البصيرة أقوى من البصر

سلمان زين الدين
(لبنان)

عبده وازنالسمة الأولى في رواية "الفتى الذي أبصر الهواء" للشاعر عبده وازن (الدار العربية للعلوم ناشرون)، من حيث الشكل، أنها موجّهة للفتيان، فتهتم بهذه الفئة العمرية المحيّرة التي سقطت من اهتمامات الأدباء والكتّاب، تلك الموزّعة بين أدب الأطفال في النزر اليسير منها وأدب الكبار في الغالب الأعم.
السمة الثانية، من حيث الشكل أيضاً، أن عبده وازن يأتي الى الرواية من الشعر. وحسناً فعل حين ترك الشاعر على عتبة الرواية، فلم يسمح له بالتدخّل سوى في العنوان، وفي تقنيات قليلة كتقنية البتر التي مارسها في بعض المشاهد الروائية. هكذا، أنقذ الروائي فيه من هيمنة الشاعر وتسلّطه، فحقّق خصيصة ايجابية لنصّه كونه موجّهاً الى الفتيان، وينبغي التوجّه اليهم مباشرة من دون انزياح شعري. ولو كانت الفئة المستهدفة هي الكبار لعددتُ هذا التخلّي عن الشاعر من الروائي نقيصة، فالشعر في الحالة الأخيرة يُغني اللغة الروائية ويجدّدها. ولنا في روايات ابرهيم نصرالله، وأمجد ناصر، وحسن نجمي، وسواهم، خير دليل على ذلك. هكذا، ما يبدو خصيصة هنا قد يغدو نقيصة هناك، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
السمة الثالثة، وهي في المضمون هذه المرّة، أنها تتناول ذوي الحاجات الخاصّة، وهم شريحة اجتماعية قلّما اهتمّت بها الرواية العربية، وتعاني التهميش الاجتماعي، فتأتي الرواية محاولةً لرفع الغبن عنها، لعلّ عطّار الكتابة يُصلح ما أفسد دهر المجتمع.

في "الفتى الذي أبصر لون الهواء" يروي وازن حكاية فتى ضرير، في انتقاله من حالة القلق على حاضره ومستقبله الى حالة التصالح مع الحياة والاستمتاع بها. وهو انتقال تضافرت عوامل عدة لتحقيقه، من ارادة الفتى ورغبته في التغلّب على عاهته، الى تشجيع الأهل ودعمهم، الى احتضان المعهد، الى رعاية الادارة الرسمية. نخلص، بنتيجة هذه العملية، الى أن ذوي الحاجات الخاصة يستطيعون التغلّب على عاهاتهم، والتكيّف مع الواقع، والتصالح مع الحياة، اذا ما أتيحت لهم الظروف المناسبة والبيئة الداعمة. هذا ما تقوله أحداث الرواية بوقائعها والذكريات.

في بداية الرواية، نحن ازاء فتى ضرير قلق، على عتبة مرحلة جديدة مجهولة، يوشك على الانفصال عن أهله وقريته في نوع من الفطام المتأخّر المزدوج، فهو سيترك أمّه المتعلّقة به، وقريته للمرة الأولى.
في نهايتها، يقول باسم: "ما أجملك أيتها الحياة!" (ص119)، وينطلق الى العمل. بين البداية والنهاية ثمّة مسافة امتدّت على مدى عامين دراسيين، وحفلت بالايجابيات، كان على الفتى أن يقطعها، وهي المسافة/الرواية التي يرصد فيها وازن حياة باسم الجديدة منذ مغادرة القرية حتى بداية تحقيق أحلامه وتلمّس درب النجاح في الحياة. هكذا، نكون أمام ما يسمّى بقصة الشخصية "البيكاريسك"، وهو نوع ازدهر في القرن السادس عشر، ويتناول فيه الكاتب شخصية أساسية خلال سلسلة متتابعة من المشاهد.
في "معهد الضرير" الذي ينتقل اليه باسم، يكون لحسن استقبال المديرة، ومساعدة يوسف مسعف التلاميذ، وتشجيع الطبيب، وصداقة جورج الضرير الآخر، ما يسهّل على باسم التكيّف مع الوضع الجديد. واذا كان من الطبيعي أن يعاني الغربة في البداية ووجع الانفصال وألم الفطام المتأخر، فإنّ الفتى راح يعالج هذه المعاناة بالتعرّف الى المكان نهاراً، والعكوف على الذكريات ليلاً. تأتي زيارات الأهل والأقارب لتخفّف من الاحساس بالغربة، فينخرط في البيئة الجديدة ويتكيّف معها.

في هذه البيئة الحاضنة المساعدة، يتحدّى باسم ظروفه الخاصة. يُبدي حماسة للتعلّم، يتعلّم القراءة بطريقة الـ"برايل" واستعمال الكومبيوتر، يمارس الرياضة والسباحة وهواية القراءة الأحب الى قلبه، يتوزّع بين حنين الى القرية ورغبة في بناء المستقبل وتحقيق الذات. على أن ذاك الحنين لا سيّما في الجزء المتعلّق منه بزينب ابنة عمه، لم يكن حنيناً مَرَضياً بل ايجابيّاً شكّل حافزاً له على المثابرة والاستمرار. مع العلم، أن ايجابية باسم لم تقتصر على اكتسابه المهارات والمعارف الجديدة بل تعدّت ذلك الى مساعدة الآخرين؛ فقام بمساعدة الموظّفة المختصّة في الكتابة على الكومبيوتر، وبقراءة القصص للأكفّاء الصغار، ما أدّى الى توظيفه في المعهد في نهاية المطاف، وجعله يحسّ بسويّته وفاعليّته، وأكسب حياته المعنى.
اذا كانت الأحداث الآنفة تراكمت في مسار سردي أفقي، يتكسّر في مسافات متباعدة، تكثر فيه الوقائع وتقلّ الذكريات، وتتعاقب دون توتّرات كبيرة أو صراع يؤدّي الى حبكة ما، على الطريقة التقليدية، فإنّ هذا المسار يتّخذ منحى تصاعديّاً يُرهص بتحوّل ما، بدءاً من تقدّم باسم الى مسابقة القصة القصيرة، حتى اذا ما فاز بالمرتبة الأولى فيها شكّل الفوز نقطة تحوّل في مسار الأحداث كان لها ما بعدها من نتائج ومضاعفات أدّت الى إطلاقه العبارة التي شكّلت مسك ختام الرواية: "ما أجملك أيتها الحياة!".

كثيرة هي الرسائل التي يوجّهها عبده وازن من خلال كتابه. منها: ضرر إفراط الأهل في التعلّق بأولادهم، ضرورة الارادة للتغلّب على العاهات وتحدّي الظروف الصعبة، أهمية احتضان ذوي الحاجات الخاصة، الاشتراك في العاهة الواحدة يولّد تضامناً بين المصابين بها، المشاعر الانسانية النبيلة تتخطّى حدود الطوائف والمناطق، الآفة لا تحول دون تحقيق الأحلام، قوّة البصيرة أقوى من قوّة البصر، وضرورة تأمين فرص العمل لذوي الحاجات الخاصة. لا يوجّه وازن هذه الرسائل مباشرةً فيسقط في الوعظ والارشاد، بل يفعل ذلك مداورةً من خلال أحداث الرواية. لعلّ هذه الطريق الأطول هي الأقصر لإيصال الرسائل بينما الطريق الأخرى المباشرة القصيرة قد تفشل في ايصالها.
يصطنع وازن لايصال رسائله خطاباً روائياً بسيطاً يتناسب مع الفئة العمرية المستهدفة؛ فهو يستخدم راوياً واحداً، كليّ العلم، يروي بصيغة الغائب. هكذا، يتجنّب تعدّد الرواة وتعدّد صيغ السرد، واشتراك الراوي في صناعة الاحداث، ويسهّل على المتلقّي الفتى متابعة الحكاية. وهو يستخدم لغة سردية سلسة، سهلة، على مستوى المفردات والتراكيب، تُؤثر الجمل القصيرة، ولا تسقط في فخّ الشعرية. غير أنه قد يلجأ الى بتر بعض المشاهد السردية من آخرها، تاركاً للقارئ مجال ردمها بالتفاصيل المتخيّلة، كما في بتر زيارة الأهل (ص62)، وبتر لقاء باسم وجورج على سبيل المثال (ص64). ولعلّ ممارسة هذه التقنيّة تسلّلت الى الروائي من الشاعر، وهو تسلّل مقبول طالما ان البتر لا يتناول أجزاء مهمة من المشهد السردي.

الى ذلك، قد يعمد الكاتب الى تكرار الواقعة الواحدة في غير صفحة في الرواية، وهو مبرَّر حين يكون السياق مختلفاً بحيث تتكرّر في سياق الذكريات بعدما كانت قد وردت في سياق الوقائع المعيشة. أمّا أن يتمّ التكرار في السياق نفسه فذلك لزوم ما لا يلزم.
على كل حال، عبده وازن في "الفتى الذي أبصر لون الهواء" يحسن الى شريحتين اجتماعيتين على الاقل: الأولى شريحة ذوي الحاجات الخاصة الذين تتناولهم الرواية. والثانية شريحة الفتيان، هذه الفئة العمرية الوسطى بين الأطفال والكبار التي قلما تحظى باهتمام المؤلفين والكتّاب. وهنا، من المفيد أن تزدان مكتبات المدارس التي تحتضن هذه الفئة العمرية بهذا الكتاب، فيدرك الفتيان نعمة البصر، ويقدرون أهميّة البصيرة. وعندها يمكن "الكفيف" فعليّاً أو مجازيّاً أن يبصر لون الهواء.

النهار
26 اكتوبر 2011