ديمة ونوس
(سوريا)

غربة الكاتب العربيليست «غربة الكاتب العربي» قضية استثنائية. وقد تناولتها العديد من الدراسات في محاولة لفهم أزمة المثقف العربي والاغتراب الذي يعيشه داخل وطنه وخارجه. إلا أن الكاتب السوري حليم بركات الذي يعيش في غربته الاختيارية، قدّم في كتابه «غربة الكاتب العربي» الصادر عن دار «الساقي»، مجموعة من الدراسات القيّمة حول «غربة» بعض الكتّاب العرب. تلك الغربة القسرية أو الاختيارية أو حتى العبثية التي يعيشها المثقف العربي في ظلّ أنظمة ديكتاتورية ومجتمع مفكك ومدجّن ومحبط. يطرح الكتاب أمام القارئ العديد من التساؤلات الصعبة والشيّقة في آن. خاصة وأن صدوره يأتي قبل أشهر من اندلاع الثورات العربية. وبالتالي تبقى بعض الأسئلة مفتوحة أمام قضايا فرضتها الثورات العربية المتلاحقة عن غياب دور المثقف. من جهة أخرى، يكتسب الكتاب أهمية إضافية كونه يطرح مسألة «الغربة». وبالتالي يتساءل القارئ إن كانت تلك «الغربة» هي سرّ غياب المثقف العربي عن الشارع، واختبائه في مقالاته وكتبه وأدبه وربما وحدته أو وحشته. كما يتساءل القارئ والمتفرّج والمراقب عن طبيعة تلك العزلة. هل تتصف بالقطيعة والانفصال أم أنها مجرد مسافة تتيح للمثقف تأمل ما يحدث وابتلاع التطورات الكبيرة المتسارعة؟

الغربة

يتجنّب بركات في كتابه تناول النواحي الفنية لدى أبطاله، مستغرقاً في عوالمهم الداخلية. كان معنياً بـ«غربتهم» المخفية. يلفظونها بلسان شخصياتهم وإبداعاتهم. لذلك ربما اختار بركات شخصياته بدقة مفرطة. «الغربة» في شعر أدونيس وفكر هشام شرابي وإدوارد سعيد وجبران خليل جبران. في رواية جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف والطيب صالح ومسرح سعد الله ونوس ولوحة مروان قصّاب باشي. وقد أعطى لأدونيس حيّزاً رحباً، مستفيضاً في تحليل عالمه وطبيعة شخصيته وعقليته ورؤياه. يطلّ على تلك الغربة من نافذة الشعر ومن خلال صداقتهما الطويلة. ليخلص إلى أن ميزة أدونيس الأساسية هي حالة الرفض التي يعيشها. يرفض الآلهة ويلغي الخطيئة. يفضّل الهرب إلى الموت على أن يصبح ظلاً في مملكة الطغاة. ينبذ الأقنعة والقشور والتحجّر. يختار العيش غريباً وتائهاً. لا بل ويستمتع في تيهه. كتب مرة في إحدى رسائله لحليم بركات: «هل تحزن إذا قلت لك إنني ضائع في هذه اللحظة؟ أو لعلّك تفرح، لأنك، آنئذٍ، تلتقي معي في الضياع... أدعو لك بمزيدٍ من الضياع.. إن تاريخاً كاملاً من الحضور، تمحوه لمحة من الضياع».

وفي حديث مسائي جرى بينهما سنة 1959، يقول له أدونيس: «أفضّل أن أظل في الشارع على أن أعود إلى بيتي، ففي البيت أذهب إلى زوجتي ـ أفضل نساء العالم ـ وإلى طفلتي فأشعر بالراحة والطمأنينة والبراءة. أما في الشارع فأشعر أنني قلق وهذا أفضل للشعر». من هنا، تبدو «غربة» الشاعر أدونيس في أوضح صورها. ذلك القلق وتلك الغربة أو الوحشة ربما، تحرّض لديه الشعر والإبداع. يخاف أدونيس من الطمأنينة والاستقرار. الطمأنينة تقتل الشعر. انطلاقاً من النقطة هذه، يتساءل القارئ عن مفهوم «الغربة» التي يطرحها بركات في كتابه هذا. وهل هي أزمة يعيشها المثقف العربي مكرهاً أم أنها نعمة إذ تمنحه عوالم وحيوات أخرى، والأهم أنها توفر له مسافة ضرورية ليرى مجتمعه الأصلي بشموليته، متحرراً من الرقابة؟ يقول بركات في فصل «الكاتب العربي والسلطة»: «إن الاضطهاد العنيف المباشر في الدول المحافظة التقليدية لا يقضي على الأدب. على العكس، يبدو أنه عامل مهم في نموّه. ما حدث في العراق (يقصد الكاتب فترة الخمسينيات حيث بلغ الأدب العراقي درجة فنية رفيعة، على أيدي أدباء عانوا الاضطهاد مثل بدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البيّاتي وبلند الحيدري) سبق أن حدث في روسيا القيصرية، وفي فرنسا قبل الثورة، وربما كانت هذه العصور تمثل قمة النضج الأدبي في المجتمعات المذكورة».

مسألة الحريات تلك، تبعث على تأملات حول جدوى النفي الاختياري. هل يصبح الكاتب أو المثقف أكثر جرأة مما كان عليه في وطنه؟ هل تضفي المغتربات على الإبداع طابعاً أعمق أو أصدق أو أشجع؟ في إحدى الرسائل بينه وبين عبد الرحمن منيف، يقول بركات: «الحياة خارج الوطن هي مثلها داخله: نفي واغتراب ورفض متبادل. وقد ذكرتني روايتك «الأشجار واغتيال مرزوق» كثيراً بوضعي قبل وبعد السفر.. وما أشد العلاقة بين مؤسسات بعض الطبقات الحاكمة في الوطن العربي ومؤسسات الامبريالية...».

الربيع العربي

ثمة سؤال محيّر أيضاً تفرضه الأحداث الأخيرة التي قلبت المفاهيم في كثير من البلدان العربية: لو عاد الكاتب العربي من «الغربة» و«المنفى» إلى وطنه بعد سقوط الأنظمة التي طردته أو التي اختار الهرب منها، هل سيعثر على ذلك القلق الذي تحدث عنه أدونيس؟ هل القلق أمر ذاتي أم يتعلق بالمحيط الذي نعيش فيه؟ هل الاضطّهاد هو فعلاً المحرّض الأهم على الإبداع أم أن الحرية التي يعيشها المنفيون في الخارج، هي المناخ الأنسب لإعادة صياغة النفس؟ وفي جميع الأحوال، تبدو الإجابة على هذه الأسئلة محاولة عابثة وغير مجدية. فمن يعيش في الداخل يحسد من في الخارج، ومن يعيش في الخارج يحسد من في الداخل. إضافة إلى ما تطرحه مسألة «الغربة» من تساؤلات حول مفهوم «الهوية». وحول غربة اللغة ونفيها، كما هو حال الروائيين المغاربة الذين فرض عليهم النفي في اللغة الفرنسية، مثل محمد ديب وآسيا جبّار ورشيد بوجدرة والطاهر بن جلّون. أو كما حدث مع رواية «الخبز الحافي» لمحمد شكري. إذ ترجم المخطوط إلى الفرنسية الطاهر بن جلّون قبل سنوات طويلة من نشره باللغة العربية خوفاً من المنع والقمع والإلغاء. ولا يزال الكتاب حتى يومنا هذا ممنوعاً في أغلب البلدان العربية. لذلك ربما مزج حليم بركات في كتابه بين المعنى الحرفي للـ «الغربة»، والمعنى المجازي. مزج بين غربة الكاتب في المنفى والغربة التي يعيشها في وطنه الأصلي. غربة الخارج وغربة الداخل. متسائلاً: «هل يمكن الفصل بين الكاتب والكتابة؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل بينهما، فهل يجوز أن نعتبرهما واحداً نتيجة لعملية متواصلة من الاندماج الكلي؟ وإذا لم يكن من الممكن الفصل أو الدمج، فكيف نفهم العلاقة بين الكاتب والكتابة كتعبير عن الذات، وبين الذات والواقع في مختلف أبعاده؟ أليست الكتابة عملية خلق وإنتاج في آن واحد؟». نستشف هنا معنى آخر للغربة التي يتحدث عنها بركات. وهي تصالح الكاتب مع إبداعه. هل ثمة غربة بينه وبين ذلك الإبداع؟ يرى بركات أن أدونيس اختار أن يكون صادقاً، وها هو يحتضن العالم عارياً في الداخل والخارج. الفواصل تهدمت بينه وبين نفسه من جهة، وبينه وبين العالم من جهة أخرى.. فواصل النفاق والكذب والمراءاة والدجل تهدمت. جلد الحرباء ثقب؛ الأقنعة حرقت. أيضاً في عوالم جبرا ابراهيم جبرا يقول بركات: «كما لا تنفصل الكتابة عن الكاتب (والعكس صحيح)، كذلك الرواة في أعمال جبرا لا يستقلّون عنه فنجد دون جهد كبير بصماته في كل مكان من جسد المرويات. المؤلف هو الراوي، وعندما يتعدّد الرواة في العمل الروائي يكون المؤلف راوي الرواة دون منازع فارضاً ظله على كل من حوله».

يشترك أبطال الكتاب بمن فيهم حليم بركات نفسه، بفعل الهرب. أحدهم يهرب من الحاضر «المرير» إلى الماضي. وأحدهم يهرب من الواقع إلى الحلم أو الوهم. ومن الموت إلى الحياة. ومن الاستقرار إلى القلق. الحياة قلق والموت ركود. وجميعهم يستخدمون إبداعاتهم كوسيلة للهرب. الهرب بمعناه الأوسع. الهرب إلى الوراء. إلى الطفولة والوطن. الهرب إلى تلك العوالم وليس منها. وقد تحمي الغربة صورة الوطن في مخيلتنا. لكنها في الوقت ذاته، قد تحوله إلى أيقونة نعلّقها على الحائط، نتأملها، نحنّ إليها، لكننا لا نعيش مشاكلها عن قرب وربما تبهت ألوانها مع مرور الوقت. يتحدث حليم بركات عن تجربته فيقول: «وفي المنفى الطوعي، أصبحت أسيرَ حنيني إلى الوطن وانشغالاتي بقضاياه، وعندما تنصحني الحبيبة بالتحرر من هويتي الذاتية ورواسب الماضي، أجيب «الذاتية لا يمكن. أما ما تسمّينه رواسبَ فأسمّيه جذوراً. لذلك أحببت شجرة الصفصاف». وفي مكان آخر يقول: «ما يزال تعدّد الأصوات غير مقبول في الوطن، والاختلاف ليس حقاً بل نشوز، وفسحة التحرك محدودة، والإبداع بدعة، والانتماء، ذا بعدٍ واحد. لذلك لا أعرف حقاً أيهما أشدّ قسوة: المنفى أم الوطن».

أما عن غربة جبران خليل جبران، فقد فرضها الفهم الخاطئ لفكره والاستغلال الذي تمارسه المؤسسات والنخب السياسية والاقتصادية لترسّخ شرعيتها. فمثلاً، حين أرادت وزارة السياحة اللبنانية في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات أن تقيم مهرجاناً تكريمياً لجبران، استدعت عدداً كبيراً من النقاد والكتاب. وطُلب إلى الكاتب حليم بركات أن يشارك فيها. فاشترط أن يكون «تمرّد» جبران هو عنوان مداخلته. إلا أنه لم يسمع جواباً من اللجنة المشرفة. «أرادوا دفن جبران المتمرّد، فلن يقبلوا أن تبعث كلماته الثائرة لتهدّد مؤسسات الإجماع». يقول بركات. مضيفاً «منذ سنوات وجبران خليل جبران يعيش عزلة مضجرة في مكان قصيّ يصعب الوصول إليه من مدينة واشنطن. ليست هي تلك العزلة التي أحبّها وكتب بوحي منها، بل هي من نوعية هزيلة خانقة لم يخترها لنفسه، بل فرضت عليه فرضاً. وجبران الذي حرّر مخيّلة آلاف من الكتّاب والقرّاء جيلاً بعد جيل في العالم العربي وخارجه، كيف يمكن أن يتحرر من النصب البارد المهجور في بقعة قصيّة من مديــنة واشنــطن؟». هو الذي قال عن نفسه «أنا العاصفة التي تقتلع الأنصاب».

السفير
27-1-2012