عهد فاضل

nadem_alsayyed_book.jpgتستمرّ مجموعة الاقتراحات التي يتقدم بها الشعراء الجدد، لما ينتمي إلى شعرية قصيدة النثر، والاقتراحات قصد بها التعامل مع راهن قصيدة النثر كمجال مفتوح على أزمة جمالية خالصة. ذلك أن واقع الشعرية الجديدة انتصرَ للأزمة، تلك، بصفتها مزيجاً من الابتكار الشعري، والعطالةِ الشعرية، في آن واحد معاً. فخلاف الإيقاع مع النثر، والملفوظ، وماسمي «المضامين» ما زال يسيطر على المشهد. وتأتي المواهب المسكونة بقلق التغيير والخوفِ من النمطية باقتراحها الخاص، تتسلل بين نقاط الأزمة الجمالية، موليةً صدقها الفني الجانبَ الأكثر تركيزاً ووعياً. هنا يأتي الكتاب الشعري الثالث للشاعر اللبناني ناظم السيد «أرض معزولة بالنوم»، والصادر لدى دار الكوكب، بيروت، .2007 والدار فرعٌ جديد لدار رياض نجيب الريس تأسس للعناية بكتب الشعر والنقد والكتاب الجدد بوجه خاص.

في كتابيه السابقين «برتقالة مقشرة من الداخل» و«العين الثالثة» تنقل الشاعر السيد ما بين حكاية تشكل قوام النص وبلاغةٍ مضمرة غير معلنة، يوحدهما تناصٌ عمل عليه السيد من خلال آلية تذكر واستعادة جعلت من كتابيه السابقين جدلاً مستتراً بين التاريخي والراهن، أو بين الماورائي والحسي. وتم له ذلك عبر تفعيل الحكاية التي توهم أن ما حصل والذي سيحصل أمران واقعان.

في «أرض معزولة بالنوم» عالج السيد مسألة الحكاية نفسها. إنه كمن يدوّر الحكاية، مجددا، مفرّغاً الحدث من الزمن، ومبعداً أنا المتكلم عن السرد. هذا «التكسير» أشبه بلعبة «بازل» لا تنسجم إلا إذا تم الحدثُ بلا تاريخ، أو جاءت الأفعال من أنا وهو غير معرّفين. هل يعتبر السيد أن الحكاية لم تُستَنفد بعد؟ يبدو ذلك في ما سنراه من دمجٍ إضافي قام به الشاعر حيث أضاف نظام الإمضاء «التوقيع» على حكايته غير المتزامنة، كما لو أنه يستبدل بلاغته المضمرة السابقة بـ«الحكمة»، لعل النهر الذي لم يعد يتدفق بين الأب والابن يعود إلى مجراه.

إن أول محاولة للتوسط بين الأزمات الجمالية المتعددة التي يعكسها الأدب الجديد، نراها بتعريف المعرَّف، حيث قام السيد بتشبيه الشيء بذات الشيء: «والقلب المحطم كقلب محطم». تعريف المعرف هنا وتشبيه الشيء بذاته مجرد محاولة للقول إن اللغة لا تنوب عن الحدث الفعلي. وذلك بالمقارنة مثلاً مع قراءته لحدث عام: «هواءٌ بارد في الشتاء لأن الناس يغلقون بيوتهم ويتركونه في الخارج». هنا داخَلَ السيد بين الإنساني والطبيعي ومنح الأخير صفة الأول. فتعامل مع برودة البرد كما لو أنها نتاج عزلة ووحدة وانقطاعٍ عن الناس. وكذلك في مداخلة بين متناقضات تصل حد التنافر: «وأكياس النفايات بطونٌ متدلية» ومثلها: «عامل التنظيفات الحاقد يعضّ الأوراق بملقط طويل». شبكة اتصال تعلن علاقة جديدة إن بتشبيه الشيء بذاته أو بمداخلته مع نقيض كامل.

الواو
قام كتاب «أرض معزولة بالنوم»، من جهة أخرى، على تفعيل العطف والربط، من خلال استئناف الحدث الخارجي وترابطه المفتَرض، بعضه بالبعض الآخر. هنا كثّف السيد من مقدرة العطف المفرطة لحرف الواو، حيث قامت على «تزيين» الحدث الخارجي والمتكسر في «بازل» يعيد التركيب الشعري مرة تلو أخرى. المقدرة المفرطة لعطف الواو حققت حكاية السيد القديمة في كل اتجاه: «وأنا ممدد على فراشي أسابق كنغارو استرالياً على محطة ديسكفري». والملاحظ أن المقطع بأكمله افتتح بواو العطف، إنما عطفٌ على ماذا؟ سنرى افتتاحاً بالعطف بطريقة ثانية: «وهناك يبقى هناك. يشير إليه الأولاد بالأصابع مع أنهم لم يروه يوماً. وهنا ملتصقٌ بالأجسام كالثوب المبلل». وهنا أيضاً: «والزواريب تستدرج المارة من أقدامهم. والبنايات التي تكز على أسنانها». الافتتاح بالعطف يفترض ربطاً مع صفة ومع فعل، مع اسم ومع حكاية. ما هو الشيء الذي تستأنفه الواو في حال افتُتِح بها مقطعٌ جديد في كتاب السيد؟ على الأرجح أن الـ «أرض المعزولة بالنوم» هي التي يعود إليها الاستئناف الذي تقوم به الواو. فهذه الأرض المعزولة بالنوم، هي أرض منسية، أو غير واضحة المعالم، وهي أرض تشكلت عبر وعي طفولي بعيد يستعيد بها الشاعر سلامه غير المتعيّن، وهي قد تكون البيت، أو الأب والأم، أو الطبيعة والبحر. كلما بدأت الواو فهذا يعني أن الإحالة إلى الأرض التي يمنعها النوم من تعريف نفسها. حرف صغير يمتلك طاقات مبهرة، الواو، بمجرد وضعه أمام أي شيء تصبح شبكة الاتصال جاهزة للعمل. يكتب السيد في زمن جديد، إلا أنه يستدير، متخفياً، نحو أرضه التي عزلها، هو، بالنوم.

بالإضافة إلى طاقة الواو المدهشة على اكتشاف الأرض القديمة ووراثتها لنفسها، أدخل السيد مع العطف ذاك نظام إمضاء شعرياً. قيمة الإمضاء أنه يجمع الأدبي بالثقافي بالخبرة الفردية بالعلوم وأي معرفة. برع الشاعر اللبناني أنسي الحاج بالإمضاء الشعري في كتابه «خواتم»، وعُرف في النثر العربي القديم. ويعمل الإمضاء على معرفة ظاهرية تتكتم على مدلول خاص لم يُعْمَل سابقاً مثل مشاهدات السيد هنا: «النباتات انتقامُ الوحدة» وتلاحظ العلاقة الوثيقة التي تجاهلها الشاعر بين صمت النبات والوحدة، وهنا الإمضاء. أو هنا: «الغضب يتأخر والحقيقة تسبق المعرفة». مع أن الغضب أسرع في الأدبيات القديمة (الرأي قبل شجاعة الشجعان). وهنا: «المهربون في حاجة شديدة إلى عناصر الجمارك»،تذكيرٌ بالعلاقة التي جهد المتصوفة بإبرازها ما ين النقائض. ومثلها هنا بالضبط: «الزينة تقيّد اليد كما يقيّد الجمال الجمال».

الحوار الذي أجراه السيد في «أرض معزولة بالنوم» أبدل قيماً بقيم، كنوع من الاستدارة إلى نص الأب وخلق شبكة اتصالات مستترة معه، فأبدل الإيقاع الخارجي بالافتتاح المتكرر للجُمل، وهو ما نوّع من الإحساس باللفظ والنطق. وأبدل البلاغة بالإمضاء، وذلك ما حيل إلى المعرفة والحكمة والغرابة. وأبدل الحكاية بفاعلية العطف والاستئناف فتخفَّف من السرد. هنا اقتراح السيد الجديد الذي يضاف إلى تجربته، ويضاف بالمقابل إلى مستوى الكتابة الشعرية الجديدة، ليس في لبنان، وحسب، بل في مجمل الإنتاج الشعري العربي الجديد.

السفير
فبراير 2008