قراءة في "مراكش: أسرار معلنة"

عبد المنعم الشنتوف
(المغرب)

ياسين عدنان يعتبر كتاب "أسرار مراكش" للشاعرين المغربين ياسين عدنان وسعد سرحان إضافة أساسية للمشهد الإبداعي المغربي المعاصر. ذلك أنه نص ذو كثافة لافتة للنظر تروم تقديم مراكش بما هي مدينة بأفق إبداعي يتسم برحابته وخصوبته وانفتاحه على فيض من التأويلات. حقيق بالتنويه في هذا المقام إن المدينة باعتبارها موضوعة أساسية في الأدب العربي الحديث والمعاصر قد حظيت بعناية ضافية من خلال تحققات نصية سعت إلى تقديم المدينة العربية بشكل خاص وفق تنويع من الرؤى تتسم بتباينها من حيث الحساسية الجمالية والغايات المعرفية التي سعت إلى بسطها. يكفي في هذا الخصوص أن نسوق تجارب نجيب محفوظ مع القاهرة ومحمد شكري مع طنجة ومحمد زفزاف مع الدار البيضاء وإلياس الخوري مع بيروت أو سركون بولس مع مدينة لا وجود لها إلا في اليوتوبيا.

يتسم كتاب "أسرار معلنة" بتميز يجد أساسه، من جهة، في احتفاء باذخ بالتعدد الذي يسم فضاء مراكش ورصد لمختلف تمثيلاته، ومراهنة، من جهة أخرى، على ما يمكن نعته أنسنة لهذا الفضاء بما يستلزمه ذلك من التقاط لتفاصيل العلاقة بين الحجر والنخل وتواريخ عبور الإنسان بهما. تأسيسا على ذلك، سوف تسعى هذه القراءة إلى التماس سبيلها إلى هذا النص بالاحتكام إلى افتراض كونه عتبة أساسية لاقتراب إبداعي يضع حدا للصور النمطية الجاهزة في خصوص مراكش والتي تؤثر اختزال الثراء الإبداعي والتاريخي للمدينة في محض رؤى تسييحية إن صح التعبير.

ولئن كان اختيار العنوان غير اعتباطي ومعللا بما يكفي باعتباره أحد مداخل القراءة، فإن العنوان الذي اختاره الشاعران لهذا النص يطرح فيضا من الأسئلة.

كيف يستقيم السر والإعلان عنه؟ ذلك أن سمة السر أن يكون مكتوما وأن لا يتجاوز الاثنين؛ فكيف إذا كان المقترف لجريرة الإعلان عنه ـ أعني أحدهما ـ شخصا تفرق حبره بين قبائل "الكتابة". حيث إن السر مقرون في المتخيل العربي الإسلامي بالغموض والإثارة والالتباس، فإن الإفصاح عن نية الإعلان عنه يعتبر تكثيفا لسمة الغموض وإثارة مضاعفة تؤشر بأكثر من قرينة على تلك الرغبة في خلق حالة من التواطؤ المكشوف بين النص وقرائه المفترضين.

ثمة على امتداد هذا النص الجميل بأبوابه العشرة جماع قرائن تحيل على موضوعة الأسرار. يكفي في هذا المقام أن نمثل لذلك بقرينة "الأبواب" التي تتضافر مع قرائن أساسية أخرى كي تجعل من الأسرار موضوعة جوهرية. تستدعي هذه القرينة بداهة ثنائية الانفتاح والانغلاق. فإذا كانت مراكش مدينة مفتوحة على تنويع من الثقافات واللغات والأعراق، فإنها في الآن نفسه مدينة مغلقة على خزان من الأسرار. ربما بسبب ذلك جاء وصفها بأنها يد مبسوطة ذات أصابع مفتوحة على شعاب مجهولة. تقفز إلى أذهاننا في هذا الخصوص صورة المتاهة حسب خورخي لويس بورخيس؛ حيث يتهدد الداخل إلى مراكش أو مكتبة بابل خطر الضياع والتلف إن لم تكن بحوزته خريطة تقيه خطر الفخاخ القاتلة أو مفاتيح تشرع أمامه الأبواب المغلقة وتفسح المجال أمامه للاستمتاع بمباهج الكشف والمغامرة واختراق الممنوع والمحرم والانغمار وسط مهرجان صاخب من الألوان والأصوات:
كيف نفتتحُ المدينةَ.. كيف نتملّى ثراءَها السافر؟
منذ البوابة يشتدُّ النداء.

إنها دعوة كريمة إلى الداخل حيثُ:

كلُّ شبرٍ سرٌّ،
وكل خطوةٍ جذوةٌ
تمتصّكَ
صوب
الأعماق.
هكذا تهوي أفقياً نحو حرارة المتعة مروراً بدفء الاكتشاف.
إنها الدعوة المفخخة التي تورطك في المتاهة.

ولأن لمراكش تعددها الباذخ، فإن الاقتراب منه والتعبير عنه في هذا النص كانا متسمين بشاعرية مفتوحة على سمة الاحتمال المحققة بدورها لخصوبة فيما يخص مقامات التلقي والتأويل. ذلك أن المدينة المحكومة بالواحدية والتطابق مدينة لا ملامح لها ومدموغة بالرتابة والسأم. ومراكش بتعددها المثير تشرع أمام زوارها أفقا للالتباس الجميل وتجعل من استشراف الألفة معها بما يستتبعه ذلك من رفع لسمات الغرابة مشروطا بمجاوزة الأسرار نطاق "الكتمان" إلى نطاق "الإعلان". يفصح التعدد عن حضوره بأكثر من قرينة ؛ فعلاوة على أن النص مكتوب من لدن شاعرين يؤكد أحدهما بجرعة ضافية من الوضوح على الاختلاف الحاصل بينهما على الرغم من فرضية التكامل ولعبة الأقنعة، ثمة اختيار الترجمة إلى اللغة الفرنسية باعتبارها مراهنة على رحابة في مستويات التلقي والتأويل وكونية مأمولة. ينضاف إلى ذلك اختيار تقديم النص ـ وهو اختيار لا يمكن أن يكون إلا مقصودا ومعللا ـ من لدن الكاتب خوان كويتسولو المعروف بتعدد هوياته. ثمة في الآن نفسه اختيار كتابة يمكن وصفها بأنها مفتوحة ومتحررة من سلطة التحديد الأجناسي الصارم ومزاوجة بألق بين النثر والشعر.

ولئن كانت مراكش مدينة ذات أبواب وجوامع وأضرحة ومدارس ورياضات تحقق الوصل بالمشرق عموما وبغداد خصوصا، فإنها في الآن نفسه بنايات أوربية مفرطة في حداثتها و نخل وجلواز وواحات مبثوثة وسط صحراء مترامية الأطراف:

لمراكش وجه مدينة وملامح واحةٍ، والنخلُ شاهد.
وشاهدٌ صحن هذا البيت أو ذاك من البيوت القديمة.
والأحواض الجذلى عند أبواب المنازل الجديدة شاهدة.
هذه واحةٌ وتلك براهينُها الخضراء متناثرةً داخل البيوت أو عند العتبات والأرصفة.

لا ننسى أيضا تلك المراوحة الدالة بين الشفوي والمكتوب؛ بما يستلزمه ذلك من مراوحة غامضة وملتبسة بين الهشاشة والثبات. ولأن لمراكش تعلقا خاصا بالشفوي، فإن للحكايا البتراء حضورا دالا. ذلك أنها سبيل ملكي إلى الاحتجاج ونقد الظلم وكشف المخازي والعيوب ووصل الليل بالنهار في احتفالية أزلية. في هذا السياق، إذن، تأتي تلكم الإشارة إلى بعض الحالات الإنسانية ذات الاستثناء المثير من قبيل الراوي "عبد السلام الصاروخ" الذي يروي النص أن الناس تفرقوا من حوله بسبب مواعظه الحافلة بالوعد والوعيد، فما كان منه إلا أن انقلب إلى حديث الإمتاع والمؤانسة وما يستلزمه من احتفاء بسوق الاستعارات ونزوع مقصود نحو النكتة اللاذعة..

ما من شك في المدينة الموسومة بالتعدد هي مدينة موهوبة للحياة ومنذورة لها. في هذا السياق، إذن، يأتي الحديث عن المسام باعتبارها استعارة ذات كثافة دالة بما هي محاولة لأنسنة فضاء مراكش ورصد السمات الدالة على موضوعتي العبور والاستقرار. ذلك أن الذات الإنسانية ليست مجرد حضور فيزيقي محض، ولكنها في السياق نفسه متخيل يتسم برحابته وخصوبته وقابليته المثيرة للاغتناء. وحين تتعالى الذات الإنسانية عن هذا الحضور الفيزيقي، فإنها تنفتح من ثم على تنويع من أشكال الحضور تستشرف أفق الترميز. ولئن كانت للمدينة مسام، فلكي تعبر فيما يشبه الصراخ عن الحقيقة التي مؤداها إنها تتنفس من خلال الذوات الإنسانية التي عبرت أو أقامت بها.

تبدو الإشارة في هذا المقام إلى شاعر الحمراء محمد بنبراهيم حابلة بفيض من الدلالات. ذلك أنني لم أعرف الرجل/الشاعر إلا من خلال ثلاثة أقانيم: قصيدته الهجائية الشهيرة "المطعم البلدي"، جلبابه المغربي العتيق ووجهه ذو السمرة الغامقة والقسمات التي يختلط فيها ما هو صحراوي وإفريقي بما هو عربي. ولأنني ابن طنجة ومطعمها البلدي الذي سارت بذكر هجائيته الركبان، فإنني لم أحتفظ في ذهني إلا بصورة الرجل الذي يبدو بمخبره فقيها أكثر منه شاعرا. والحال إن النص ينكل بهذه الصورة تنكيلا فظيعا ويؤسس لأخرى عبر أسرار يعلنها فيما يشبه الجلجلة. هكذا يتحول محمد بنبراهيم إلى سكير عربيد وشاذ جنسي يتبول على مربع الأغراس في منزله حين تنوء مثانته تحت وطأة السكر ويضاجع غلمانه على جنباته:

مراكش بنت بغداد
لأبي نواس بها أحفاد
ولغلمانه بها أحفاد
رياضاتها قصور الرشيد
وقد انتشرت
بين الأزقة والحواري
وجواريها
كأنهن الجواري

هل كان محمد بنبراهيم ابن مراكش العاصمة العباسية التي لم يحكمها الرشيد يتصادى بنمط عيشه وسلوكه مع أبي نواس ابن بغداد التي حكمها الرشيد فعلا. وهل يسعنا في هذا الخصوص أن نتوسل بثنائية "الأصل" و "الصورة" لكي نفسر هذا التصادي؟
وإذا كان الشاعر قد تنكب لأسباب مجهولة طبع ديوانه اليتيم الموسوم "روض الزيتون" رغم الأموال التي جمعها من معارفه، فليس لكي ينفقها على أماسي العربدة والصخب والمجون التي اشتهر بها، وإنما بسبب حكمة مراكش التي : "ترفض المكتوب وتنتصر للشفوي. وحده الشفوي يعمق الالتباس فيما يحاول أن يجلُوَه"

بازار بابل وجه آخر لسوق الاستعارات وقرينة على سمة التعدد اللغوي تخصيصا التي تميز مراكش. ولأن بابل سوق للغات يضرب عرض الحائط بكل معايير وأنساق التواصل، فإن البازار المراكشي يتسم بخواص أخرى يمكن إجمالها في احتفاء قوي بالحذق والشطارة و"الحيلة" التي تشتمل على جذور في المتخيل العربي الإسلامي. تكف اللغة في بازار بابل/مراكش عن كونها وسيلة للتواصل لتعانق وظيفة الإقناع؛ بما يستلزمه ذلك من تحويل للاستحالة إلى إمكان. ولأن باعة بازار مراكش وهم في غالبيتهم أميون أو أنصاف متعلمين يتقنون من اللغات الحية ما يؤهلهم لأن يكونوا مترجمين معتمدين لدى الاتحاد الأوربي، فإن ذروة الطرافة التي يصورها هذا النص تتمثل في أن يعيدوا ترهين التاريخ العربي في "الشطارة" و"الحيلة" وفق كيفية يفلحون معها في أن يقنعوا مبدع "اسم الوردة" أمبرتو إيكو بشراء زربية على أنها مخطوطة"

يمكن النظر إلى هذا النص باعتباره حوارا إبداعيا حميما مع مدينة مراكش ومختلف تمثيلاتها المادية والرمزية من جغرافيا وتواريخ وأنساق حكائية. وهو بهذا الصنيع طموح إلى تخليص المدينة من إسار الرؤى المتسمة بإطلاقيتها وتعاليها على التاريخ وإكراهاته. في هذا السياق، إذن، كانت المراهنة على أنسنة الفضاء استجابة لرغبة مضمرة من الشاعرين في التحرر من سلطة الاستيهام وتبعاتها الثقيلة والتدليل على أن مراكش مدينة تتنفس داخل التاريخ وأن لها حياة تستحقها عن جدارة...

بروكسيل
5-7- 2008