محمد الحمامصي
(مصر)

تخطيطات وأفكار بصوت عالأثار رحيل الشاعر العراقي يوسف الصائغ في العاصمة السورية دمشق في الرابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) عام 2005 عصفاً من الأسئلة، تكاد تكون معادلا للأسئلة التي أثيرت حول حياته السياسية أكثر منها الشعرية.
ويبدو ان هذا الكتاب "يوسف الصائغ.. تخطيطات وأفكار بصوت عال" سيعيد تكرار الأسئلة بطريقة أخرى، مع أن أياً من المشاركين فيه غير معنيين بالإجابة، وإنما هم من يطلقون أسئلتهم الموازية عن الصائغ الشاعر والفنان التشكيلي والإنسان ويجيبون عليها.

مهما يكن من أمر، فالكتاب صدر بداية العام 2012 عن دار الأديب للطباعة والنشر في العاصمة الأردنية عمان بمائة وأثنين وستين صفحة من القطع الكبير متضمناً تخطيطات أنجرها الصائغ عام 2000 ولم يعرضها من قبل إضافة إلى نصوص مختارة من شعره "اعترافات مالك بن الريب" "سيدة التفاحات الأربع" "سيدة الاهوار" "انتظريني عند تخوم البحر" "فاكهة المرأة النائمة".
ولد يوسف الصائغ عام 1933 في مدينة الموصل، وتوفي في دمشق 14/12/2005. وصدرت له قصائد غير صالحة للنشر (مجموعة شعرية مشتركة)، 1957 مع شاذل طاقة وهاشم الطعان وعبد الحليم لاوند. ورواية "اللعبة" فازت بجائزة أحسن رواية عراقية، 1970 ثم مجموعة "اعترافات مالك بن الريب" الشعرية عام 1971. ورواية "المسافة" عام 1974ـ تبعها بـ "اعترافات" عام 1978 و"المعلم" عام 1985. ثم مسرحية "الباب" التي فازت بجائزة أحسن نص مسرحي في مهرجان قرطاج عام 1987. ومسرحية ديدمونه، فازت بجائزة أفضل نص مسرحي في مهرجان قرطاج عام 1989. وصدرت له رواية "سرداب رقم 2" عام 1997.

ويكتب كرم نعمة الذي جمع آخر مقالات الصائغ التي نشرها في صحيفة "الزمان" بطبعتها الدولية بلندن قبل رحيله باسابيع، في ما يشبه التقديم للكتاب تحت عنوان "يوسف لم يعرض عن عراقيته" وكانت "ايلاف" قد أعادت نشر المقال في زاوية "جريدة الجرائد" آنذاك. قبل أن يمتص الموت رحيق أنفاس شاعر سيدة التفاحات الأربع يوسف الصائغ، كانت صحيفة (الزمان) أول من أعادته للكتابة بعد سنوات الصمت المريرة بالتأمل والحرقة لبلاد أحبها وهي اليوم تستباح أمامه، بدأ يوسف الصائغ وبلمسة مشوبة بالألم إعادة كتابة زاويته القديمة الجديدة، "أفكار بصوت عال" على الصفحة الاخيرة وباح بما باح من أسئلة عن الشعر والوطن وجراح التماثيل ودمها المراق في الزمن الديمقراطي الجديد، كان يكتب من دمشق كمن يتنبأ بموته وينتظره على بُعد خطوات، الموت أصبح له واقعاً قائماً (من يستطيع رفضه؟) وكنت كلما أتصل به على بعد المسافات بين لندن ودمشق حيث إقامته الاخيرة، أشعر بان صوته قد دب الوهن فيه والأسى، ويزداد نحولاً مع مرور الوقت، الا أن وحي القصيدة ووجعها لم يفارقاه وكأنه لم يزل ذاك الشاعر في العشرين من عمره وليس السبعيني الذي يتوكأ على الكلمات.

ويضيف كرم الذي اختار بعض قصائد الصائغ وكتب ملخصاً لسيرته في مستهل الكتاب "عندما فجر (البرامكة الجدد) نصب أبو جعفر المنصور بدأ مقاله أعلى من الصوت العالي، وأعاد الأسئلة الجريحة وهو يرثي خالد الرحال، وعندما تفاقمت الأسئلة الأخرى حول تاريخه، لم يتنصل مما أمن به، كان يوسف الصائغ متسقاً مع نفسه بامتياز شعري نادر، يكتب كما هو لايغادر تاريخه، فكتب على مدار بضعة أسابيع شعراً بلغة النثر ونثراً بلغة الشعر، وكانت آخر مقالة له بكلمات امتصت رحيق أنفاسه الأخيرة بهدوء وروية ليغادرنا ذاك الصائغ يوسف في قداس هادئ بدمشق رُسم بصليب كان ينتظره منذ أن وشح سيدة التفاحات الأربع بذاك الصليب من شمال الشجر في عراقه، حيث لم يرد له الله ان يموت فيه".
ويكتب الصحافي كرم نعمة "موت يوسف الصائغ يقين يشبه الشك! كأنه كان ينتظره، او شعر به يقترب منه رويداً رويداً!! ما أصعب على شاعر ينتظر موته؟" "كنت أحادثه أسبوعياً الى دمشق وكان صوته ياتيني كل مرة أكثر وجلاً وتعباً، فيما الموت يحث خطاه من بغداد اليه، من أجل ذلك كتب في زاويته نفسها "ذلكم هو سر عزلتي واختبائي فهل يكفي هذا لتفسير ما حدث حين يرن جرس الهاتف وأسمع أصواتاً تصلني من بعيد تذكرني أنني ما زلت حياً وتغريني بأن أجرب العودة وسأعود..".

ورحل يوسف الصائغ على حافة شتاء دمشق فيما كانت وصيته قصيدة "أنا لا أباع" وكأنها إجابة لمن لا يدرك ما معنى أن يكون الشاعر عراقياً؟
يوسف الصائغ، هو يوسف العراقي الذي لم يعرض عن عراقيته، وكان متقي وطنه وشعره، لذلك لم يبق لنا غير الكلمات القديمة والجديدة والصور كي نستذكره هنا.
الشاعر حميد سعيد يكتب عن يوسف الصائغ المختلف المبدع ويرى انه كان في حالة اشتباك مع ما كان فيه من التزام سياسي، ومما كان يؤزم هذا الاشتباك اعتداد بالنفس لطالما عبر عنه بما يمكن وصفه بالشراسة وفيض من الإبداع لا حدود له.
ويقدم الشاعر على جعفر العلاق دراسة هي الاطول في الكتاب عن مراحله الثلاث، اذ يبدو له ان تجربة يوسف الصائغ تمر عبر تصاعدها المثير للجدل، عبر محطات ثلاث هي في حقيقتها انتماءات ثلاث، الانتماء الإنساني العام، الانتماء للذات، الانتماء للوطن.
ويعبر مقال الشاعر فاروق يوسف عن تخطيطات الكتاب عندما يعرض لهذيانات يوسف الصائغ الايروتيكية ويصفه بمالك بن الريب في عزلته، رجل شهوات محرمة، أما الرسام فقد كان سيد الكوابيس التي لا تمر بيسر ولا يمكن تفاديها، كان الجنس هو بوصلته العمياء في بحر الظلمات.
أما الروائية عالية ممدوح فتستعيد مرثاة عن الأصدقاء الموتى هي التي كانت الأقرب إليه قبل مغادرتها العراق عام 1982 لتكتشف فيه الصفات المتبدلة بين الشيوعي الصارم لكن السابق والبعثي غير المنجز لاحقاً وابداً، لتؤكد أن حزب البعث كان بالنسبة اليه مثل مشاهد من ميلودراما رثة وتافهة.
ويصف الفنان التشكيلي علاء بشير في كلمات قليلة علاقته بالصائغ، حيث عرف مبكرا ان مظاهر انفعالاته التي كان يجهاد ان يطوقها بابداعه، كان مصدرها إدراكه عدم تمكنه عن إظهار جوانب كثيرة لطاقته الكامنة في ضميره ووجدانه.
من مقالات يوسف الصائغ المنشورة بكتاب "يوسف الصائغ.. تخطيطات وأفكار بصوت عال"
شتائم..
يوسف الصائغ
أتمنى أن تكون (شتائمي) التي نَشَرَتها (الزمان) الغراء، قد وصلت إلى البعض ممن (يَهُمُهم الأمر).
أصدقائي.. أو رفاقي.. أو زملائي.. أو..
يوم ذاك لم يكن قد مرً الكثير من الوقت على (سقوط التمثال).. وتسليم الوطن لكابوس الاحتلال.
أذكر أن نفراً من أصدقائي ممن كانوا قد عادوا من الغربة حاولوا مخلصين أن يبحثوا عني حتى وجدني بعضهم في عزلتي:
واقفا كالمرابي..
في تخوم الضياع..
وأرض الخراب..
على كتفي ببغاءٌ مدربة..
وفي الصدر قُبرة بجناحَي غراب
استقبلت أصدقائي ولقد وجدنا أنفسنا منذ البداية مختلفين وغير مستعدين للتفاهم فاعتذرنا لخلافنا بما كان قد تبقى في ضمائرنا من غضاضات ودموع ، لأنه:
إن يكن الصبر يتعب والصدق يتعب..
فالكذب..
أه.. من الكذب هذا العذاب البذيء..
في وداع حبيب مضى وانتظار الحبيب الذي لن يجئ..
قلت لأعز أصدقائي:

ـ أرجوك صدقني أنا لا أستطيع فأنت تدري أننا قد تدربنا خلال سبعين عاما على أن نكره (الإنبريالية) وكل ما يتصل بها.. وعبثاً أحاول الآن استبدال أيقونة كراهيتي التي تعلمت أن أصلي لها كل يوم .

قالوا لي:
ـ سوف تندم.
فأجبتهم:
ـ أدري!
صاح أكبرهم مقاماً:
ـ يطبك مرض .
قلت في سري:
ـ لا بأس المرض أرحم .
وأغلقت الباب!! وحين فتحته وجتني وحيداً وكانت قصيدتي توبخني هكذا:
فيا أيها الشاعر المستضام..
حاذر الآن من أن تكف عن الشعر أو أن تنام..
أستفق..
واستعن بالفضائل..
ففي زمن مثل هذا الزمان سينكرك الأهل والأصدقاء..
وتضيق عليك المنازل..
وقد صَدَقَتْ نبوة القصيدة ووجدت نفسي وحيداً حقاً وبلا عنوان وكان يقال لمن يسأل عني:
ــ خَطيّة مريض ويائس، لا يستقبل أحداً.
ذلكم هو سر عزلتي واختبائي فهل يكفي هذا لتفسير ما حدث حين يرن جرس الهاتف وأسمع أصواتاً تصلني من بعيد تذكرني أنني ما زلت حياً وتغريني بأن أجرب العودة وسأعود..

الكتاب: يوسف الصائغ تخطيطات.. وأفكار بصوت عال
المؤلفون: حميد سعيد، علي جعفر العلاق، فاروق يوسف، عالية ممدوح، علاء بشير، كرم نعمة
الناشر: دار الأديب للصحافة والنشر
الطبعة: الاولى – عمان- الاردن

ايلاف
2012 9 يناير