عن أداء الدور نحو قيم القرية، في حين الشجرةَ، طيلة الرواية، هي المستودَع لانبثاق القيم من جديد يحملها نسلٌ مرصودٌ في الغيب أولى بشائره "شريفة" المحفوفة بعبق الأرض ورائحتها؛ تتبعُها أنّى سارت، وحتى قرّت على مِسْكِ أهلها، وهي ترنو إلى بلادها من سفح "عكوة"؛ الجبل الشاهد أبداً في صمته على سيرة النبلاء، وإذا هو الآن رجاؤها الأخير حين ادخرت "صادقية" فيه ما يُمكّن شريفة من جادة "الزمن الجميل" وآثار سادته، وهو أيضاً ـ الجبل ـ منتهى السلالة بما سنّت الأم عليه من منيّة أصيلة لـ"حمود" آخر النشيد.

safar111@hotmail.com