عن دار السويدي للنشر في أبوظبي صدر كتاب جديد للكاتب الفلسطيني محمود خضر بعنوان 'فنون وتاريخ المسلمين في الأندلس'، وهو يواصل فيه ما كان قد بدأه في كتابه السابق 'تاريخ الفنون الاسلامية'. ينقسم كتابه الجديد الى ثلاثة أبواب هي: عصر الولاة، عصر الإمارة، عصر الخلافة وينقسم كل باب الى عدة فصول. نورد، هنا، المقدمة التي وضعها المؤلف لكتابه حيث يلقي فيها أضواء على أهم مفاصل الكتاب:
أثارت الحرب التي دارت رحاها بين المسلمين والمسيحيين القوط في اسبانيا التباسا حول المصطلح، فهل هي حرب يحركها الصراع من اجل امتلاك ثروات الآخر، أم هي فتح تحركه الدوافع الدينية من اجل نشر الدين الاسلامي؟ وهل نستطيع الحكم الآن على طبيعة الصراع بعد ان انتهت تلك الحقبة التاريخية بالنتيجة المعروفة للجميع؟ الاجابة ليست بسهولة طرح السؤال، فالكلمات موجودة على ناصية الطريق ولكنها بحاجة الى صياغة تامة وكاملة في نسق يحتفظ به الزمان، فالصراع بين الشعوب المستعمِرة والمستعمَرة ان لم ينتقل من عنصر الرغبة في الامتلاك الى القدرة على تطوير ما نملك وفق نسق يجعلنا اكثر فعالية على الارتقاء بالمجتمع، فإن مآله حرب وليس فتحا وسيظل الصراع هو المحرك الرئيس للتاريخ، أيا كان شكله.

لم يكن جوهر الصراع دينيا الا في صوريته فقط لاخفاء حقيقة الصراع على السلطة والثروة، وحوادث كثيرة في الاندلس تثبت تلك الرؤية، وان لم يكن الامر على هذا النحو، فبماذا نفسر اوامر المنصور ابن ابي عامر بضرب عنق ابنه عبد الله بالسيف عند غروب شمس الاربعاء الموافق 14 جمادى الاخرة عام 380هـ ودفنه في موضع قتله، وكان في الثالثة والعشرين من عمره، ولماذا تحالف ابن الاحمر مع الملك فرديناند ضد مسلمي اشبيلية حتى سقطت كحبة الرمان في جحر ملك قشتالة النصراني عام 1248م، وبماذا نفسر تحالف عبد الله الصغير/ببدول الشيكو ضد أبيه مولاي أبي الحسن مرة وضد عمه مولاي الزغل مرة اخرى؟.
لماذا يتم الحديث دائما عن الاندلس وكأنها الفردوس المفقود واظهار بطولات لم تجد نفعا، كيف لنا ان نتعلم من تاريخنا، كيف لنا الاستفادة من المعرفة وتوظيفها لصنع مستقبل افضل، اذا تجاهلنا الدناءات والخيانة التي كانت تسير جنبا الى جنب مع البطولات منذ دخول طارق بن زياد الى الاندلس عام 92هـ/712م حتى خروج عبد الله الصغير، آخر ملوك العرب منها عام 1492م.
لماذا عملت محاكم التفتيش على تنصير العرب في اسبانيا ابان سقوط غرناطة عام 1492م وحتى صدور امر فيليب الثالث بترحيلهم نهائيا عن اسبانيا عام 1618م، وهم يعلنون ويتمسكون بأنهم مسيحيون. وقد كان لعنف محاكم التفتيش مع المسلمين واليهود والمسيحيين في بعض الاحيان، دافع لظهور شعار فصل الدين عن الدولة ودفع الرهبان والقساوسة الى الاديرة والكنائس، وتلك كانت بداية قيام ديمقراطية المؤسسات في الغرب وانبثاق براعم الحداثة الغربية، وان اردنا الدقة، فإنها بداية العلمانية.

وعلى الجهة الاخرى، لماذا يغفل الغرب دور الاندلس المسلمة في النهضة الاوروبية والاصرار على ارجاع حضارة اوروبا وثقافتها الى الاصول الاغريقية دون وساطة العرب، وهي ادعاءات يعتورها السخف ويشوبها عدم الدقة. فالحقيقة كانت على الدوام شاخصة لمن يمتلك القوة والدافع على ابصارها، لماذا يتم تناسي دور المسلمين والعرب في نقل الفلسفة والطب ومختلف العلوم من الحضارات الهندية والفارسية واليونانية الى الحضارة الاوروبية؟.
لقد ساعد الكونت يوليان حاكم مدينة سبتة المسلمين على عبور المضيق الى اسبانيا، ودخولها على متن سفن يوليان منتصرين عام 711م/92هـ بقيادة طارق بن زياد وساهم في انتصار المسلمين، ما كان يعانيه الشعب الاسباني من البؤس والظلم وجباية الضرائب ووقوع عبء الدفاع عن الوطن على جماعات فاقدة للحرية لا يعنيها في شيء الذود عنه، وكان الشعب الاسباني يتطلع للخلاص من الحكام القوط ويستعجل قدوم العرب الفاتحين. ولا شك ان تدخل يوليان حاكم سبتة لتسهيل دخول المسلمين كان من اكبر العوامل على تذليل دخول اسبانيا والقضاء على المملكة القوطية.

في واقع الامر، لم يكن الكونت يوليان حاكم مدينة سبتة وحلفاؤه من انصار الحكم الملكي القوطي القديم، يقصدون بمساعدة العرب على عبور المضيق والنزول الى شواطئ الجنوب الاسباني، ان يمتلك العرب اسبانيا ويحكموها الى الابد، بل كانت خطتهم من التحالف مع العرب ومساعدتهم على دخول اسبانيا هي استخدامهم في ضرب ومحاربة رودريك واسقاطه عن عرش اسبانيا فيخلو الميدان للكونت يوليان ويصبح ملكا وينتقم من رودريك وانصاره.
كان يوليان وانصاره يعتقدون ان العرب متى دخلوا اسبانيا وفازوا بالاسلاب والغنائم، سوف يعودون الى افريقية. ومن ناحيته كان موسى بن نصير يؤكد لهم انه لا يقصد من الغزو سوى كسب الغنائم والافتخار امام
الخليفة الأموي بأنه عبر البحر الى اسبانيا فاتحاً، كما أكد أنه لا ينوي البقاء في اسبانيا، أو إنشاء دولة إسلامية فيها، وكان في الواقع قد علم بأحوال مملكة القوط وتفككها وخصب أراضيها، وعظيم ثرواتها.
استجاب موسى بن نصير الى دعوة الكونت يوليان، واجتمعا معاً في سفينة راسية في المضيق، وكان كل واحد منهما يضمر خطته في نفسه، وعرض يوليان على موسى تسليم سبتة ومعاقلها الى العرب، كما عرض يوليان أن يقدم سفن أسطوله لنقل جنود المسلمين وعتادهم عبر المضيق، كما أعلن عن استعداده لإرشاد المسلمين، وتيسير دخولهم الى اسبانيا.

التاريخ في نهاية المطاف ليس قصصا وروايات تروى عن ثقاة، وإنما أحداث وقعت وأخرى مشكوك في صدقية حدوثها، وينبغي وضعها في ميزان المنطق والعقل. فما كان يتماشى مع العقل قبلناه وما كان لا يستقيم مع المنطق اهملناه، فالخرافات والأساطير ليس مجالها كتب التاريخ ومدوناته، ففي عصور الانحطاط والتفكك يختلط الراوي مع الرواية، والعلمي مع الغيبي، ويعلو شأن الجهلة وسفلة القوم وتروج قصصهم ويكون الناس مدفوعين الى تصديقها لافتقادهم الجانب الآخر من الرواية، إننا نسعى الى فهم التاريخ من خلال الحقيقة ولأجلها وليس بهدف الفهم فقط بل من أجل التغيير، فالتاريخ هو الدرب الى المستقبل، والانتقال من التفكير الخرافي الى التفكير العلمي ونشر الثقافة العلمية أصبحا ضرورة ملحة في ظل الانحطاط والتدهور في الحالة العربية الآيلة للسقوط على يد الجهلة المتنفذين والفقهاء المتحجرين، وينطبق عليها نصيحة ابن غومس الى صديقه شنجول 'خذ باليقين ودع الظن، فأمرك والله مختل وجندك عليك لا لك'.
ما نحن عليه اليوم، هو نتاج لما مر علينا، وبدون القراءة النقدية لهذا التاريخ لن تستطيع استشراف مآلاتنا في المستقبل. وبقدر انعدام القدرة على التأليف في التاريخ، يسعى الباحث الى تتبع الأحداث ومحاولة تفسيرها، فعلينا إعادة قراءة الأحداث وفقاً لتسلسلها ولنتائجها ومسبباتها، ملقين الضوء على طبيعة الصراع، متتبعين الخيط المتعرج يمينا، وشمالا صعودا وهبوطا، وفقا لما جرى من أحداث. إن ما نحتاجه هو المعرفة التي تثرينا وتساعدنا على التقدم وتعطينا القوة لمواجهة الحياة، فالعلم والمعرفة هما الطريق الى الحقيقة، مع يقيننا بوجود الكثير من الكتب عديمة القيمة، المليئة بالأوهام التي ارتدت رداء المعرفة واكتسبت قوة الحقيقة لأننا لا نعي ما نقرأه ونصدق ما يلاقي صدى طيباً في نفوسنا، وعلينا مجابهة الحقائق بحلوها ومرّها سعياً الى الحقيقة خلال زيارتنا القصيرة الى الحياة!
بوسع المرء أن يتساءل لماذا لم يتبق في الأندلس سوى فنون المسلمين وآثارهم، وذهب فكرهم أدراج الرياح؟. ألم تكن بنية الحكم في الأندلس مآلها الى نزاع؟ أليس من الغريب أن يغيب العلم والتقدم عن العالم الاسلامي ويمكث الجهل والتخلف فيه؟.

لقد تناولت في بحثي هذا فنون المسلمين وتاريخهم منذ دخولهم الى الأندلس حتى سقوط الخلافة الأموية فيها. بدأت بالفنون لأنها وجدت منذ وجد البشر ولقد عبّر الانسان عن نفسه وآماله ومخاوفه ودوافعه من خلالها، بدءاً من الرسم على جدران الكهوف، الى تجلياتها المتعددة في يومنا هذا.
الفنون والإنسان عملة واحدة بوجهين يدل أحدهما الى الآخر ويقود اليه، فالفن ضرورة وليس ترفاً، والتاريخ وقائع منصرمة، لا تكمن الصعوبة في رصدها، بل في الاجابة عن كيفية حدوثها، ولماذا حدثت بالشكل الذي صارت عليه.
الحضارة الاسلامية في الأندلس شأنها شأن كل الحضارات المركبة تحتوي على عناصر متعددة ومتباينة في أصولها البشرية والثقافية، ويتجلى التباين والتعدد الثقافي والإثني كمظهر من مظاهر القوة والثراء في حالة الصعود والانتصار، كما يتحول الى بذور لحروب أهلية وانشقاقات في حالة التدهور والاضمحلال، وكما يصنع الانسان مصيره بنفسه، تكتب الشعوب تاريخها بانجازاتها كما تكتبه بإخفاقاتها.
يتعين علينا الإجابة عن أسئلة لوقائع باعدتها عنا القرون في زمن باتت فيه الجغرافيا تاريخا، والتقدم العلمي يربط بين البشر بسهولة أكثر من أي وقت مضى وبتكلفة أقل، يبدو من السهل رصد الماضي، ويكمن التحدي في التعلم منه، وبعد انقضاء قرون على زمان الوصل في الأندلس، بات الدرس واضحاً لم يتعلم أحد شيئاً.

القدس العربي
2011-09-08