معتز طوبر

عبدالله السفرجاء متأخرا كتاب " جنازة الغريب "للشاعر السعودي عبد الله السفر بعد كتابه الأول " يفتح النافذة ويرحل " الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1995م . " جنازة الغريب" الصادر في السعودية عن النادي الأدبي في الدمام 2007م ،يقع في 100 صفحة بحلة جميلة ومميزة . للكتابين روح واحدة ونفس طليقة وان كان الاول غرفَ من انفعال وحماسة اكتشاف القول والكتابة النثرية في تسعينيات القرن الماضي فان الثاني معجون ومختمر بخميرة الاول ويعبق برائحة حداثته. وإصدار كتاب نثري لشاعر احتضن قصيدة النثر وشغف فيها ، سابقة من نوعها في الأندية الأدبية السعودية . وكان قد صدر بالتزامن معه كتاب نثري آخر للشاعر إبراهيم الحسين .

نقرأ في " جنازة الغريب " محنة وحمى رسولية على صعيدين ، حياتي ضمن ما يندرج في تجربة الشاعر الشخصية اليومية، وقلق واضطراب في الرؤيا على مستوى تجربته الكتابية ككل . سخونة واعتلاج هذه الحمى وان كانت تعمل على القطيعة – الشاعر هنا هو نبي القطيعة – مع السلف البائد على مستويين أيضا، المكاني المرتكز على محو الثقافة المكانية للصحراء والتوغل في التفاصيل العادية للمكان على الرغم من ان "حوض التجربة الحياتية ضيق " كما يقول "السفر" في احد حواراته . والشكل من حيث هو انزياح واضح عن البؤرة- السلف ، وهو احد المآخذ الأكثر حدة على قصيدة النثر و ليس الوحيد . إلا ان الشاعر يتوسل مفردة صعبة ضمن جملة متماسكة وبلاغية حتى لو سردت اليومي الحميمي والجزئي المعاش، مخلصة لنسقها المعرفي القديم . فنصوص " السفر " تتوارى خلف لغة شعرية صلاتها رحمية بالمكان وثقافة المكان والشاعر مسكون بصوت تلك اللغة ونصه طيف لها وظل لنبرتها وصورتها الكلاسيكية واشتقاق لدلالتها اللغوية مهما احتملت تأويلات جديدة او انحرفت تلك الرحمية عن سياقاتها وأنسابها الأبوية .

" دفع بدمعته الرسول ، وهام طيّ رسالة لم يحملها . أخذ بالتهدج ، ناله يأس الكائن ، فراغ الأمل من صاحبه ، نفاذ السكين ، عري الوردة من شوكتها . وهذا الليل الذي لا يحسن مدافعته ، حين الأصدقاء بمناكب َ مذعورة يخلون سرير محبتهم ويتهافتون إلى مراكب َ مخلّعة مشقوقة الأشرعة . يعرفون انها ليست مأوى في اليابسة ، ولا تصمد الماء .
يغادرون وحسب لأن الرسول فاضت به الدمعة وانجرحت منه الحنجرة ، ... " ص 11 .

وعلى الرغم من التوتر المنشود في رؤيا " جنازة الغريب " ، فهو يرتكز على فضاء ذهني كوني موارب يستنجد بالمرئي بكل ما ينعكس عن الحواس او يلاحظ منها بفعلها وارتباكها . صورته الشعرية طافية برماد المكان وحميمية الاصدقاء ورائحة الشاي والمقاهي والطفولة .. ، لها وداعة قادمة من ادران الكآبة "تسري فيها كهرباء عالية " وعبق النعناع . عذبة من شدة الانتحاب ولذة الالم تتوسل عالما رومانسيا ضمن أبعاده الحسية العميقة . الوحدة والغياب والألم والأحلام .. فيها من علائم النبوة والتطهر، بانعكاس لا فكاك منه لهذه المفردات من كونها شوائب في وسط حالته النفسية الشعرية وكونها عيوب لغة مشهد رؤيوي او صورة لهذه العيوب تنبجس من ذاك التوتر و تبرق وتتألق استنادا الى ان كل عيب يبرق " في سرير الوحدة تقبض على دفتر الذكريات... " ص 19 او " الألم .. يقشّر ما راكمناه من مصدّات وسواتر .. " ص 24 . نص الشاعر يغتبط ويألف لعناصر وكائنات من حقول دلالية مختلفة كنوع من مؤانسة ضدية للماورائي والواقعي وتوليف جمالية صوتية خاصة عائمة على أحاديث من عالمه الكئيب ( الخيبة – الحنين - الغياب ...) . او ثنائيات متقابلة ( الانف – الرائحة ، العين – المرمى ، .... ) . سحر وتخييل لفضاء حياته على مساحة بيضاء من الورق بتكرار وإعادة التكرار للصور واعادة انتاجها وتراكمها بكونية شاعر يخسر كل شيء دون ان ينكص نحو لاهوتية سلبية كما يراها " القبضة المشدودة على حفنة أحلام تفتر ، تتراخى ."ص35 من ماض قريب وحاضر موحش، او كما ارادها (تلك السلبية) ان تزيد من نداءاته المكتومة وانكفائه وتقوقعه على الذات وانرمائه في خواء دلالي ومجانية النثر " على الباب اتكأ كأنما يستند إلى خيبة " ص 79 . والشاعر - هنا - يركن إلى الهدم ويعيد استعادة وبناء عوالمه الخاصة بجملة من الأطياف الشعرية ...، كما في نص " عبير النعناع " ص 7 .. استعادة الغياب ، تنظيف الروح من النسيان وغسيل الذاكرة ، فالغياب هو لحظات عتامة وارتياب يعيشها الشاعر، تتماهى مع الغربة في ارض واطئة، فيها " الهاوية تلتهم روحك " ص20 وألمه اصبح هما فيزيائيا وشيكا من الصعب التصدي له طالما لنا وله ابناء واصدقاء نحبهم ونخاف عليهم " يقاضينا لأننا نحب ، لأن لنا ابناء .. لأن لنا اصدقاء " ص25 . اصبح الالم هو الحكم والمعيار والمعادل الموضوعي الذي تقاس عليه المشاعر وتتوارى خلفه .., لكن السفر يعلن بان " الغياب ليس مهنتي " ص51 بل ربما الفرح بضجيجه وعبق ايامه وذكرياته ، اذ يُقصر ( محاولا ) تجربته ورسالته على الاحتفاء بالحياة الى أخر لحظة ( فالجزء مقصور الكل يعمم ويكامل عليه بحدود ودون اخطاء رياضية على الاقل ) بما يرصد لها من تلك الطاقة الداكنة ، الطاقة الاحتمالية بلون من الاماني يزيل العكر ويقوي العافية التي تظهر عند الحاجة لها " تستعيد الحناجر عافيتها" ص 8 او " تلعلع الضحكات بصخب يجلو صدا الغياب " ص8 . يشغف بترتيب أحلامه وتعدد شخوصه وأهوائه وأجوائه وعوالمه الجديدة والقليلة بعناصرها من أعواد النعناع وجلسات الشاي الخاصة ومناخات عمله المفروضة على حياته "على مهل يعيد ترتيب الأحلام /../ اليد التي تعبث بين أشرطة الكاسيت./ ../ اليد التي تشرق بأصواتهم./ .. / اليد التي .. فيما أخرى تنشب الأظفار . " ص 83

نصه كـ"ورقة يأخذها عويل البياض " كما قال لي في اهدائه . ارتباكه فوق هذا البياض يثمر ويزيد الطاقة الكامنة بسكونية القول ولا يوهن عزيمة الكتابة بطاقتها الحركية . ينهض ويتلون بتنويع هارموني للإيقاع البصري – الشكلي للنص ، من نص طويل نسبيا بلغة سردية ومشهدية وحكائية أحيانا إلى مقاطع شعرية قصيرة مفتوحة على مساءلات العقل وعناصر الحواس الى استبطانية كنوع من البوح والعبور للانا نحو خلاص مشهدي- صوري للرغبة وحواشيها، في عالم يحاكي الفكرالمرتبك او المشوش للشاعر ويبني عليه جنازته . الا اننا نلاحظ وحدة عضوية ونفسية لبنية القصيدة عند السفر على كامل الكتاب فجوها العام ولبّها واحد ..... " المنسي في دفتره وحيدا " , " تسديد الالم في مرمى الاحبة " , " ها انت على المشارف ", " خطفة برق الغائبين " وغيرها من عناوين الكتاب .. .

قد لا اكون قد كتبت مديحا هنا او شيئا يخلص الى المديح فمناقب الرجل لا تحتمل المديح. "السفر" المتهم بنصه النثري. المزين بمفردة الحداثة. كان وما زال بتوق وتفان الى ان يُحَل من خطاياه بالتكلم والاعتراف . وهو يعيدني (السفر ) في " جنازة الغريب "الى حديثه لي مرة في مقر جمعية الفنون المسرحية في الدمام (2004 م) عندما اخبرني عن محاولات بعض المجاورين لمقر الجمعية بإغلاق هذا المقر بحجة ان رواده لا.. ... ولا .. الخ ، و ما ان نقرأ قصائده المهداة إلى بعض الأصدقاء المجهولين او قصيدته " يختنق وحده" إلى ياسر الزيات او " اطار السدادة " حتى نتيقن بان حياة الشاعر ما هي إلا تناص مع نبوته ( طبعا بقلق التخلص من اثر السلف كما يذهب في ذلك هارولد بلوم ) بالانفلات والتمرد وقيامه بتحولات جديدة بالتوازي مع روحه التي تحل و تتماهى مع أرواحهم او تتبادل مع ظلالهم فـ صوت المطرب طلال مداح (الذي مات شغوفا بفنه وهو يغني على المسرح في حي "المفتاحة " في مدينة أبها الجميلة جغرافيا ..) ما هو إلا خيوط ضوء وعصبونات من الذاكرة طافت بكاملها على ذاكرة الشاعر" لكأنما ذلك الصوت هو الروح الخفية التي ترتب المكان .." وأخذت تحل في أطراف البيت وأجزائه :الخزانة والزجاج والطاولات ،وتقيم سراديب من المحبة لصلف الأيام وغلظة تحولاتها . أيضا معاتبا " ياسر الزيات" ، كيف تترك " فقيركَ اسلمَ نفسه إلى الصحراء/ يختنق الآن وحده/ وحده الآن يختنق .."ص68 .

"نغمة في خافت الضوء " وعميق الشعر تقوّض الكتمان وتصفي الروح في حلم ارضي ،هي حياة الشاعر." في خافت الضوء ووضوح الالم " يقف فيها عبد الله السفر الى جانب احمد الملا وابراهيم الحسين (ضلعاه ليكتمل المثلث ) .. كذئاب تعرج في قرية نائية رماد قصائدهم فيها يعلو ونصهم يُترك ليُحتفَل بجنازته التي غالبا ما تكون اشبه بـ " جنازة الغريب" .