نور الدين محقق
(المغرب)

نيران صديقةيصر الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار على السير بقصيدته في أرض خاصة به، تتميز بخصوبة التربة وهطلان المطر عليها وقت الحاجة إليه. بعد ما أصدر ديوانين متميزين، الأول "أخيرا وصل الشتاء" عن وزارة الثقافة المغربية عام 2004 والثاني "أنظر وأكتفي بالنظر" عن "دار الحرف للنشر والتوزيع" في المغرب عام 2007، ها هو يصدر هذه السنة ديوانا جديدا، لكن هذه المرة عن "دار النهضة العربية" في بيروت، بعنوان ملتبس: "نيران صديقة". يقول عن هذه النيران الصديقة في القصيدة الأولى من الديوان ما يأتي: "سنرفض هذا العالم/ لأنه يرفضنا/ وسنبقى غرباء إلى أن نموت/ ليس لنا من خيار آخر/ فالحمام الذي يطير من أيدينا/ تصيبه دائما نيران صديقة/ لم نعد نثق بالخشب/ الأعمدة القديمة تتهاوى / النوافذ التي نفتحها بالنهار/ يغلقها ظلام الليل/ الأبواب ترتجف بلا سبب والكراسي هي الكراسي/ الجذع الذي كان في الغابة/ أصبح طاولة في البهو/ والذئاب التي كانت تتمسح به هناك/ غيرت فروها وظلت تتمسح به هنا/ النيران تلتهب في داخلي بينما الصقيع القاسي فحسب هو ما يحيط بي/ هل قدري أن أموت أخرس كما عشت؟".

هذه النيران الصديقة هي التي تحكم بنية الديوان بأكمله، فالشاعر يصور العالم برهافة الشعراء الذي يسعون الى إعادة ترتيب معالمه وفق رؤية مليئة بالمحبة، محاولين إبعاده عن الدمار الذي يحيط به من كل جانب ويفقده شحنة الحب التي يمكنها أن تمنحه روعة الوجود. لا يخاف الشاعر الماضي على رغم الظروف التي أحاطت به وتجلت فيه، فهو قد أصبح معلوما. يخاف الآتي، لأنه مليء بالمفاجآت. الآتي قد يكون حقيقيا أو رمزيا، وقد يذهب بكل الأشياء الجميلة ويجعل الحياة جوفاء. هكذا يحضر الخوف داخل قلب الشاعر. لا يرتبط بالذات الفردية، بقدر ما يرتبط بالجماعة الإنسانية في بعدها الكوني الكبير. فالشاعر ابن للعالم وصديق له. يقول في هذا الصدد: "لست خائفا مما مضى / لكنني خائف مما سيأتي/ أخاف أن أضع يدي في جيبي فتلسعني العقارب/ أخاف أن أخطو في اتجاه البهو فتصعقني الكهرباء/ أخاف أن أفتح لك الباب فتدهمني دبابة/ غصن شجرة السنديان يتخذ شكل البندقية/ والعصافير التي تطير فوقنا/ تشبه القنابل التي تسقط من السماء/ لذلك فشعوري اليوم/ هو شعور رجل يستسلم قبل المعركة/ ربما لا ترين الأغلال في قدمي/ لكن شفتيّ تتمتمان بلعنة لا نهاية لها/ تعالي معي إذاً لنجوس التل / ونلعن كل الذين أوقعونا في هذا الشراك".

يصف الشاعر عالما مليئا بالدمار، لكن داخل هذا العالم هناك دائما حضور للأمل الكبير المؤسس على الحب تجاه الحبيبة، وتالياً تجاه الحياة بكل عنفوانها. تتبدى الحبيبة هنا في شفافية عميقة تجعلها أقرب إلى الأنثى المؤسطرة، الآتية من عمق الأسطورة أو الذاهبة إليها. وبقدر هذا العمق الذي تحمله داخلها، تظل البساطة الصفة الملازمة لها، وهذا ما يقرّبها من إحساس القارئ ويجعله يراها بعين الشاعر العاشقة، أي عين الرضا، التي لا ترى إلا الجمال. يقول الشاعر مخاطبا هذه الأنثى المنفلتة كما الظلال: "مثلما يلمح الراعي في غفوته/ أميرة تستحم في النهر/ ألمحك/ رغم الضباب الكثيف بيننا/ وأمد يدي إلى يدك رغم الجدار/ وأقبلك حتى من دون أن أراك/ عيناك هما عيناك/ وليس في مقدوري أن أصفهما/ ربما لم تتغيري كثيرا / لكن شعرك صار طويلا مثل قصائدي". يريد الشاعر من الحبيبة أن تأتي، ذلك أن حضورها قد يمنح هذا العالم معنى آخر جديدا، يتمثل في الحب الذي يجعله الشاعر منبع الحياة، وفي غيابه لا يمكن الحياة أن تستمر. فهي حتى لو استمرت، فستفقد سر كينونتها مما يجعلها بلا طعم. من هنا، فالشاعر في قصائد هذا الديوان التي تتجلى في أربعة نصوص طويلة، تنساب بشكل شعري ممتد، يرتكز على عنصري المناجاة والتحاور مع الحبيبة، إذ الكون لا يمكن أن يستقيم إلا بهما معا، كما يستحضر الصوت الآخر، المناقض لهما، وهو صوت الذئاب وصوت لسعات العقارب: "هل كنا على خطأ حين أغمضنا عيوننا عن الذئاب/ وجلسنا نطعم السناجب وصغار الحساسين؟ / هل كنا واهمين حين عدونا في اتجاه الشمس/ وطفقنا ندس أقواس قزح في الجرار؟".

تحضر الكتب بشكل لافت، ويخاف الشاعر عليها من التلف، فهو يشعر بأنها مهددة بالفناء، وهو مسؤول عن ضرورة بقائها على قيد الحياة: "إنني أنام على سرير في غرفة عالية/ ومع ذلك أحدس أن طوابير من الأفاعي/ ستصعد الأدراج وتلدغ كتبي/ كم سيكون مؤلما لهؤلاء الشعراء المنتحرين/ أن يموتوا أيضا بلدغة أفعى/ وأولئك الذين علقت صورهم على مداخل الغرف/ سينظرون إليَّ بعتاب".

لغة شعرية متميزة تنبني على طول العبارة وعلى بساطتها في الآن نفسه، كما تتميز بعمقها المؤسس على الاستعارات العميقة التي تتخلل بنية الكلمات وتشيد انطلاقا منها صورا أخاذة.

النهار
7 يوليو 2009


إقرأ أيضاً:-