أعطوني أموالكم وأرواحكم أيها القرّاء

تشارلز بوكوفسكي

تشارلز بوكوفسكي

المختارات الشعرية الصادرة حديثا لتشارلز بوكوفسكي، عن "دار الجمل"، تشكل نوعا من إضاءة مختلفة عن كل ما نشر سابقاً من ترجمات لهذا الشاعر. تلقي "الحب كلب من الجحيم" (ترجمة سامر أبو هواش)، المزيد من الأسئلة وتقرّبنا أكثر من بوكوفسكي الأكثر إثارة للجدال والشغب في المقابلات التلفزيونية والمحاضرات. القصائد المختارة تمّ استلالها من أعمال بوكوفسكي الآتية: "الاحتراق في المياه، الغرق في النار"، "الأيام تعدو هاربة كجياد جامحة على التلال"، "الحب كلب من الجحيم"، "الليلة الأخيرة على كوكب الأرض" و"أكثر ما يهم مهارتك في عبور النيران".

لا ينفصل مسار حياة الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي، عن شعره. فإذا كان تأطير الذاكرة الخاصة، باللغة المناسبة، المتثاقفة والمتوارية في الرمز والابهام، تقنية لا يفلت منها معظم الشعراء، حتى لتصبح أحيانا شرطا لقبول القصيدة، على اختلاف منهجها، فإن هذه المعادلة لا يقبل بها بوكوفسكي، أو لا يلتفت إليها من الأساس. الشعر عنده لا يحتمل مفهوم الصناعة، بقدر ما يحتمل انتقالا مدبلجا لصناعة جاهزة. هذه الدبلجة أو الترجمة التي تجعله أحيانا كثيرة غير آبه بمرسى قصيدته، على المستوى الشعري، وليس السردي، تخضع دائما للشخصي، فتؤلف وعيه الشعري كموقف من حياته العالق داخلها أولا، وهو موقف ينسحب لاحقا على حياة مفترضة، في الضفة الأخرى تماما، لربما كان مقدّرا له عيشها لولا بعض تفاصيل طفولته ومراهقته.

تشارلز بوكوفسكي

لا يمكن قراءة تشارلز بوكوفسكي الشاعر من دون أن نتوقف عند المناخ الداخلي، لقصيدته، والذي يجب رفعه إلى مستوى السر، للتآلف مع المكتوب شعريا، إن لم نصدّق أنه شعر. الصناعة الأوتوماتيكية للقصيدة، يجري العمل عليها من خلال تجربة ذاتية، تشترط الفشل، كمحفز لشحنها، وتغذيتها بالطاقة التي تتصيد المحسوس، والمعيش، لإطالة مساحة النص الشعري، وهيكله في بعض الأوقات. هذا يكفي لأن يصير الشعر، اللامنبري، منبرا داخليا، نفسيا لا يخرج إلينا عبر الصوت، بل عبر التأمل.

صوت تشارلز بوكوفسكي الشعري، الأعلى، يختزل أصواتا خافتة أو عديدة. وعندما نتحدث ههنا على الأصوات، فذلك ليس على مستوى مجازي، بل مادي بحت. هو صوت عام، يتلمس بأصابعه فئة من البشر، المظللين بالأسى والبؤس والتشرد والفقر المدقع. لسخرية القدر، إن أولئك ربما لم تتح لهم فرصة شراء بعض كتب بوكوفسكي وقراءته، منذ قصيدته الأولى التي كتبها متأخرا في الخامسة والثلاثين. لذلك فإن تشارلز بوكوفسكي جعل من العالم السفلي، محترفا شعريا لتعميم ألمه في غيتو وجده حقيقياً وجاهزا وملائما له.

يمكن القول إن تقنية بوكوفسكي في الكتابة الشعرية، تضعنا أمام مساءلة من عيار ضخم. هل نحن فعلا مهيأون لاستقبال الشحنة العاطفية الشعرية، التي تملأ جانبا من القصيدة، قبل بداية القراءة؟ هل يعمل الدماغ على تهيئتنا لحظة دخولنا لقراءة شعرية، ونتجهز تالياً لاستقبال المقروء؟ أم أن المقروء في حد ذاته، هو ما يحفز النشاط النفسي والعقلي نحو التفاعل مع العاطفة من خلال ما نستقبله لاحقا في القصيدة؟ يحق لنا إطلاق مثل هذه الأسئلة، سواء أحببنا بوكوفسكي المؤسس لتوجه مغاير في الكتابة، أم لم نتفق مع منهجه .

لم يكترث بوكوفسكي، لرواد الشعر الأميركي الذين عاصروه، وسبقوه إلى الشهرة، كبوروز وكرواك وغينسبرغ وكورسو وفرلينغتي باحتكامهم للانصهار في كانتونات أو تيارات أدبية (the beat generation) أو شعرية لم تلبث أن تسلحت بالايديولوجيا كمبرر يسند لغتها الشعرية، أو الأدواتية من أي ريح عاتية أو تغييرية في المستقبل القريب. كان الجميع آنذاك مدركا لدينامية العجلة السياسية وتحالفات الدول والتسلح الشديد الكلفة. تلك كانت عوامل تطحن أمما وترفع من شأن أخرى، منذ مطلع القرن العشرين والحربين العالميتين. غني عن الذكر ذلك الكم من النظريات والرؤى السياسية التي طفت على صفحة العالم، نحو السيطرة على أدوات الاقتصاد، ومصادر الطاقة والمواد الأولية للصناعات الثقيلة. كان هناك سباق مخيف نحو احتلال الكوكب، إيديولوجيا أو استراتيجيا. لكن بوكوفسكي، لم يكن مهيأ للالتفات نحو ذلك كله بسبب العزلة التي فرضتها عليه تفاصيل عدة من حياته مذ كان طفلا، ومنها العوامل التي عززت شعوره بالدونية: وضع الأب الاجتماعي بعد الكساد الكبير عام 1929، نوبات الضرب المتكررة لبوكوفسكي الصغير، حتى يضطر أخيرا إلى منازلة أبيه ندا لند، ليتبادلا اللكمات، وليتوقف الأب بعد ذلك، عن ضربه. موقف الأم التي لم تكن لتتدخل بين الأب والإبن.

إصابته بانتشار مرض حب الشباب في أنحاء متفرقة من جسمه، مما وضعه على الدوام خلف قفص وجه قبيح، يصعّب علاقته بالاصدقاء والفتيات والعالم. محيطه الفقير المهمل بسبب تركه الجامعة، وعمله في مهن جعلت منه كائنا يتعرف إلى خلايا المجتمع المقهورة والمهمشة، مما دفعه قدما نحو محاولة اختراق صورة العالم النقي بكتابات لن تقبلها الصحافة الأميركية أول الأمر، قبل أن تترجم أعماله الى الألمانية واللغات الأوروبية الأخرى.

لم يأت بوكوفسكي من إحدى خلاصات الإيديولوجيا. هو شاعر ذو خلفية سوسيولوجية قائمة كجزء من الواقع، تتفوق على كل اجتهاد فكري محتمل لتأسيس تيار شعري أو التأثير في حركة فنية ما. هذه الرقعة السوسيولوجية ما لبثت أن كرست نفسها، وجوديا، عنيدة، وساعية الى الحياة، كأي مجموعة بشرية مؤدلجة. وهي بذلك رقعة وضيعة، يُنظر إليها كطفيلي مجتمعي، أو غير جدير بالحياة. وهذا ما أخّر قبول المجتمع الأميركي العام، لشكل فني - شعري، ينقل الجملة إلى وظيفة أخرى، تكشف أكثر مما تضلل تحت ذريعة الصوغ والجمالية والابتكار. الشاعر الاميركي الذي غُيِّب طويلا في أميركا بسبب مغايرته في الأسلوب، وفرادته بطريقة كتابة عنيدة وصعبة القبول لبساطتها، لم تكن قصائده لتتنازل عن أشخاص محيطه، أراد أن تعيش قصائده كما يعيش هو حياته. بقي أن امتداد روح القصائد، يتخطى كل حقبة ممكنة. لأن الحياة لن تنحاز في المطلق الى فئة اجتماعية دون الأخرى. ولأن العالم لا يمكن أن تحتويه فئة واحدة من أفراد يحيون على مستوى واحد.

كان بوكوفسكي يغرد في غابة أخرى، غابة أكثر عريا، وبردا وتنقلا، وهي لا تتيح الفرص ولا تحمي ساكنيها، بقدر ما تستدعي آلية أصعب للبقاء، وهي الغابة الأكثر وضوحا من النظريات الخاضعة للجدال أو للتبدل في استراتيجيات السياسة والاقتصاد، أو الفكر. لذلك، فالشعر لا يشكل حالة منعزلة عن التنفس. والشعر الذي يصل إلينا محمولا على طبق من البساطة، والسلاسة وتناغم الصور، يشترط المرور بأقسى مراحل الحياة وتجاربها، غير أنه بدلا من أن يكتفي بكونه لسان تلك القسوة، نراه يتجاوز كي يتفرد صانعا كيانه الخاص ووحدته الجمالية، التي لا تضاهيها وحدة أخرى. لسبب بسيط هو أن شاعرا ما لن يقدر على العيش كما بوكوفسكي.

لم يجعل بوكوفسكي من حياته منطقة مسيجة بلقب الشاعر. لم يكترث بتاتا لتلك المكانة التي توفرها المجلات الأدبية، أو الدراسات او المقابلات الصحافية والتلفزيونية، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن علاقة الشاعر بقصيدته، كانت على مستوى رفيع من الذاتية، على رغم ان تعميمها على الجمهور، وقدرتها على التأثير، لم يشكلا العامل الذي يمكن اي شاعر ان يتسلقه نحو المجد. لم يتسلق بوكوفسكي الأكتاف نحو الشهرة، بل على العكس. الشهرة هي التي زحفت بحثا عن ذلك الشاعر. وكانت أفعاله العلنية، أثناء المناقشات الجامعية، او الأمسيات، تقرّب الناس منه. ذلك لأنه لم يكن سوى الجزء الموجود داخل كل منا، والذي نخافه جميعا، وهو الجزء الوقح أو القليل التهذيب. تراه يدخل ذات مرة، مثلا، إلى إحدى القاعات ليلقي شعرا، فيبدأ بالصراخ على الجمهور: "أعطوني أموالكم، أعطوني أرواحكم". في النهاية، نحن قد نقرأ قصيدة لبوكوفسكي، ونضحك. لكننا لن نعرف أبدا ملامح وجهه، الملونة بالألم المؤكد، عند كتابتها.

مازن معروف
النهار-16 مايو 2009