منير بولعيش
(المغرب)

(قالوا إني كنت طفلا من نار، يسكن بيتا من دخان)
م. وساط

مما لا شك فيه أن جيل الثمانينيات من الشعراء المغاربة، كان صاحب دور محوريّ في تحقيق قفزة نوعيّة بالقصيدة المغربية و ذلك بفضل نتاجه المتفرد الذي استطاع من خلاله تحقيق بصمة مائزة عن الإقتراحات الجمالية للأجيال الشعرية المتقدمة عليه، حيث تورط العديد من شعراء هذا الجيل في أفق إبداعي مشرع على رهان الحداثة بتحولاتها و مغامراتها الجمالية المختلفة، و إذا ما تأملنا نتاج بعض شعراء هذا الجيل كصلاح بوسريف، جلال الحكماوي، وفاء العمراني، إدريس عيسى، محمود عبد الغني، الزوهرة المنصوري، حسن الوزاني، عبد العزيز أزغاي، مبارك وساط... فإننا بالتأكيد نستطيع استشفاف الكثير من خصائص هذا الأفق الشعري المغاير و هذه (الجمالية المعارضة) وفق تعبير صلاح بوسريف.

و أنا لا أسوق هذا التمهيد هنا فقط من أجل تحديد الموقع الأجيالي للشاعر، و لكن للتأكيد أيضا على أن التجربة الشعرية لمبارك وساط تدلّ بحق، على سياق جمالي متفرد في المشهد الشّعري المغربي و التي يبقى ديوان (فراشة من هيدروجين) أحد تمثيلاتها الأبرز.

فراشة من هيدروجين:
فراشة من هيدروجيكيف يمكن التسلل إلى أسرار قصيدة مبارك وساط و شرح طلاسمها؟ كيف يمكن الإحاطة بكل هذا الشّطح السّوريالي الذي تزخر به أضمومته الشعرية الأخيرة (فراشة من هيدروجين)، الصادرة حديثا عن دار النهضة العربية في 97 صفحة من القطع المتوسط، كيف يمكن لنا العثور إذن على المداخل الأساسية إلى هذا البرزخ الحلمي، الهذياني، الملغي لكل القرائن التي قد تساعد القارئ على تفكيك هذه العمارة الشعرية المكتفية بذاتها و المضمرة لمعنى يتوه بين تضاعيف متن ينبني على توظيف ساحر للرمز و انزياح مفارق للكلمات، يجعلني في حكم المتيقن بأن قصيدة مبارك وساط تمتح مادتها الأساسية من خلفية جمالية/معرفية وثيقة الصلة بالإرث السوريالي و ربما يكون في العودة إلى دواوينه الشعرية السابقة: (محفوفا بأرخبيلات ـ على درج المياه العميقة ـ راية الهواء) ما يؤكد هذا الطرح، الأمر الذي يجعلني أكاد أجزم (رغم ما في هذا الأمر من مجازفة) أن قصيدة مبارك وساط تنكتب بطريقة أوتوماتية لاواعية و هو ما يجعلها تبدو على المستوى السطحي الظاهر مفرغة من أي معنى، رغم أنها في العمق تبطن كلّ المعنى، يقول مبارك وساط في قصيدة (أصنع سهاما):

(من شعري طارت فراشات
لتزعج الجندي
فراشات تلسع و تدمي
و حين أكون قريبا منها
تزداد ضراوة
هكذا بدأت أثير
الريبة
لم أكن قط مستكينا
و ها أنا الآن أصنع سهاما
من قطرات نبيذ) ص 28

تنكتب قصيدة مبارك وساط إذن وفق رؤية جوانية خاصة و نظام داخلي خاص بالذات الشاعرة، مؤسسة لشعرية تحتفي بتعدد الدلالات التي لا تتأتى فقط من التجاور المفارق للكلمات بل من تفاعلها أيضا، و هو ما يحتاج في الواقع إلى قراءة متأنية واستراتيجية تلقي توازي استراتيجية الكتابة عند الشاعر، لأن الديوان أقرب ما يكون إلى (غيتو) جمالي اجتهد وساط في طمس منافذ الوصول إلى أسراره لكون عملية الكتابة عنده تتأتى كما يبدو لي من حالات ذهنية و شعورية مركبة، و هو ما يمنحه تلك الكيمياء السحرية التي تجعل الشاعر (كما تدل على ذلك أغلب قصائد الديوان) يحل أواصر العالم على هواه، ثم يجمعها في نفس الوقت على هواه، ليؤسس عالمه الشعري/الحلمي الموازي و البديل، و ليطوح بالزمان و المكان و يصنع زمكانه الخاص:

(أحيانا، أستدرج كوابيس
إلى غرفة نومي
صمتي جبل
مكسو بالجليد
فما علي إلا أن أمسك عن الكلام
لأتزلج و أنتشي
لكن أمتع من هذا
بعض الكوابيس التي تندثر فيها
سلالات
و تتبخر جزر مغناج
و تتذكر الصحراء البحر
بحنين) ص 38

يمتاز نص مبارك وساط كما قلت، بقدرته الفريدة للتأويل على أكثر من مستوى، و هو ما يضلل القارئ في الواقع و يذهب به في سياقات مختلفة، لكن و مع ذلك فإننا نستطيع أن نلتقط بعض الخيوط السرية التي توجه عملية الكتابة عند الشاعر في مقاربته الجمالية للكثير من القضايا التي تخص الذات و الشعر و الإنسان، و ذلك عبر العديد من الشواهد التي ترفع من قيمة الحب/الجسد/ القصيدة و قدرتها على التغيير وسط هذا العالم الذي ضيع بوصلة المعنى: (دعيني أنا/ أكمل تماريني/ و أتسلق/ حبال قلقي/فالقلقون، كثيرا ما يفكرون/ في التماعات/ الأزهار السوداء//كثيرا ما يستشعرون/ في رئاتهم/ آلام المسلولين)هذا بالإضافة إلى أننا لا نستطيع أيضا التغاضي عن حضور الآخر في بعض قصائد هذا المتن الشعري، رغم أن حضوره يأتي دائما في صورة منهزمة مرهونة في الغالب بحضور الذات الشاعرة و بصوت الشاعر/ النبي المؤثر في الحشود الغافية، و هو ما يضمر (ربما) التزاما سياسيا عند مبارك وساط و ذلك على غرار السورياليين الكبار، رغم أن هذا الملمح لا يتجلى بشكل واضح و مباشر في قصائد (فراشة من هيدروجين):

(سنحرر الأمواج
من حياتها الرتيبة
و نجعلها تمشي على أقدام
في الشوارع الجميلة
سنمنح هذه الأشجار التعيسة
ذكريات طفولة
و مرايا تبدوا فيها
غيدا مرحات
و نقيم لهذي الشموس التائهة الفقيرة
أعشاشا بين السوسنات
التي تزهر في الضباب
و القصائد تضج بالدم البهيج النافر) ص 63

كما يبطن هذا المتن رؤية مادية صريحة للوجود، و هو الملمح الذي يمكن لنا أن نستشفه من بعض القصائد التي تعكس موقفا رافضا من الخرافة و تركة الماضي، و ذلك كقصيدة (كوكب معربد...) و قصيدة (قرب الكمنجات) و التي يقول في أحد مقاطعها (أمامنا مر إمام مسجد حاملا سيفا، و أعلن الحرب على زنبور قضم كتابه المقدس، نعت الزنبور بالفاجر، و قال إنه يعاقر الخمر أيضا، فأضحكني تفكيري في أن ينادمنا الزنبور، ملامح الإمام لسبب ما ذكرتني بوجه أبي)، كما تعكس قصيدة (حكاية) هي الأخرى هذا الموقف الجريء من الفكر الميثولوجي و هي القصيدة التي أجدها في الواقع تتقاطع و قصيدة (الأبدية) التي يضمها ديوان مبارك وساط الأول (محفوفا بأرخبيلات...) و التي تتحرك هي الأخرى في نفس السياق، و هو الأمر الذي يجعلنا نستشف بأن مبارك وساط مازال وفيا لمشروعه الجمالي الخاص، المتفرد، داخل المشهد الشعري المغربي و العربي:

(أكثر من عشرين مرة نزل الدرج
نحو غرفة الأحد
في كل مرة، يطرق الباب مطولا
و لا من مجيب
بدأ شكه ينكش لحيته
و أخيرا أدرك أن الأحد قد اختفى
أن الأيام المتبقية في حداد
و أنه يطرق باب غرفة فارغة
إلا من رائحة الدم
و بقايا الكوابيس) ص75

من البرزخ الفاصل بين الواقع و الخيال جاء إذن ديوان (فراشة من هيدروجين)، و الذي يكمل به مبارك وساط مشروعه الجمالي المتورط في الزمن السوريالي البهي، بكلّ ما في هذا الإختيار الفنّيّ و الحياتيّ من جدارة الإنتساب إلى أفق الخلق المشرع دائما على المغامرة و المجهول، و هو ما يجعل القارئ التائه في دخان لفائف الشاعر السحرية يستشعر صعوبة الإحاطة بكل الأبعاد الدلالية لهذه الأضمومة التي تحتفي بالحلم باعتباره أصل الأشياء و سرّها السرمدي!!

ايلاف
- 2008 الأحد 15 يونيو