عابد إسماعيل

نوري الجراح شاعر الوعي الجماليتعكس قصيدة الشاعر السوري نوري الجراح تاريخاً مصغّراً لتطور القصيدة الجديدة في سورية، التي نهضت على أنقاض حساسية جيل الرّواد الكلاسيكية، منتقلةً من ضفّة إلى أخرى، عبر تمثّلها لدرسين جماليين رئيسين، عبّرت عنهما شفوية الماغوط الرّومنطيقية، وبلاغة أدونيس الميتافيزيقية. لكن تلك القصيدة سرعان ما أعلنت عصياناً مبكّراً على نفسها، وعلى هاتين المرجعيتين تحديداً، مع شاعر مثل سليم بركات، الذي حرّر الخطاب الشعري من تلقائيته المجّانية، واتجه إلى فصاحة رفيعة، خالية من التهويم الوجداني والفلسفي، لافتاً إلى الجوهر المجازي للغة الشعرية، لتنحرف الحساسية الشعرية من جديد مع شعراء الثمانينات والتسعينات، وتنحو في اتجاهٍ آخر، تجلّى في صراع محتدم بين نمطين شعريين، يمثلان امتداداً للنموذجين السابقين، أحدهما يمجّدُ جماليات قصيدة الرؤيا، ويدور في فلك البلاغة الكلاسيكية، وآخر يحتفل بالمرئيات، ويستعيدُ جماليات السّرد الشعري، عبر لملمة المهمل والمنسي في التجربة الشّخصية.

ونوري الجرّاح، المولود في دمشق عام 1956، يكشف في ديوانه الأول «الصبي» 1982، جوهر هذا المأزق، من خلال سعيه الى إثبات وجوده، بعيداً من حساسيات شعرية قوية، متصارعة. والمتأمّل في المسار الذي اختطته لنفسها أعماله الشعرية، الصادرة حديثاً في جزءين عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (2008)، يرى جانباً من تطور القصيدة السورية، وبخاصة ابتعادها التدريجي عن تلك المرجعيات المهيمنة. ولم يكن خروج الجراح من دمشق، وذهابه إلى بيروت، ومن ثمّ الى قبرص وبريطانيا، سوى ترجمة رمزية لرغبة الشاعر في الخروج من دائرة آبائه الشعريين، وسطوة خطابهم. بيد أن هذا الخروج لم يكن راديكالياً بما فيه الكفاية، وظلّ شبح الماغوط حاضراً في نصوصه الأولى، لا سيما على صعيد العناية بالتفاصيل اليومية، والابتعاد عن المقولات الفلسفية الكبرى، وتوظيف المباشرة السّردية عل نحو لافت، كما تُظهِر قصيدة مثل «الصبي» المكتوبة عام 1980، التي تطغى عليها النبرة الخطابية: «صباح الخير أيتها المعلّمة/ أنا ولدٌ لا يطيقُ الدروس/ وهاأنذا أمدّ يدي/ لأتناول نصيبي من عصاكِ الساحرة». بل يذهب الجراح إلى مجاراة الماغوط أسلوبياً، معتمداً صوراً شعرية صادمة حارّة وعفوية، عبر توظيف ذكي لكاف التشبيه الشهيرة، كما في قصيدة «لصِبيةٍ ليسوا هنا»، المنشورة عام 1983، التي يعتمد فيها استراتيجية التكرار كوسيلة لاصطياد المفارقة، وتوسيع الهوة بين المحسوس والمجرّد: «بسرعة كالانتباهة/ كولَعِ الموت بالزّهرة/ كالفرحِ/ كالخوفِ/ بسرعة/ كأسبوع سماوي/ كساعةٍ من برتقال/ كانقباضةٍ غريبة/ حيث يتوارى القلبُ كقمرٍ من جمر...».
لكنّ هذا المكوث أسلوبياً عند تخوم الماغوط لم يدم طويلاً. فالجراح مال لاحقاً، وعلى نحو مفاجئ، إلى التجريد، من خلال تفعيل بنية المجاز في القصيدة، والانفتاح أكثر على كيمياء العبارة، بوصفها حدثاً فريداً، مستقلاً بذاته، فتضمحلّ الارتجالية التعبيرية شيئاً فشيئاً، وتبرز معالم نصّ كتابي تتقدّم فيه الصيغة الفنية على الرؤيا الفكرية، ويتضحُ أكثر التزام الشاعر بغائية القول الشعري، بعيداً من ثقل المقولة الجاهزة، التي طبعت تجارب شعراء جيله.

وقد أتاح اشتغال الشاعر في حقل الصحافة الأدبية في بيروت ولندن وقبرص وسواها، له الاحتكاك بحساسيات شعرية عربية مختلفة، يمثلها أنسي الحاج وسعدي يوسف ومحمود درويش وآخرون، حيث عمل على إدارة مجلة «فكر» التي أسّسها هنري حاماتي ونصري الصايغ، ثم عمل في مجلة «الحوادث»، وساهم مع رياض الرّيس وزكريا تامر وأنسي الحاج في تأسيس مجلة «الناقد»، وتناوب على رئاسة تحريرها مع تامر، ثمّ ترأس تحرير مجلة «الكاتبة» لمدة عامين، قبل توقّفها، والتحق أخيراً بمشروع «ارتياد الآفاق» الذي أسّسه الشاعر الإماراتي محمد أحمد السويدي، والذي يقوم على الجمع والتحرير والتحقيق للرحلات العربية إلى العالم، ثم عودته أخيراً إلى إصدار مجلّة «القصيدة»، بعد فترة توقّف طويلة.

ومع اطلاعه على تجارب الشّعر الغربي، وبخاصّة الأكثر انتشاراً في الترجمات العربية خلال عقد الثمانينات، مثل قصائد لوركا ورامبو وريتسوس وإليوت، بدأت رؤياه الشّعرية تنحو منحى آخر، وقد برز هذا جلياً في بنية لغته وأسلوبه. هكذا نجد في ديوانه الثاني «مجاراة الصّوت»، (لندن، 1986)، افتراقاً شديداً عن نصوصه الأولى، وذهاباً جريئاً باتجاه بلاغة جديدة، قوامها اللعب الحرّ، والتجريد اللغوي، والإيغال في التشكيل اللوني والإيقاعي والصرفي، حتى أن القصيدة باتت أكثر انشغالاً بإيقاعات الظاهرة لا جوهرها الفكري: «يا أضواءُ، يا أصواتُ، يا ألوانُ/ تلعبُ بالمياه». وهنا يبرز التكثيف على أشدّه، بصفته طريقة مثلى لتدوين الومضة: «خنجري مرهفٌ/ والأبدُ/ طَلَلٌ غامض». وتتعزّزُ تلك الرغبة بالهروب من المرئي، ومعانقة ميتافيزيقا شعرية متعالية، في ديوانه الثالث «طفولة موت»، (الدار البيضاء، 1992)، المؤلف من قصيدة طويلة واحدة، مقسّمة إلى تسعة وثلاثين مقطعاً، تطغى عليها غنائية حارّة، تتفنّن في الدّمج بين شكل العبارة وإيحاء الصّورة: «الألوانُ تلهو/ بالبياض/ على أسود فسيحٍ/ لامعٍ … بلغنا التطريزَ من أوّله/ بلغنا الوسطَ، قلبَ السّوسن/ والرّجاء «. ويستمرّ هاجس التجريد في ديوانه الرابع «كأس سوداء» (لندن، 1993)، عبر جعل اللغة ذاتها موضوعاً للتأمّل، فبريق الكلمات أشدّ مضاءً من دلالاتها: «الكلماتُ أشخاصٌ في حفل/ يقينٌ أضاءَهُ لمعانٌ». ولأنّ اللغة مخاتلة، ويصعب القبض على مجازاتها، تتآلف مع الهباء لتكتب محوها: «الحدّ هو المعنى/ هو الهباء/». هذا الانشغال باستقلالية القول الشعري تقرّب الجراح من تقليد الشعر الصافي الذي ينبغي أن يحترم ماهية القصيدة كفعل لغوي صرف، قبل الالتزام بفكرتها أو رؤياها. وتبرز هذه النزعة في شكل أوضح في ديوانه الخامس «القصيدة والقصيدة في المرآة» (بيروت، 1995)، وهو يختتم الجزء الأول من أعماله الشعرية. وكما يشير العنوان، فإن اللغة هنا مدعوة إلى تأمّل ذاتها، وكتابة نفسها بنفسها، ومعانقة البياض الغامض، في نص يعتمد أسلوب الشذرة الخاطفة، المقطّعة الأوصال، التي تغيب وتتلاشى كالصّدى: «يدكَ اللامسة الموتَ/ زهراتٌ كَسَرت الطقسَ/ وأضاءتْ بياضاً قديماً/ مسرىً للرّعشةِ في الرّخام/ وفراغاً لسقطة الحارس».

هذا التأمل في اللغة الشعرية يفتتحُ ديوانه السادس «(صعود أبريل» (بيروت، 1996)، والذي يفتتح بدوره، الجزء الثاني من هذه الأعمال الكاملة، إذ تبرز من جديد رغبة الجرّاح في التجريد، والبحث عن وقع الجملة ورائحتها ولونها، قبل التأكّد من رسوخ معناها وحضوره: «نمَ في جمانِ الوقت/ نم في رخام الماء/ الموتُ حمل ثيابي/ الموتُ رفعَ قوسي/ الموتُ دفعَ وتلقّى نهضةَ المنحدر». المعنى هنا لا يكتمل، والنبرة جاءت حائرة، متشظّية، يهمّها القبض على ذاك البريق الذي يتركُهُ انزياحُ الدالّ عن المدلول: «ما قلتُ لم يكن كلامي/ ولم يكن صمت أحدٍ/ لم يكن/ لي صوت/ غير هذا الذي لم يُسمع/ لكنه سقط/ وضوّت كِسَرُهُ.» وتتناسخ أكثر هذه الكسور المضيئة في ديوانه السابع «حدائق هاملت» (1997)، وتسمح للجراح بالتخلّص من بلاغة القصيدة الرومنطيقية، والاقتراب من جوهر التناص الشعري، المتمثل بحضور أسماء أسطورية وأدبية وتاريخية كثيرة في قصيدته، تغني الخطاب الشعري، وتجعله أكثر إشكالية، فتحضر مثلاً أوفيليا المنتحرة، التي فقدت عقلها بعد أن هجرها حبيبها هاملت، ويستعيد المتكلّم مونولوغاته الفلسفية، التي تركّز على عقل حائر، وممزّق بين الإفصاح والتكتّم.

أما في ديوانيه الأخيرين «طريق دمشق»، و «الحديقة الفارسية» (بيروت، 2004)، اللذين يختتمان أعماله، فنلحظ تطوراً كبيراً في الأسلوب ونضجاً لافتاً في التجربة، حيث يتّسع مدى الخطاب، وتتنوع هواجسه، والأهم من هذا وذاك، يبرز وعي جمالي متقدّم بقدرة اللغة على تجميد الزّمن وتجاوزه. في مقدمته النقدية لهذه الأعمال يكتب الجرّاح: «في حركة الكلمات يتحوّل الزمنُ بكلّيته إلى حجر. ليكن ماساً، لكنه حجر يطوّح به الشاعرُ نحو الأقصى من الوجود، ونلمحه في الشعر كشهاب يندفعُ، ونسمّيه، مثل انخطاف القصيدة نحو جاذبية طاغية». تلك الإقامة في الانخطاف تعني التواري خلف الكلمات، وتأجيل واقعية الملموس والمحسوس، وابتكار واقع بديل قوامه فصاحة البياض، ووميض اللغة على حجر المعاني، عبر تفاعل الصّورة مع الصورة، والرّمز مع الرمز، من دون الإيغال كثيراً في البلاغة الجوفاء. هذا ما تتوّجه شذرة بعنوان «جهة الكلمات» تصلح توقيعاً اختتامياً للأعمال الكاملة، وفيها يكشف الجراح عن عشقه اللغة بوصفها حدثاً فريداً يصنع العالم: «في قيظِ اليقظةِ، في سمتِها، في فؤادِ الرّاكضِ، في الحتفِ لما يلمعُ في الآسر، في انكسارِ الألقِ، في تفلّقِ الصّدفة، وهيامِ الغريق، في حسرة اللؤلؤة/ أحبكِ، أيتّها الكلمات».

الحياة
01/06/2008